د. محمد عباس ناجي

لم تردّ إيران بعد على الرسالة التي وجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، بشأن إجراء مفاوضات مباشرة حول الملفات الخلافية المختلفة. وربما يكون لـ"تسريبات سيجنال" التي تصاعد الجدل حولها في الآونة الأخيرة دور في هذا الصدد، ولا سيما بعد أن علق عليها وزير الخارجية عباس عراقجي، في 27 مارس 2025، بقوله إنها تزيد من الشكوك الإيرانية في النوايا الأمريكية. لكن في كل الأحوال، يبدو أن الرد الإيراني على رسالة ترامب سوف يتضمن الموافقة على إجراء مفاوضات غير مباشرة. إذ قال عراقجي في هذا الصدد إن طهران منفتحة على هذا الخيار، رافضاً البديل الثاني الخاص بالمفاوضات المباشرة في ظل إصرار الطرف الثاني (الولايات المتحدة الأمريكية) على عدم تغيير مواقفه تجاه إيران، لا سيما فيما يتعلق بتبني سياسة مزدوجة تجمع بين الدبلوماسية والعقوبات في آن واحد، مع التهديد بإمكانية استخدام الخيار العسكري في حالة ما إذا لم يتم التوصل إلى تسوية للخلافات العالقة.أسباب عديدةيمكن تفسير أسباب حرص إيران على تبني خيار المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:1- تجنب إضعاف صورة النظام الإيراني: لا تزال إيران ترى أن التوقيت الحالي لا يوفر لها خيار التفاوض المباشر مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي اتخذ قرار اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 3 يناير 2020. ووفقاً لتلك الرؤية، فإن الخطاب السياسي الذي تبناه النظام الإيراني منذ اغتيال سليماني قام على ضرورة عدم الثقة في الوعود الأمريكية، وعدم التفاوض مع من "لُطِّخت أياديهم بدماء إيرانيين".وهنا، فإن مجرد المسارعة إلى الموافقة على الدعوة التي وجهها الرئيس ترامب بإجراء مفاوضات مباشرة سوف يضعف من صورة النظام في الداخل، ويعزز من قوة الأطراف المناوئة له، والتي بدأت في ممارسة ضغوط أكبر عليه بعد تراجع النفوذ الإقليمي لإيران بفعل المعطيات الاستراتيجية الجديدة التي فرضتها الحرب التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة ولبنان، بداية من 7 أكتوبر 2023، وباتت تتحدث عن قدرتها على ملء الفراغ المحتمل لسقوط النظام على غرار ما حدث مع النظام السوري.2- تبني سياسة كسب الوقت لإتاحة هامش أوسع من المناورة: ترى طهران أن إجراء مفاوضات غير مباشرة من شأنه أن يوفر لها مساحة أكبر من الحركة وهامشاً أوسع من المناورة، مقارنة بالمفاوضات المباشرة. وقد اكتسب هذا الرأي وجاهة أكبر بعد أن نُشرت تقارير عديدة تفيد بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضع مهلة شهرين للوصول إلى صفقة جديدة مع إيران حول الملفات الخلافية، وهو ما ترى إيران أنه لا يتوافق مع مصالحها وحساباتها في كل الأحوال.ووفقاً لذلك، فإن إجراء مفاوضات مباشرة في التوقيت الحالي من شأنه أن يوفر فرصة ثمينة للمفاوض الأمريكي من أجل ممارسة ضغوط غير مسبوقة على المفاوض الإيراني، باستخدام تداعيات الحرب الإسرائيلية في المنطقة، وتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية الداخلية بسبب العقوبات الأمريكية، والتهديد باستخدام الخيار العسكري في حالة الفشل في الوصول إلى صفقة تتضمن تسوية للخلافات العالقة بين الطرفين.ورغم أن هذه الأوراق قد يستخدمها المفاوض الأمريكي حتى في حالة إجراء مفاوضات غير مباشرة، فإن الفرصة ستكون متاحة أمام إيران من أجل كسب مزيد من الوقت، والانخراط في تفاصيل فرعية ومعقدة بعيدة عن صلب المحاور التي يسعى المفاوض الأمريكي إلى وضعها على طاولة المفاوضات.3- الترويج لنجاح النظام في فرض رؤيته: يتمثل السبب الرئيسي الذي دفع إيران إلى الإصرار على رفض خيار المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، في أن ذلك سوف يفسر على أنه "إذعان إيراني" للضغوط والتهديدات الأمريكية، وهو ما ترى القيادة الإيرانية أنه لا يتوافق مع مصالح وحسابات طهران. في حين أنّ موافقة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تبدو متعجلة في إجراء المفاوضات مع إيران، على مطلب الأخيرة بإجراء مفاوضات غير مباشرة سوف يفسر على أنه "إذعان أمريكي" لمطالب وشروط طهران، على نحو سوف تستغله الآلة الإعلامية والسياسية الموالية للنظام للترويج لمزاعم من قبيل نجاح النظام في فرض رؤيته وشروطه على واشنطن، وذلك لتوجيه الانتباه بعيداً عن المأزق الحرج الذي تواجهه إيران حالياً بسبب الخيارات المحدودة المطروحة أمامها للتعامل مع الضغوط والتهديدات التي يفرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. إذ إنها إما أن توافق على إجراء مفاوضات مباشرة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبالتالي تعرض نفسها لخطر الاضطرار إلى تقديم تنازلات نوعية في ملفات نوعية، على غرار البرنامج النووي والصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي، وإما أنها ترفض المفاوضات مع الأخيرة وتغامر باستناد واشنطن وتل أبيب إلى الخيار العسكري في حسم الخلاف حول الملفات المختلفة، في ظل حالة التحفز التي تبدو عليها الأخيرة تحديداً التي تمارس بدورها ضغوطاً على الإدارة الأمريكية من أجل منح الأولوية لهذا الخيار في إدارة التصعيد مع طهران.4- تعزيز موقع وزير الخارجية عباس عراقجي: تتعرض حكومة الرئيس مسعود بزشكيان لضغوط سياسية قوية من جانب تيار المحافظين الأصوليين الذي نجح، في 2 مارس 2025، في الإطاحة بوزير الاقتصاد عبد الناصر همتي بعد سحب الثقة منه في جلسة لمجلس الشورى. كما مارس ضغوطاً من أجل خروج مساعد الرئيس للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف من السلطة، حيث تقدم باستقالته في اليوم التالي لحجب الثقة عن همتي. وفي الواقع، لا يمكن استبعاد أن يكون وزير الخارجية عباس عراقجي من ضمن الوزراء الذين قد يتعرضون لضغوط قوية من جانب مجلس الشورى الإسلامي الذي يهيمن عليه المحافظون الأصوليون. وهنا، فإن ذلك لا يعود إلى الانتقادات التي توجه إلى ملفات السياسة الخارجية الإيرانية، خاصة فيما يتعلق بإدارة العلاقات مع بعض القوى الإقليمية والدولية على غرار تركيا وروسيا، فضلاً عن حماية المصالح الإيرانية في بعض المناطق والدول، وإنما يعود أيضاً إلى أن عباس عراقجي كان أحد الكوادر الرئيسية في وفد التفاوض الإيراني الذي نجح في الوصول إلى الاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، إلى جانب الرئيس الأسبق حسن روحاني، ومساعد الرئيس للشؤون الاستراتيجية السابق وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف، على نحو يبدو أنه دفعه من أجل تحصين موقعه إلى تبني سياسة أكثر تشدداً فيما يتعلق بالمفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان من أوائل المسؤولين الذين سارعوا إلى الرد على دعوة ترامب لإجراء مفاوضات، برفض فكرة التفاوض المباشر تحت تهديد العقوبات والضربة العسكرية، وهو الموقف نفسه الذي تبناه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي ومعظم قادة ومسؤولي النظام.تحول محتملرغم أن إيران ما زالت مصرة على إجراء مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن ذلك قد لا يكون بالضرورة موقفاً نهائياً. إذ إن تصاعد حدة الضغوط التي يمكن أن تمارسها إدارة الرئيس ترامب على إيران، بالتوازي مع تعزيز الوجود العسكري الأمريكي بالمنطقة، يمكن أن يوجه رسالة مباشرة إلى طهران مفادها أن المفاوضات المباشرة سوف تكون هي الخيار الوحيد للحيلولة دون الاستناد إلى الخيار العسكري لتسوية الخلافات العالقة معها. وهنا، فإن النظام الإيراني سوف يعود إلى المقاربة التقليدية التي يتبناها في هذه اللحظة والتي تقضي بـ"التفاوض مع الشيطان من أجل درء شره"، وهي المقاربة التي سيستند إليها داخلياً في تبرير اضطراره إلى إجراء مفاوضات مع "قاتل سليماني".

لماذا تفضل إيران خيار المفاوضات غير المباشرة؟