د. حمدي بشير

على الرغم من تراجع التوتر في العلاقات المالية–الموريتانية، يبدو أن هذا المسار غير قابل للاستقرار طويلاً؛ ففي 10 ديسمبر 2024، عادت مجموعة "فاجنر" الروسية إلى التصعيد ضد موريتانيا من جديد؛ حيث اعتقلت ستة مدنيين يحملون الجنسية الموريتانية في منطقة حدودية مع مالي، كما دخل عناصرها قرية "لاجداف"، التي تبعد نحو 40 كم عن مقاطعة "باسيكنو" الموريتانية.واللافت في هذا السياق أن هذا التصعيد يأتي في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الدولية والإقليمية تغيرات متسارعة؛ حيث يبدو أن انهيار حكم "الأسد" لا يزال يُلقي بتبعاته على النفوذ الروسي في مناطق أخرى مثل منطقة الساحل الأفريقي، كما يأتي هذا التصعيد بعد مرور شهر تقريباً من زيارة وزير الدفاع الموريتاني "حننه ولد سيدي" إلى فرنسا، في إشارة إلى اهتمام الأخيرة بالحفاظ على وجودها في منطقة الساحل، وهو الأمر الذي لا يزال يثير قلق موسكو على مستقبل نفوذها في منطقة لا تزال تعجُّ بحالة من عدم الاستقرار والهشاشة السياسية والأمنية، وقد ينتقل أي تغيُّر في دولها بسرعة من دولة إلى أخرى، وهو ما يجعل السيناريو السوري قابلاً للتكرار في هذه المنطقة.أهداف منشودة ثمة العديد من الدلالات والرسائل التي يمكن قراءتها من تصعيد "فاجنر" عملياتها ضد موريتانيا في هذا التوقيت، ومن أبرزها:1– ضبط دور موريتانيا في منطقة الساحل في صالح روسيا: تعتبر موريتانيا هي الدولة الوحيدة في منطقة الساحل الأفريقي التي تحافظ على علاقات وطيدة مع حلف الناتو والدول الغربية، في وقت تتبنى فيه سياسة برجماتية وغير واضحة تجاه الوجود الروسي في المنطقة. ويغلب على العلاقات بين موريتانيا ومالي (حليف روسيا) طابع الصراع المكتوم بسبب التوترات المتكررة على الحدود، وهو ما يجعل موسكو قلقة تجاه التحركات الغربية المتنامية لتعزيز التعاون مع موريتانيا، ويجعل هذه الأخيرة حليفاً لخصوم موسكو، ومصدراً محتملاً لتهديد نفوذها في منطقة الساحل.ويُشار في هذا الصدد إلى أن موسكو باتت تتحسب لمحاولات غربية لزعزعة نفوذها في منطقة الساحل على غرار ما حدث في سوريا، ومن ثم يبدو أن موسكو ترغب في توجيه رسائل تحذيرية إلى موريتانيا بعدم الانخراط في مؤامرات دولية أو إقليمية تُحاك ضدها في منطقة الساحل.2– توجيه موسكو رسائل طمأنة إلى النظم الحليفة في المنطقة: يبدو أن موسكو تسعى إلى توجيه رسائل طمأنة إلى حلفائها في منطقة الساحل الأفريقي مفادها أنها قادرة على حماية هذه النظم إذا حاولت القوى المنافسة لها تنفيذ ما أطلقت عليه "مؤامرات إقليمية" لإسقاطهم؛ فقد أبدت دول غرب أفريقيا والساحل الأفريقي اهتماماً متنامياً برغبتها في تعزيز علاقاتها مع موسكو، وطالبت العديد من هذه الدول باريس بسحب قواتها من أراضيها.ويدلل على ذلك ما حدث في أواخر نوفمبر 2024، عندما طالبت السنغال وتشاد فرنسا بسحب قواتها، وهو ما مثَّل ضربة قوية لنفوذ الأخيرة في المنطقة. وقد أثار سقوط "الأسد" في سوريا مخاوف متنامية لدى العديد من النظم الحليفة لموسكو من أن الأخيرة لم تَعُد قادرة على حماية نفوذها؛ لذلك يبدو أن موسكو تعمل على احتواء هذه المخاوف وإظهار قدرتها على حماية حلفائها في منطقة الساحل.3– منع الخصوم من فتح جبهة جديدة ضد روسيا في الساحل: بعد سقوط النظام السوري، زادت مخاوف موسكو من أن يسعى الغرب إلى فتح جبهة جديدة ضدها في منطقة الساحل عبر دعم محاولات لإسقاط الأنظمة الموالية لها؛ إذ ترى موسكو أن سقوط "بشار الأسد" كان نتيجة مؤامرة دولية من خصومها، تهدف إلى تقليص نفوذها في سوريا، وهو ما يزداد تعقيداً في ظل الحرب الروسية–الأوكرانية والتوترات بين روسيا والدول الغربية.وفي هذا السياق، يتزامن التصعيد من قبل مجموعة "فاجنر" ضد موريتانيا مع تعزيز العلاقات بين نواكشوط وباريس، وهو ما تجسَّد في زيارة وزير الدفاع الموريتاني "حننه ولد سيدي" إلى باريس في نوفمبر 2024. ومن خلال هذه التحركات، تسعى موسكو إلى إرسال رسالة إلى فرنسا والدول الغربية وحلف الناتو أنها لن تسمح بتكرار سيناريو سوريا في الساحل، خاصةً إذا سعت باريس إلى إقناع موريتانيا بفتح جبهة ضد مالي قد تؤدي إلى إسقاط النظام المالي؛ ما يعزز دور خصوم روسيا في المنطقة.4– موازنة التحركات الجزائرية في منطقة الساحل: يتزامن التصعيد الحالي مع زيارة الرئيس الجزائري "عبد المجيد تبون" إلى موريتانيا في 10 ديسمبر 2024، وهي زيارة وصفها البعض بالتاريخية؛ إذ تأتي الزيارة في وقت حساس يشهد توتراً متزايداً بين موسكو والجزائر بسبب معارضة الأخيرة لوجود مجموعة "فاجنر" في منطقة الساحل، وموقف الجزائر الرافض لتدخل هذه المجموعة في شمال مالي.كما أن الزيارة تأتي بعد انهيار حكم "بشار الأسد" في سوريا؛ ما يتيح للجزائر استغلال الوضع الدولي والإقليمي الذي تعتبره غير مواتٍ لروسيا لتعزيز مصالحها ودورها في الساحل عبر موريتانيا. وفي ظل هذا التوتر في علاقات الجزائر مع دول الساحل، يبدو أن موسكو تتابع هذه التحركات عن كثب، وتفسر تصعيد "فاجنر" على أنه جزء من رسائل تحذيرية للجزائر، مفادها أن موسكو قادرة على الدفاع عن مصالحها في هذه المنطقة الاستراتيجية.تبعات عديدةمن المتوقع أن يفرض تصعيد "فاجنر" عملياتها ضد موريتانيا تداعيات عدة؛ وذلك على النحو التالي:1– تعزيز الغرب الدعم العسكري والمالي إلى موريتانيا: تُبدِي موريتانيا قلقاً متنامياً تجاه التهديدات والاختراقات التي تمارسها مجموعة "فاجنر" على حدودها مع مالي. ومن ثم، فإن من المتوقع أن تتجه الدول الغربية إلى تقديم مزيد من الدعم العسكري والمالي لموريتانيا، خاصةً في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية المتنامية من مجموعات مسلحة في المنطقة. ويهدف هذا الدعم إلى تعزيز قدرة موريتانيا على التعامل مع هذه التهديدات وحماية استقرارها الداخلي. وقد اتجهت موريتانيا بالفعل إلى زيادة إنفاقها العسكري من أجل تحديث وتعزيز قدراتها الدفاعية، وتوفير الموارد اللازمة للتعامل مع التوترات الإقليمية التي قد تؤثر على أمنها في المستقبل.2– تصاعد دور الأجهزة الاستخباراتية الغربية في الساحل: في ظل التوترات المتزايدة في منطقة الساحل، يتزايد دور الأجهزة الاستخباراتية الغربية، خاصةً الأوكرانية والفرنسية، في التنسيق مع دول المنطقة لتنفيذ عمليات تستهدف مجموعة "فاجنر" الروسية، وهو الدور الذي من المحتمل أن يشهد تصاعداً خلال الفترة القادمة؛ فقد تُقدِّم هذه الأجهزة الدعم أو تسهل العمليات الأمنية التي تستهدف وجود المجموعة في الساحل؛ نظراً إلى التهديد الذي تمثله "فاجنر" على مصالح الغرب في المنطقة.وفي هذا السياق، من المتوقع أن تشجع الأوضاع في سوريا، خاصةً بعد سقوط "الأسد"، الجماعات الراديكالية في الساحل على تنفيذ عمليات مشابهة لتلك التي قامت بها "هيئة تحرير الشام" في سوريا؛ حيث قد تسعى تلك الجماعات إلى إضعاف النفوذ الروسي في المنطقة وإسقاط الأنظمة التي تدعمها موسكو، مثل النظام في مالي. وقد يحدث هذا السيناريو بإيعاز من أجهزة الاستخبارات الدولية النشطة ضد الوجود الروسي في المنطقة؛ حيث قد يكون هناك تنسيق بين هذه الجماعات وأجهزة الاستخبارات الدولية التي تعمل ضد الوجود الروسي في المنطقة.3– تصعيد عمليات الحركات الانفصالية في شمال مالي: من المتوقع أن تقوم الحركات الانفصالية في مالي بتوسيع نطاق عملياتها ضد مجموعة "فاجنر"، خاصةً الحركات الأزوادية التي تسعى إلى تحقيق استقلال شمال مالي؛ فمع تزايد انخراط روسيا في حربها ضد أوكرانيا وتراجع نفوذها في سوريا، يمكن أن تستغل الحركات الانفصالية هذا السياق لصالحها. ومن المحتمل أن تستمر أوكرانيا في تقديم الدعم العسكري واللوجستي لهذه الحركات، بما يعزز قدرتها على مواجهة "فاجنر" في المنطقة، ويدفعها في النهاية إلى الانسحاب من شمال مالي.نقطة استهدافإجمالاً، يمكن القول إن التحولات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد انهيار حكم "الأسد" الموالي لروسيا، لها تداعيات مباشرة على منطقة الساحل الأفريقي؛ حيث تواجه روسيا تحديات متزايدة في منطقة الساحل نتيجةً للتنافس مع خصومها الدوليين، وخاصةً فرنسا التي تعمل بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الأوروبية والأوكرانية لزعزعة استقرار الوجود الروسي في المنطقة.وفي هذا السياق، فإن موريتانيا التي تعمل على تعزيز علاقاتها مع الغرب، أضحت نقطة استهداف لموسكو التي تحاول الحفاظ على نفوذها في الساحل رغم انشغالها بالحرب مع أوكرانيا. ويبدو أن مستقبل النفوذ الروسي في المنطقة سيعتمد على قدرة موسكو على موازنة تكلفة الحرب الأوكرانية مع التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها في الساحل، خاصةً مع الدعم الغربي المتزايد لموريتانيا.

الانعكاسات المتوقعة لتصعيد "فاجنر" ضد موريتانيا