د. حمدي بشير

أتت زيارة الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إلى المجر، في 8 سبتمبر 2024، استجابةً لدعوة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان؛ حيث أعربت بودابست في أكثر من مناسبة عن رغبتها في تعزيز العلاقات الأمنية مع إنجامينا، وهو ما يطرح تساؤلات حول أسباب اهتمام المجر بتعزيز العلاقات الأمنية مع تشاد في هذا التوقيت، وخاصةً في ظل التحولات التي تشهدها منطقة الساحل الأفريقي، وتزايد التنافس الدولي بها.محفزات عديدة ثمة عوامل تقف وراء الاهتمام المجري بتعزيز العلاقات الأمنية مع تشاد، ومن أبرزها:1– تأكيد نهج مستقل ومختلف عن النهج الأوروبي: إذ أكد الانسحاب العسكري الأوروبي من منطقة الساحل فشل المقاربة الأمنية الأوروبية، وهو ما تحاول المجر استثماره وفق رؤية رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يتبع نهجاً مستقلاً عن السياسة الأوروبية بشكل عام؛ إذ يغلب على العلاقات المجرية–الأوروبية في الوقت الحالي حالة من التوتر المتنامي بسبب نهج فيكتور أوربان المعارض لسياسات من يسميهم "نخب بروكسل". وتتجلى أبرز الخلافات في الاتهامات التي تتلقاها بودابست بما يخص هامشها للديمقراطية، بينما يعتبر فيكتور أوربان أن الاتحاد الأوروبي بات ملاذاً لليبراليين واليساريين. وفي هذا السياق، يمكن القول إن اهتمام بودابست بتعزيز العلاقات الأمنية مع تشاد يؤكد التوجه المعارض للسياسة الأوروبية في منطقة الساحل، وإن المجر عازمة على تقديم مقاربة أمنية مختلفة عن الدول الأوروبية في المنطقة.2– تعزيز الحضور الأمني في منطقة الساحل الأفريقي: حيث إن المجر تسعى إلى اتخاذ تشاد نقطة ارتكاز أمنية لتوسيع نفوذها السياسي والأمني في منطقة الساحل، وخاصةً أن تشاد تبدو مستقرةً نسبياً مقارنة بالنيجر ومالي وبوركينافاسو، كما تسعى بودابست إلى استثمار تراجع النفوذ الأوروبي في المنطقة لملء الفراغ، وخاصةً بعد انتقال الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي إليها يوليو 2024، ومن ثم تعمل المجر على تعزيز حضورها في المنطقة، والاستفادة من الإخفاق الأمني الأوروبي لتعزيز التقارب مع دول الساحل.ولعل هذا ما يفسر إعلان بودابست عن استعدادها لنشر 200–400 جندي خلال عام 2024 في مهمة أمنية إلى تشاد، وموافقة البرلمان المجري في نوفمبر 2023 على الاقتراح الذي قدمه وزير الدفاع المجري كريستوف سالاي بوبروفنيتسكي بشأن دور هذه القوات، وهي المهمة الأولى من نوعها في المنطقة بالنسبة إلى المجر التي لم تشارك من قبل في الجهود الأوروبية لمكافحة الإرهاب في المنطقة، فيما يشير مراقبون إلى أنه منذ انتهاء مهمة الناتو في أفغانستان عام 2021، لم يعد لدى الجيش المجري مسرح عمليات يمكنه فيه صقل أسلحته في بيئة محفوفة بالمخاطر إلى حد معقول، ومن ثم أرادت المجر في البداية الانضمام إلى "فرقة تاكوبا" قبل انسحابها من النيجر، لكن هذه المجموعة من القوات انهارت مشاريعها في النيجر بعد انقلاب يوليو 2023، فسعت المجر إلى تعزيز حضورها العسكري من خلال تشاد.3– دعم التعاون الأمني في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية: يشير مراقبون إلى أن ثمة خلافاً بين بودابست وباقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالهجرة؛ حيث تتبنى حكومة فيكتور أوربان أفكاراً يمينية ضد المهاجرين، وتتهم الاتحاد الأوروبي بالتقاعس عن منع الهجرة غير النظامية من المنبع.وفي هذا السياق، وافقت الحكومة المجرية على إنشاء برنامج مساعدة معقد، يشمل عناصر اقتصادية وإنسانية واجتماعية من أجل مساعدة السلطات التشادية على إدامة استقرار البلاد بشكل مستدام، والمساهمة في وقف الهجرة غير الشرعية. ويشير بعض الخبراء إلى أن المجر لا تضع في اعتبارها سوى مصالحها الخاصة، وأن الوجود المجري في تشاد يمكن تفسيره بسهولة برغبة المجر في تقليل عدد اللاجئين المفروض عليها من قبل الاتحاد الأوروبي. وتشير تقارير دولية إلى أن تشاد موطن لأكبر عدد من اللاجئين في العالم رغم أن ثلث مواطنيها في حاجة إلى مساعدات إنسانية، وهو ما يُوجِب على المجر دعم الحكومة التشادية الحالية واستقرارها.4– استثمار الاهتمام التشادي بتنويع الشراكات الأمنية: حيث دعا الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، الحكومة المجرية، خلال زيارته إلى بودابست، في 8 سبتمبر 2024، إلى نشر قوة عسكرية في بلاده، علاوة على اهتمام تشاد بتعزيز التعاون العسكري مع المجر، لا سيما الحصول على الوسائل التقنية والأسلحة والمعدات اللازمة للجيش التشادي، والحصول على الخدمات الاستشارية والدعم والإشراف في شؤون العمليات العسكرية. وقد أكدت وزارة الدفاع المجرية أن مهمة البعثة العسكرية المجرية ستكون مستندةً إلى طلب السلطات التشادية، وسيتم ذلك في إطار تعزيز اتفاقيات التعاون المشترك بين تشاد والمجر، خاصة في الجوانب الدبلوماسية والإنسانية والدفاعية.تداعيات عديدةمن المتوقع أن يكون لهذه التحركات الأمنية المجرية تداعياتها على التفاعلات الدولية ومنطقة الساحل على النحو التالي:1– تنامي التوتر والانقسام داخل الاتحاد الأوروبي: فبرغم أن المجر تتولى في الوقت الحالي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، فإن العلاقات المجرية–الأوروبية تشهد حالة من التوتر المتنامي على خلفية زيارة رئيس الوزراء المجري إلى روسيا في يوليو 2024، وبسبب السياسة الخارجية التي تتبعها بودابست، سواء كان ذلك على صعيد الحرب الروسية–الأوكرانية أو منطقة الساحل، اتخذت بودابست موقفاً معارضاً خلال مفاوضات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي في يونيو 2024، كما عارضت المجر في وقت سابق قرار الاتحاد الأوروبي بصرف 1.4 مليار يورو من فوائد الأصول الروسية المجمدة لصالح أوكرانيا، واستعملت حق النقض أكثر من مرة لوقف المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا.كما خرجت المجر عن الإجماع الأوروبي المؤيد لدعم حلف الناتو للقوات الأوكرانية، ورفض المشاركة في تسليح وتدريب أوكرانيا لمواجهة القوات الروسية. ومن ثم، فإن توجه المجر إلى نشر قواتها في تشاد بدون تنسيق مع فرنسا التي لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في هذه البلاد مع الاحتفاظ بـ300 جندي فقط في تشاد مقارنةً بـ1000 جندي حالياً، قد يزيد من حدة التوترات والتنافس بين فرنسا والمجر في تشاد.2– تعزيز التعاون بين المجر وروسيا في منطقة الساحل: فلعل هذا ما يثير مخاوف الدول الأوروبية من أن بودابست تتصرف نيابةً عن روسيا؛ ما دفع المجر إلى نفيها "تمثيل مصالح موسكو أو أي مصلحة أجنبية أخرى"، عبر مبعوثها الخاص إلى منطقة الساحل لازلو ماتي. ومع ذلك، كشفت العديد من تقارير الرصد الدولية عن استعداد المجر لتعاون أوثق مع روسيا، وأكدت انخراط جاسبار أوربان نجل رئيس الوزراء فيكتور أوربان، بشكل كبير في تعزيز الاتصالات مع تشاد، كما ظهرت تفاصيل أخرى حول مساعدة أوربان الابن لوالده بشكل خاص في إنشاء مجموعة استشارية جديدة للأمن القومي. وقد ظهرت هذه المعلومات وسط تزايد نشاط روسيا في تشاد.ويشير اتجاه في الكتابات إلى أن المجر من الممكن أن تعمل على تطوير مركز استخبارات عسكرية في تشاد، والمرجح أن يخدم مصالح روسيا. علاوةً على أن أوربان حريص على الوصول إلى رواسب اليورانيوم. وقد يكون ذلك مرتبطاً بمشروع الطاقة النووية في بودابست، الذي تنفذه روسيا. وقد رفضت بودابست تأييد العقوبات المفروضة على روساتوم؛ لذلك من المرجح أن تساعد المجر روسيا في التسلل إلى تشاد للسيطرة على رواسب اليورانيوم وتقييد وصول الشركات الفرنسية. وهذا يتماشى مع خطط الكرملين لإخراج فرنسا من أفريقيا. وعلاوةً على ذلك، فإن جاسبار أوربان لم يزر تشاد عام 2024 فحسب، بل زار النيجر أيضاً، التي تتميز أيضاً برواسب اليورانيوم؛ حيث يحتفظ المجلس العسكري المدعوم من روسيا بالسلطة.3– تصاعد ضغوط المعارضة الداخلية المجرية: حيث تندد المعارضة بدور البعثة العسكرية المجرية في تشاد وتتهم الحكومة المجرية بـ"إهدار المال" في عملية عسكرية غير مجدية، علاوة على زيادة الانتقادات داخل الجيش لهذه العملية، بالإضافة إلى تصاعد انتقادات التيارات المعارضة المجرية للدور الذي لعبه جاسبار أوربان الابن الوحيد لرئيس الوزراء المجري الذي شارك سراً في المفاوضات في إنجامينا، وتعيينه رسمياً "وكيل اتصال للمساعدة في إعداد المهمة في تشاد". علاوةً على التحديات الفنية والمالية التي تواجه دور هذه البعثة العسكرية، وتجعلها محل نقد مستمر من جانب المعارضة.4– زيادة انخراط المجر في صراعات الداخل التشادي: حيث يشير مراقبون إلى أنه على الرغم من أن دور البعثة العسكرية المجرية سوف ينصبُّ على مكافحة الإرهاب، وتقديم المساعدات الإنسانية، وتقديم المساعدة الأمنية في مجال مكافحة الهجرة، فإن الصراعات والانقسامات السياسية الداخلية، وخاصةً بين الرئيس محمد إدريس ديبي ومنافسيه داخل الأسرة الحاكمة، قد تدفع الرئيس التشادي إلى طلب المساعدة من المجر ضد خصومه في الداخل، ناهيك عن استمرار التوترات، وعدم التوصل إلى اتفاق سلام بين النظام التشادي والجماعات المسلحة التشادية في الخارج، التي تجعل النظام التشادي في مواجهة تهديدات أمنية عديدة، وهو ما يفرض على هذه البعثة المجرية تحدياً كبيراً قد يؤثر على مستقبلها ودورها في تشاد.صياغة تحالفاتوإجمالاً، يمكن القول إن الانخراط الأمني والعسكري للمجر في منطقة الساحل، يعيد صياغة التحالفات والتفاعلات السياسية في المنطقة، من خلال انخراط فاعل جديد، وربما حليف أكثر لروسيا والصين في المنطقة؛ ما يضع المنطقة أمام سيناريوهات جديدة، وربما يدفع إلى زيادة انخراط أوكرانيا عسكرياً بدرجة أكبر في المنطقة، وهو في الوقت نفسه يعبر عن حالة من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي ربما تتزايد وتيرتها بسبب الخلافات الأوروبية المتزايدة حيال التعامل مع الأزمة في أوكرانيا أو حتى الأزمة في منطقة الساحل الأفريقي.لذلك من المتوقع أن تعمل المجر، خلال الفترة القادمة، على تعزيز حضورها في دول أخرى في منطقة الساحل الأفريقي، وخاصةً النيجر ومالي وبوركينافاسو، ولا سيما أن المجر لا تبدي أي تحفظات أو معارضة للوجود العسكري الروسي من خلال فاجنر في هذه الدول، غير أن القدرات التمويلية المحدودة لتوسيع وجودها العسكري قد يدفعها أكثر نحو تنسيق سياستها مع روسيا في المنطقة، وربما نشر عدد صغير من الجنود في دول محددة.

لماذا تتجه المجر نحو تعزيز علاقاتها الأمنية مع تشاد؟