د. يوسف داوود

جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية في يونيو 2024 – وهي الأولى له منذ عام 2000 – لتشير بوضوح إلى الرغبة المشتركة في التعزيز المستمر للعلاقات الثنائية. وقد أحاطت بهذه الزيارة تكهنات عدة حول دلالاتها والمخرجات المتوقعة منها؛ ففي حين قصرها البعض حول بعض الأهداف المرحلية المتعلقة بالوضع الراهن في القارة الأوروبية، نظر إليها البعض الآخر بصفتها خطوة في طريق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وهي الخطوة التي تبلورت بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين. هذا ويدل على هذا التقارب الملحوظ كون الزيارة هي الثانية التي يلتقي فيها بوتين وكيم في أقل من عام (التقى الزعيمان آخر مرة في سبتمبر 2023 في روسيا).دلالات رئيسيةحملت الزيارة المُشار إليها عدة دلالات بالنسبة إلى كل من موسكو وبيونج يانج، بالإضافة إلى انعكاساتها على الوضع الدولي والإقليمي، ولعل أهم هذه الدلالات:1– رغبة موسكو في تأمين الدعم العسكري الكوري الشمالي في حرب أوكرانيا: كثف بوتين اتصالاته بالزعيم الكوري الشمالي "كيم جونج أون" عام 2023 مع تضاؤل ​​مخزوناته من الأسلحة والذخائر على إثر الحرب الدائرة في أوكرانيا. ونتيجة لهذا التقارب، تدفقت الذخائر والصواريخ، بحسب العديد من التقارير، من بيونج يانج إلى موسكو منذ القمة التاريخية بين الزعيمين في سبتمبر 2023؛ وذلك بالرغم من نفي روسيا وكوريا الشمالية رسمياً حدوث عمليات نقل الأسلحة المُشار إليها.في السياق ذاته، يسهم هذا اللقاء بشكل أساسي في تأمين روسيا للدعم الكوري الشمالي في ظل عدم توقع حسم الحرب ميدانياً خلال الأشهر القليلة المقبلة، وفي ظل زيادة الدعم الغربي لأوكرانيا رغم النجاحات الروسية التكتيكية على أرض المعركة. بالنسبة إلى كوريا الشمالية، يمكِّنها استخدام أسلحتها في الساحة الأوكرانية من الحصول على معلومات استخباراتية واقعية حول أداء أسلحتها ومساعدتها على زيادة الصادرات على نطاق أوسع بتحسين قدرتها التدميرية.2– استهداف بيونج يانج جذب مزيد من الدعم الروسي في مواجهة خصومها: تأتي الزيارة أيضاً في الوقت الذي اعترضت فيه كوريا الشمالية على التعاون الأمني ​​المتزايد بين الولايات المتحدة وحلفائها كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا؛ ما أدى إلى تصاعد حدة خطاب الأولى وتعزيز برنامج أسلحتها النووية وتجاربها الصاروخية. وقد ارتفعت مخاوف بيونج يانج مع بدء الزيارات المتبادلة لأطقم البحرية الأمريكية والأسترالية في إطار ما يعرف باسم شراكة AUKUS لتزويد أستراليا بغواصات مسلحة تقليدياً تعمل بالدفع النووي، فضلاً عن زيادة المناورات البحرية الأمريكية الكورية الجنوبية على سواحل الأخيرة، ناهيك عن الانخراط مع اليابان في صفقة صواريخ باتريوت تدعم المجهود الحربي الغربي في أوكرانيا.3– تطلع بيونج يانج لاستكمال الدعم الروسي في مجال المواد الغذائية والتكنولوجيا: بالرغم من أنه لا يُعرف سوى القليل بشكل رسمي عما حصلت عليه بيونج يانج حتى الآن في مقابل الدعم العسكري لروسيا، فإن بعض المصادر أوضحت أن كوريا الشمالية تتلقى شحنات من المواد الغذائية وغيرها من السلع الضرورية من روسيا في المقابل، ومنها الوقود. بالتوازي مع ذلك، تسعى أيضاً كوريا الشمالية إلى تطوير برامجها الفضائية والصاروخية والنووية، وأبدى بوتين استعداده لمساعدة كوريا الشمالية في تطوير برنامجها الفضائي والأقمار الصناعية خلال اجتماع سبتمبر 2023، الذي انعقد في منشأة لإطلاق الصواريخ.4– سعي بيونج يانج للالتفاف على منظومة العقوبات الأممية: تأتي هذه الزيارة كذلك في ظل سعى كوريا الشمالية إلى زيادة صادرات العمالة إلى روسيا، والقيام بأنشطة أخرى للحصول على العملات الأجنبية، في تحدٍّ لعقوبات الأمم المتحدة. وقال المعهد إنه من المرجح أن تكون هناك محادثات حول توسيع التعاون في الزراعة ومصايد الأسماك والتعدين ومواصلة الترويج للسياحة الروسية إلى كوريا الشمالية، بهدف تمكين كوريا الشمالية من الالتفاف علي العقوبات الأممية.5– بعث رسائل إلى الغرب بصلابة الجبهة المضادة وقدرتها على تهديد البنية العالمية: مثلت الزيارة خطوة مهمة بين البلدين نحو شراكة مبنية على العداء المشترك للغرب وحلفائه، وهي الشراكة التي تعمل على تمكين الزعيمين وتعميق خطوط الصدع العالمية، في رسالة ضمنية بوجود ثغرات في النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة، وأن هذه الثغرات بمقدورها التحول إلى مهددات لاستقرار البنية العالمية. هذا وقد سبق أن صرح الرئيس الروسي بأنه مع نظيره الكوري "سيشكلان بنية الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوراسيا"، كما تأتي الزيارة في أعقاب اجتماع بوتين مع الحليف الوثيق الزعيم الصيني "شي جين بينج" الشهر الماضي لموازنة قمة مجموعة السبع في إيطاليا التي أظهرت دعماً كبيراً لأوكرانيا.تقارب المصالحنتج عن هذه القمة مخرج رئيسي يتمثل في توقيع اتفاق شراكة استراتيجية ومساعدة مشتركة بين البلدين في حالة تعرض أيٍّ منهما لهجوم مسلح، إلا أن هناك مجموعة من النتائج المحتملة التي قد تترتب على رفع مستوى التنسيق بينهما لهذه الدرجة. هذا وتتمثل أهم المخرجات الفعلية والمحتملة من وراء الزيارة في الآتي:1– إبرام اتفاق شراكة استراتيجية شاملة بين الدولتين: وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، الأربعاء 19 يونيو 2024، اتفاقاً للشراكة الاستراتيجية الشاملة، يتعهدان فيه بتقديم المساعدة المتبادلة إذا واجه أيٌّ من البلدين "عدواناً"، وهو اتفاق استراتيجي يأتي في الوقت الذي يواجه فيه الطرفان مواجهات متصاعدة مع الغرب. ولم تتضح تفاصيل الاتفاق على الفور، لكنه قد يمثل أقوى محفز للعلاقة بين موسكو وبيونج يانج منذ نهاية الحرب الباردة. ووصف الزعيمان هذه الخطوة بأنها ترقية كبيرة لعلاقاتهما.2– احتمال إبرام صفقات فرعية للتعاون في مجالات فنية محددة: بالرغم من عدم وضوح تفاصيل الاتفاق المشار إليه، فإن تصريحات الرئيسين بتعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية والإنسانية بين البلدين ترجح إبرام صفقات أخرى أو إصدار وعود شفهية بتعزيز التعاون في مجالات أخرى، كما نشر موقع الكرملين على الإنترنت أن الرئيسين قد وقعا أيضاً اتفاقاً لبناء جسر بري على حدودهما، وآخر بشأن التعاون في مجال الرعاية الصحية والتعليم الطبي والعلوم.3– التوسع المحتمل في التعاون العسكري الفني بين جيشي البلدين: في حين لم يتم الإعلان عن البنود العسكرية في اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الروسية–الكورية الشمالية، سوى ما يتعلق بالدفاع المشترك وتقديم المساعدة المتبادلة في حالات العدوان الخارجي، فإن من المحتمل أن تتضمن بنود الاتفاقية ما يرتبط بتعزيز التعاون العسكري الفني بين جيشي البلدين؛ حيث لم يستبعد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" حدوث تعاون عسكري فني مع بيونج يانج مثلما تفعل دول الغرب بعضها مع بعض، قائلاً إن "موسكو لا تستبعد تعاوناً عسكرياً فنياً مع كوريا الشمالية فيما يتعلق بالمعاهدة التي تم التوقيع عليها".4– احتمالات إثارة شكوك بكين بشأن التقارب الروسي الكوري: بالرغم من العلاقة الوثيقة بين روسيا والصين من جهة وكوريا الشمالية والصين من جهة أخرى، فإن بكين قد تكون غير مستكينة لرؤية حليفتها كوريا الشمالية تقترب إلى هذا الحد من موسكو فتقلل من نفوذ بكين على كيم. وقد يمنح ذلك بكين وواشنطن بعض المصالح المتداخلة في الحد من العلاقة بين روسيا وكوريا الشمالية بصورة قد تؤدي إلى نتائج عكسية على هذا التقارب الروسي الكوري الشمالي "المفرط".5– ارتباط مستقبل التقارب الروسي الكوري بمسار الحرب الأوكرانية: عكس توقيت هذا التقارب الاستثنائي الأهمية البالغة التي تحظى بها الحرب الأوكرانية في هذه المعادلة؛ لذلك ستكون العلاقة بين مسار هذه الحرب والتقارب المشار إليه موضع اهتمام المتابعين؛ فإذا استمرت الحرب لسنوات قادمة، فإن ذلك من شأنه أن يزيد من اعتماد روسيا على كوريا الشمالية لإنتاج الذخائر ويجعل بوتين أكثر استعداداً لتقاسم التكنولوجيات الحساسة. ولكن إذا انتهت الحرب في أوكرانيا، فقد تقل حاجة روسيا إلى كوريا الشمالية، وإذا حدث ذلك، فإن روسيا – سواء كان يحكمها بوتين أو من يخلفه – قد تسعى إلى إصلاح علاقاتها مع الغرب، وستجد أن التعامل مع الشركاء الاقتصاديين الغربيين أكثر ربحيةً من التعامل مع دولة فقيرة منبوذة مثل كوريا الشمالية.6– دفع الولايات المتحدة لتعزيز التحالف مع شركائها الآسيويين: من المتوقع أن تتجه الولايات المتحدة لتعزيز تحالفها الثلاثي الحديث مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية كثقل موازن ورادع للمحور المتنامي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية. وإن كان بالفعل قد تم إنجاز الكثير في إطار هذا التحالف، ولكن لا يزال هناك ما يمكن القيام به لمواجهة المحور الآخر، بما في ذلك تعزيز التعاون في مجال الاتصالات، ونقل البيانات، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتوصل إلى اتفاق الدفاع الصاروخي، وإجراء تدريبات عسكرية أكثر تنوعاً.الخلاصة: بالرغم من اتفاق المساعدة المتبادلة في حالة العدوان، فإن تقييم هذه الزيارة على مؤشر التقارب المؤقت أو الشراكة الاستراتيجية يرتكن في الأساس على تقييم درجة تقاسم روسيا لتكنولوجياتها العسكرية الحساسة مع كوريا الشمالية، فضلاً عن درجة "المساعدة" المتوقعة حال حدوث عدوان، كما تشير التقديرات إلى أن مسار العلاقات الروسية–الكورية الشمالية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمتغير الحرب الروسية الأوكرانية.

دلالات زيارة الرئيس الروسي "بوتين" إلى كوريا الشمالية