أسماء الصفتي

بات فيروس جدري القرود يشكل تحدياً كبيراً للعديد من الدول، وخاصة بعد إعلان منظمة الصحة العالمية تصنيف داء "جدري القردة" حالة طوارئ صحية عالمية؛ وذلك عقب انتشاره بعدد من الدول المجاورة وغير المجاورة لجمهورية الكونغو، وهي بؤرة انتشار الفيروس في الوقت الحالي؛ هذا بالإضافة إلى تصنيف الهيئة الصحية التابعة للاتحاد الأفريقي، أن الجدري حالة طوارئ صحية عامة؛ نتيجةً لتفشيه الواسع في عدد من الدول الأفريقية، وهو ما ينذر بإمكانية اختبار العالم جائحة جديدة خلال عام 2024 في استدعاء محتمل لسيناريو كوفيد–19.مؤشرات التهديدشهد فيروس جدري القرود عدداً من التطورات الهامة التي باتت تمثل تهديداً عالمياً قائماً، وهو الأمر الذي يمكن تناوله على النحو التالي:1- استمرار انتشار الفيروس في الدول الأفريقية: تم اكتشاف جدري القرود، أو ما يعرف حالياً باسم "إم بوكس Mpox" للمرة الأولى خلال عام 1985 عندما انتشر المرض في مستعمرة مخصصة لإجراء الأبحاث على القرود في الدنمارك، إلا أن رصد أول حالة انتقال للمرض من الحيوانات إلى البشر تمت في عام 1970، عندما ظهرت الأعراض على طفل رضيع يبلغ من العمر 9 أشهر فقط. وقد اقتصر انتشار المرض بين البشر على الكونغو الديمقراطية وعدد من الدول الأفريقية المجاورة لها؛ حيث شهدت نيجيريا على سبيل المثال تسجيل مئات الحالات من الإصابة خلال 2007.وفي مايو 2022، سجلت دول خارج أفريقيا حالات مصابة بالجدري. وفي يوليو من ذلك العام، أعلنت منظمة الصحة العالمية الوباء حالة طوارئ صحية عالمية – وهو أعلى تحذير طبي عالمي يمكن أن تعلنه منظمة الصحة العالمية – للمرة الأولى. وفي عام واحد فقط، سجلت أكثر من 10 دول ما يقرب من 90 ألف حالة إصابة بالجدري وأكثر من 150 حالة وفاة. وعلى الرغم من ذلك، أقدمت منظمة الصحة العالمية على إلغاء حالة الطوارئ العالمية للتعاطي مع هذا الفيروس في مايو 2023؛ حيث لم تعد تنظر إليه منظمة الصحة باعتباره حالة طوارئ صحية دولية؛ وذلك على الرغم من استمرار انتشاره ببعض البلدان حول العالم، ولكن بنسب محدودة جداً.2- اتساع دائرة الانتشار الجغرافي للفيروس: لم يعد فيروس جدري القرود قاصراً على بعض الدول الأفريقية، بل بات أكثر انتشاراً من الناحية الجغرافية؛ فقد عادت معدلات العدوى المسجلة على مستوى الكونغو الديمقراطية وعدد من دول العالم إلى الارتفاع خلال مطلع عام 2024؛ حيث وثق تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في يونيو 2024، إصابة 175 حالة في جميع أنحاء أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية؛ هذا بجانب الإبلاغ عن 100 حالة في أوروبا، و11 حالة فقط في جنوب شرق آسيا. وقد انتشر الفيروس بصورة أكبر في أوساط الأفراد داخل الكونغو الديمقراطية (مركز انتشار الفيروس)؛ حيث كشفت التقارير المحلية الصادرة في مايو 2024، عن تسجيل 7851 حالة إصابة بالجدري و384 حالة وفاة.3- تزايد تحذيرات المنظمات الدولية من خطورة الفيروس: شهدت الفترة الأخيرة تزايد تحذيرات المنظمات الدولية من خطورة الفيروس؛ فقد دفعت جميع هذه التطورات الهيئة الصحية التابعة للاتحاد الأفريقي إلى تصنيف الفيروس باعتباره حالة طوارئ صحية عامة في 13 أغسطس 2024؛ حيث حذرت الهيئة من انتشار الفيروس في كل أنحاء القارة الأفريقية، بما في ذلك المناطق المزدحمة بالسكان، مع عدم اقتصار انتشاره على المناطق النائية والريفية كما كان الأمر عليه فيما سبق.&nbsp;وسرعان ما انضمت منظمة الصحة العالمية إلى قائمة المؤسسات المحذرة من انتشار هذا الفيروس؛ حيث أعلنت المنظمة، في 14 أغسطس 2024، للمرة الثانية في تاريخها، داء "جدري القردة" حالة طوارئ صحية عالمية. وعقب يوم واحد من إعلان منظمة الصحة العالمية، كشفت السويد عن وجود حالة مصابة بالداء على أراضيها، لتكون بذلك أول حالة يتم الكشف عنها خارج وسط وشرق أفريقيا خلال العام الحالي.4- خطورة الطفرات الجينية للفيروس: سجلت منظمة الصحة العالمية وجود متحورين رئيسيين مسؤولين عن انتشار جدري القرود. وتتمثل السلالة الأولى (المتحور الأول) في الفيروس "كلايد 1" (Clade I)، وهو ذلك المتحور الذي انتشر بصورة كبيرة في الكونغو الديمقراطية، كما توصف أعراضه بأنها أكثر خطورةً وفتكاً من النوع الثاني "كلايد 2" (Clade II)، الذي انتشر في أكثر من 100 دولة خلال عام 2022، وتسبب في إعلان حالة الطوارئ الأولى المرتبطة بالفيروس، إلا أن الجهات الصحية العالمية قد أكدت أن تطوراً مرتبطاً بالسلالة الأولى من الفيروس – وهو التطور الذي أطلق عليه اسم "كلايد 1 بي" (Clade Ib) – يتسبب بشكل كبير بالإصابات الحديثة بالفيروس؛ فقد تم تسجيل أول حالة إصابة بهذا المتحور في الكونغو الديمقراطية خلال أبريل 2024، كما تم الكشف عن حالات مؤكدة بالإصابة به بكل من أوغندا، وبوروندي، ورواندا، وكينيا. أخيراً، تم الربط بين هذا المتحور وبين الحالة التي تم تسجيلها في السويد خلال أغسطس 2024.تحديات مستقبليةعلى الرغم من رفع العديد من الدول حالة التأهب الصحي القصوى للتعاطي مع الفيروس، فإن بعض الخبراء يقللون من خطورته، ويؤكدون أن تجربة فيروس كورونا لن يتم تكرارها مع الفيروس الحالي. وبوجه عام يتوقف احتمال تحول فيروس جدري القرود إلى جائحة عالمية على غرار كورونا على عدد من العوامل والمحددات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1- مواصلة انتشار الفيروس خارج البؤر التقليدية في أفريقيا: يرى عدد من الخبراء إقدام العديد من هيئات الصحة الدولية والمحلية بإعلان حالة الطوارئ للتعاطي مع هذا الفيروس، بمنزلة انعكاس لحالة القلق العميقة لدى العلماء من أن تفشي جدري القرود، يمكن أن يتطور إلى وباء ينتشر عبر القارة الأفريقية وينتقل خارجها بمعدلات متسارعة، ليتحول بذلك إلى جائحة عالمية وكارثية صحية جديدة على غرار جائحة كورونا.2- صعوبة التنبؤ بمسارات تطور الفيروس الجيني: على الرغم من ظهور جدري القرود على الساحة العالمية منذ فترة طويلة، لا يزال هناك العديد من الأمور المجهولة حول كيفية انتشار الفيروس، وأسباب انتشاره بصورة مفاجئة في جميع أنحاء العالم خلال عام 2022، وعودته إلى التراجع والانحسار خلال عام 2023، وانتشاره مرة أخرى بنسب مرتفعة خلال الفترة الحالية؛ هذا بالإضافة إلى تحوره وشهوده عدداً من الطفرات والتطورات الجينية. وعلى الرغم من أن معظم الطفرات الجينية ليس لها تأثير على الإطلاق، فإن بعضها ساهم في جعل الفيروس أكثر فتكاً وانتشاراً. عندما قارن علماء الوراثة جينوم الجدري لعام 2022 بعينة تم جمعها في عام 2017، وجدوا أن نحو 40 طفرة جينية قد حدثت. اقترح بعض الباحثين أن هذه الطفرات قد حسنت من سهولة انتشار الفيروس من شخص إلى آخر.3- مدى السرعة في انتشار الفيروس: يشكل معدل سرعة الانتشار محدداً مهماً في مدى تحول الفيروس إلى جائحة عالمية على غرار جائحة كورونا. وفي هذا الصدد، يشير تقرير لصحيفة الشرق الأوسط إلى أن جدري القرود ينتشر ببطء شديد على عكس فيروس كورونا؛ فبعد وقت قصير من تحديد فيروس كورونا في الصين، قفز عدد الحالات بشكل كبير من عدة مئات إلى عدة آلاف، في أسبوع واحد في يناير 2020، وزاد عدد الحالات بأكثر من عشرة أضعاف. وبحلول مارس 2020، عندما وصفت منظمة الصحة العالمية (كوفيد-19) بأنه جائحة، كان هناك أكثر من 126 ألف إصابة و4600 حالة وفاة بعد نحو ثلاثة أشهر من تحديد فيروس كورونا لأول مرة. ولكن على خلاف ذلك، استغرق الأمر منذ عام 2022 حتى وصلت حالات الإصابة بجدري القردة إلى ما يقرب من 100 ألف حالة إصابة على مستوى العالم، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.4- قدرة المؤسسات الصحية على التعامل مع الفيروس: تعاني النظم الصحية العالمية من تراجع كبير في قدراتها، خاصة مع الضغوط التي فرضتها جائحة كورونا على هذه المؤسسات؛ هذا بجانب الأزمات المرتبطة بنقص العاملين في القطاع الصحي، وتراجع مخصصات الصحة بصورة عامة. وتبرز هذا المشكلات بصورة خاصة في عدد من الدول الأفريقية التي تعد مركزاً لانتشار الفيروس. واعترافاً بهذا العجز، أعلن الاتحاد الأفريقي عن تخصيص 10.4 مليون دولار من الأموال للاستجابة للجدري، كما وعدت منظمة الصحة العالمية بتقديم 1.45 مليون دولار من أموال الطوارئ لمجابهة الفيروس.5- مدى توافر اللقاحات الفعالة للتصدي للفيروس: تساعد بعض اللقاحات المستخدمة في الوقاية من الجدري في التصدي لوباء جدري القرود؛ فعلى سبيل المثال تم استخدام لقاح "Jynneos"، الذي تصنعه الشركة الدنماركية "Bavarian Nordic"، في بعض حملات الوقاية من جدري القرود في أوروبا وأمريكا عقب الكشف عن حالة مصابة بالفيروس خلال عام 2022؛ هذا بالإضافة إلى لقاح " LC16"، الذي تصنعه الشركة اليابانية "KM Biologics". ولكن تكمن الأزمة الحقيقية في ضعف البنى الصناعية في الدول التي تمثل مركزاً لانتشار الفيروس في الوقت الحالي؛ وذلك على غرار الكونغو الديمقراطية؛ هذا بجانب عدم امتلاك هذه الدول ملايين الدولارات لاستيراد مثل هذه العقاقير من الخارج.6- حدود دعم الدول المتقدمة للدول الأفريقية التي تعاني من انتشار الفيروس: حسبما ذكر سابقاً تواجه الدول الأفريقية التي تعاني من تفشي الفيروس من تحديات هائلة في التعامل مع الفيروس؛ فعلى سبيل المثال، أشار وزير الصحة روجر كامبا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى أن بلاده تحتاج إلى 3.5 مليون جرعة من لقاحات جدري القرود لوقف تفشي الفيروس، وأضاف: "لهذا السبب، من المهم أن نطلب من المجتمع الدولي أن يتحرك ويقول: دعونا نوفر المساعدة، دعونا نقدم الموارد حتى نتمكن من الوصول إلى هذه اللقاحات". وفي هذا الصدد، بادرت بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة بتقديم الدعم التقني والمالي للاستجابة لتفشي الجدري في أفريقيا؛ فخلال الأسبوع الثاني من شهر أغسطس، أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أنها ستخصص 10 ملايين دولار من الأموال لدعم استجابة الجدري في جمهورية الكونغو الديمقراطية.خلاصة القول: تأتي هذه التطورات المقلقة المتعلقة بفيروس جدري القرود، لتؤكد أن ملف الصحة العالمية سيمثل دائماً مصدراً للقلق، بما ينفي إمكانية تجاهل المجتمع الدولي له لصالح التعاطي مع عدد من الملفات الدولية الأخرى الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي؛ وذلك على غرار الصراع في الشرق الأوسط، والحرب الروسية الأوكرانية، والمنافسة بين الولايات المتحدة والصين.

كيف يمكن التعامل مع جائحة "جدري القرود" المحتملة؟