الإيكونوميست

عرض: د. إيمان عبد الحليم في إطار الجهود الأمريكية التي بُذلت على مدار الأعوام الخمسة الماضية، بهدف تقييد مبيعات التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، فإن تلك الجهود تتواصل وتكتسب دعماً قوياً من جانب الديمقراطيين والجمهوريين على السواء؛ إذ لا يمكن للرئيس الديمقراطي "جو بايدن" أن يبدو خلال عام الانتخابات الرئاسية ضعيفاً في مواجهة بكين، وخصوصاً مع تراجع شعبيته على نحو ملحوظ؛ وذلك بعدما اعتُبر سلفه الجمهوري ومنافسه الرئيسي "دونالد ترامب"، أشد المهاجمين على الصين في الداخل الأمريكي طوال فترة حكمه. وما بين مواقف الرئيس السابق والرئيس الحالي، يسعى صقور واشنطن المناهضون للصين، إلى تكثيف الإجراءات المتخذة بحقها.ولكن مع ذلك، فإن النتائج المتباينة لضوابط التصدير تكشف بوضوح عن العديد من الإشكاليات المرتبطة باتخاذ تدابير أكثر صرامةً ضد الصين، وخاصة مع قدرة بكين على الالتفاف على الضوابط المفروضة، وتوجهها في المقابل نحو إعادة خلق القدرات التكنولوجية اللازمة في الداخل. ومن هذا المنطلق، نشرت مجلة "إيكونوميست"، في 21 يناير 2024، تقريراً حمل عنوان "لماذا تتسرب الضوابط الأمريكية على مبيعات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى الصين؟" وهو التقرير الذي يتناول التعقيدات المتعلقة بفرض ضوابط أمريكية على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.تجاوز القيود عرض التقرير الإشكاليات المرتبطة بتكثيف الضوابط الأمريكية على مبيعات التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، وخاصة المرتبطة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهي الإشكاليات التي حددها فيما يأتي:1- قدرة الصين على تجاوز التكنولوجيا الخاضعة للعقوبات: وجدت الصين طرقاً للالتفاف حول الضوابط المفروضة عليها؛ إذ يمكنها تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي باستخدام أشباه الموصلات ذات التقنية العادية، وليس بالضرورة التكنولوجيا المتقدمة المحظورة، وذلك ما يفسر استياء وزيرة التجارة الأمريكية "جينا رايموندو"؛ فرغم تشديد وزارتها مؤخراً القيود المفروضة على بيع أشباه الموصلات الأمريكية إلى الصين، فإن ذلك لم يَحُل دون بدء شركة Nvidia الأمريكية – التي تمثل شركة تصنيع الرقائق الأكثر قيمة في العالم – وعلى الفور، في تطوير شريحة ذكاء اصطناعي جديدة أقل قوة قليلاً للسوق الصينية، وهي الشريحة التي لن تنطبق عليها القيود؛ وذلك بالرغم من تأكيدات الشركة لـ"رايموندو" أنها تعمل بشكل وثيق مع الحكومة الأمريكية لضمان الامتثال لضوابط التصدير.2- صعوبات حصر كل التطبيقات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي: ومثالاً على ذلك، لا توضح إحصاءات وزارة التجارة الأمريكية بالتفصيل وحدات معالجة الرسومات (GPUs) المستخدمة لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي التي يمكن استخدامها من جانب بكين. ويمكن التعرف على حجم الفجوة التي يسببها ذلك من خلال فحص البيانات المالية لشركة Nvidia، التي تبيع مجموعة من وحدات معالجة الرسومات؛ فقد حصلت الشركة على ما بين 21% و26% من إيراداتها من الصين على مدى الأعوام القليلة الماضية. وفي الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، حصلت الشركة على 8.4 مليار دولار من السوق الصينية، مع الوضع في الاعتبار أن جميع منتجات Nvidia تقريباً يمكن استخدامها في "الذكاء الاصطناعي". بل صرح الرئيس التنفيذي للشركة "جنسن هوانج" بأن شركته ليس من الوارد لديها "اعتزال" الصين، وقام خلال شهر يناير الجاري بزيارته الأولى إلى البلاد منذ أربع سنوات.وحتى إذا كان من المقرر حظر بيع أي شريحة يمكن توظيفها في تقنيات "الذكاء الاصطناعي"، كما تلمح وزيرة التجارة الأمريكية "رايموندو"، التي حذرت Nvidia من إعادة تصميم شريحة تساعد الصين في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، فسيتعين على الولايات المتحدة الأمريكية حينها أن تعمل على تقييد تدفق مجموعة أوسع كثيراً من المعالجات الدقيقة إلى الصين، وهو ما قد يتعثر تنفيذه، وخاصةً أن وزارتها قد استغرقت عاماً كاملاً لإعادة صياغة القيود الخاصة بالبدائل السابقة لشركة Nvidia.3- معضلة مسؤولية شركات الرقائق عن تنفيذ العقوبات: ثمة صعوبة أخرى تواجه الولايات المتحدة مرتبطة بالتنفيذ. صحيح أنه لوزارة التجارة صلاحية معاقبة أي تجاوزات تكتشفها، وقد فرضت في العام الماضي غرامة قدرها 300 مليون دولار على شركة Seagate الشركة المصنعة للأقراص الصلبة، بزعم انتهاكها ضوابط التصدير إلى الصين عن طريق إرسال مكونات إلى شركة "هواوي" Huawei الشركة الصينية الرائدة في مجال التكنولوجيا المدرجة في القائمة الأمريكية السوداء، لكن شركات الرقائق نفسها هي المسؤولة إلى حد كبير عن التنفيذ، ويتضمن ذلك ضمان أن عملاءها لا يمثلون واجهة للكيانات الصينية المحظورة التجارة معها؛ حيث يكون هناك العديد من الأجهزة والتقنيات الصغيرة والمتاحة تجارياً على نطاق واسع، ولا يمكن تمييزها عن التقنيات الخاضعة للرقابة، والموزعة في أنحاء مختلفة من العالم.4- إمكانية إعادة شحن المنتجات المحظورة وتهريبها: مع صعوبات تنفيذ القيود الأمريكية، فإن النتيجة هي وضع مهيأ للتهريب؛ إذ يمكن للشركات في الدول التي لم توقع على نظام مراقبة الصادرات الأمريكي، مثل سنغافورة، شراء الرقائق وإرسالها إلى الكيانات الصينية دون علم الشركات الأمريكية أو وزارة التجارة. وبهذا الصدد، تظهر أحدث أرباح ربع سنوية لـNvidia اعتباراً من عام 2023 أن مبيعاتها إلى سنغافورة نمت بصورة كبيرة خلال الفترة المناظرة من عام 2022، أسرع من كل مبيعاتها إلى الدول الأخرى.5- تنامي قدرة الصين على تطوير تكنولوجيا بديلة: بالرغم من أن أحد الأهداف الرئيسية لواشنطن هو حرمان الصين من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي للأغراض العسكرية على نحو خاص، فإن تلك الضوابط نفسها، التي تعمل على رفع التكاليف التي يتحملها المشترون الصينيون للحصول على رقائق الذكاء الاصطناعي الأمريكية، تعمل أيضاً على مواءمة قطاع التكنولوجيا في الصين مع سياسة حكومتها الرامية إلى تطوير التكنولوجيا المحلية، بعد أن اعتاد عمالقة التكنولوجيا الصينيون في السابق تفضيل شراء التكنولوجيا الأمريكية العالية الجودة على الاستثمار في البحث والتطوير، وهو ما قد تغير الآن.وأوضح دليل على ذلك تقدمه شركة "هواوي" الخاضعة للعقوبات الأمريكية، التي كانت قبل إدراجها على القائمة السوداء، تصنع معالجاتها الدقيقة من قبل شركة TSMC، وهي شركة تايوانية عملاقة لتصنيع الرقائق، قبل أن يتم توسيع ضوابط التصدير الأمريكية لتشمل الشركة التايوانية، وهو ما دفع شركة "هواوي" إلى أن تقوم الآن بالمزيد من الأعمال مع SMIC أكبر شركة لتصنيع الرقائق في الصين. وفيما يُعتقد أن قدرات SMIC متأخرة بسنوات عدة عن قدرات TSMC، لكن في العام الماضي تبين أن الشركة كانت تصنع شريحة ذكاء اصطناعي لشركة "هواوي" تدعى Ascend (وشريحة هاتف ذكي، تدعى Kirin، أثارت دهشة العديد من الغربيين بعد أن أطلقت "هواوي" بشكل غير متوقع هاتفاً يحتوي على الشريحة في سبتمبر).6- توسع الدعم الصيني لشركات الذكاء الاصطناعي: مع تقليص قدرتها على الوصول إلى أشباه الموصلات الأجنبية، تتجه شركات الذكاء الاصطناعي الصينية الآن إلى "هواوي" وSMIC للحصول على الرقائق، وتشجعهما الحكومة الصينية، وتستمر في إغداق الإعانات على الصناعة على أمل إنشاء صناعة تنافس شركة Nvidia وغيرها من الشركات الأمريكية؛ ففي الواقع، أرغمت ضوابط التصدير الصين على تبني إحلال الواردات، وقد توقع مصممو الضوابط الأمريكية بعضاً من هذا؛ ما يفسر استهدافهم أيضاً من البداية التقنيات التي تدعم قدرة الصين على إعادة تطوير التكنولوجيا المتقدمة في الداخل.7- تحديات توسيع الضوابط الأمريكية على أدوات صناعة الرقائق: لا تقيد ضوابط التجارة الأمريكية، تصدير الرقائق نفسها فقط، بل أيضاً الأدوات المستخدمة لتصنيعها، لتعمل على ضم حلفاء مثل هولندا واليابان موطن العديد من صانعي الأدوات، إلى تلك القيود. ولكن كما هو الحال مع الرقائق، تضع سياسات التحكم في الأدوات حدوداً على مدى تطور المعدات التي يمكن بيعها للمشترين الصينيين؛ حيث كان مدى تعقيد الأدوات لكي تخضع للضوابط موضوع نقاش حاد، كما هو الحال مع الرقائق.فعلى سبيل المثال، فإن من بين الآلات المهمة هي تلك المستخدمة لحفر الترانزستورات على رقائق السيليكون؛ حيث يتم تصنيع أحدث المعدات من هذا النوع وبيعها حصرياً بواسطة ASML، وهي شركة هولندية قامت بحظر تلك الآلة إلى الصين بناء على طلب من الحكومة الأمريكية، لكن لا يزال من الممكن أن تبيع الأجيال الأقدم من أدوات الطباعة الحجرية هذه للمشترين الصينيين. وقد نمت مبيعات ASML إلى الصين بشكل كبير خلال العام الماضي، وكذلك مبيعات الشركات التي تنتج أدوات أخرى لصناعة الرقائق. في الربع الأخير، شكلت المبيعات الصينية ما يقرب من نصف إجمالي إيرادات ASML، ويبيع صانعو الأدوات الآخرون أيضاً الكثير من بضاعتهم إلى الصين.تشديد الضوابط&nbsp;مع الوضع في الاعتبار الإشكاليات المرتبطة بتكثيف الضوابط الأمريكية على مبيعات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين، فإن الحملة الأمريكية، وبحسب التقرير، ربما تكون غير فعالة وتؤدي إلى نتائج عكسية؛ فالصين تثبت براعتها في استغلال الثغرات من جهة، وتدفعها القيود إلى خلق صناعة صينية أكثر تطوراً من جهة أخرى، مع الوضع في الاعتبار أيضاً الشكوك التي يثيرها البعض إزاء الافتراض الخاص بأن توازن القوى الاقتصادية والعسكرية سيعتمد في المستقبل على الذكاء الاصطناعي، باعتبارهم أن الأمر مجرد تخمينات.ولكن مع ذلك يبدو من المرجح توجه الولايات المتحدة نحو تشديد ضوابط التصدير على رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين، حسبما وعدت وزيرة التجارة الأمريكية في ديسمبر الماضي. ويكتسب هذا التوجه دعماً خاصاً من المشرعين الجمهوريين، الذين يتطلعون إلى فرض المزيد من الضوابط التوسعية ضد الصين، وخاصة مع رؤية البعض منهم أن التهديد الجديد يأتي من الطرف الآخر من طيف التطور، الذي لا يتعلق بقدرة الصين التقنية العسكرية بقدر ما يتعلق بقوتها الاقتصادية؛ وذلك مع تنامي حاجتها إلى الرقائق بكميات متزايدة بصفتها مكوناً في الكثير من الصناعات؛ بدءاً من السيارات الكهربائية والمضخات الحرارية حتى شبكات الكهرباء. حتى إنه بحلول عام 2027، من الممكن أن تصنع الصين ما يقرب من 40% من أشباه الموصلات، بحسب تقديرات شركة TrendForce للأبحاث.حيث إن ضوابط التصدير الحالية لا تفعل الكثير للحد من هيمنة الصين على هذه الأعمال، التي تستخدم الكثير من التكنولوجيا الأمريكية القديمة؛ لذلك يعمل بعض الجمهوريين في الكونجرس على مشروع قانون سيجبر وزارة التجارة على عزل الصين عن كل تكنولوجيا الرقائق الأمريكية، وليس فقط المواد الأكثر تقدماً. وبالرغم من أن ضمان دعم الحلفاء لمثل هذه السياسة المتطرفة سيكون أمراً صعباً للغاية، وخاصةً مع امتعاض الشركات اليابانية والهولندية وحكومتيها إزاء الضوابط المطبقة اليوم، التي يسهل اختراقها، فإنه إذا عاد "ترامب" إلى السلطة، فمن غير المرجح أن يكون لتراجع الدعم أي أهمية على مواقفه تجاه الصين.المصدر:"Why America’s controls on sales of AI tech to China are so leaky", The Economist, January 21, 2024.

معضلة فاعلية الضغوط الأمريكية على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالصين