وقَّعت تركيا والصومال، في 8 فبراير 2024، على "الاتفاق الإطاري للتعاون الدفاعي والاقتصادي ومكافحة الإرهاب" لتعزيز التعاون الأمني بينهما؛ وذلك خلال زيارة وزير الدفاع الصومالي إلى أنقرة؛ حيث وصف الاتفاق بالتاريخي؛ لكونه يشمل جوانب مختلفة عسكرية واقتصادية وإنسانية، ويحمل توقيته دلالات هامة؛ حيث يأتي بعد مرور شهر تقريباً على اتفاق بين إثيوبيا وحكومة "أرض الصومال"، يقضي بتأجير أديس أبابا ميناء "بربرة" من الثانية لإيجاد منفذ لها على البحر الأحمر، وهو ما رفضته مقديشو وأنقرة؛ بوصفه "اعتداءً مباشراً على سيادة الصومال، ويهدد بتأجيج الأوضاع وعدم الاستقرار بمنطقة القرن الأفريقي"؛ ولذا يجدد الاتفاق الأمني بين أنقرة ومقديشو الدعم التركي للصومال الذي يستضيف قاعدة عسكرية تركية في مواجهة التهديدات الإثيوبية له، ويعزز الدور التركي في القرن الأفريقي في ظل المتغيرات الجيوسياسية الراهنة.

دلالات متعددة

بدأت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والصومال عام 1979، ومثَّلت زيارة رئيس الوزراء التركي آنذاك "رجب طيب أردوغان" عام 2011 إلى مقديشو، خلال المجاعة التي تعرضت لها، نقطة تحول في تاريخ العلاقات بينهما؛ حيث كانت أول زيارة لمسؤول أجنبي رفيع إلى البلاد منذ عقدين. وفي هذا الصدد، يستدعي الاتفاق الأخير بين الصومال وتركيا عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– استهداف الاتفاق توسيع التعاون العسكري بين الدولتين: استقبل وزير الدفاع التركي "يشار جولر"، يوم 8 فبراير الحالي، نظيره الصومالي "عبد القادر محمد نور" بأنقرة، ووقَّعا على "الاتفاق الإطاري للتعاون الدفاعي والاقتصادي ومكافحة الإرهاب"، وبحثا القضايا الإقليمية، واتفقا على العمل معاً من أجل السلام والأمن في أفريقيا. وأوضح "جولر" أن "الاتفاق سيزيد من تحسين العلاقات العسكرية الثنائية بين الدولتين؛ لأن الصومال شريك مهم لتركيا في أفريقيا"، وجدد دعم أنقرة لسلامة أراضي الدولة الأفريقية وسيادتها. وأشار "نور" إلى أن "الاتفاق يتضمن التعاون في مكافحة الإرهاب والتعاون العسكري المالي، وسيدعم الصومال بدرجة كبيرة".

والاتفاق لم يعلن عن بنوده بشكل مفصل؛ نظراً إلى أنه سيخضع للعرض على البرلمانين التركي والصومالي للموافقة عليه، وسيغطي جوانب مختلفة، مثل التدريبات العسكرية المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتعاون ضد الإرهاب، وسيتضمن استمرار الدعم التركي للصومال، وتقديم التدريب والمعدات للقوات المسلحة الصومالية، وتدريب "كتائب جرجور" التي تعد النواة للجيش الصومالي، فضلاً عن المساعدة في إعادة إعمار وتنمية البلاد، وكذلك تقديم المساعدات الإنسانية، وسيؤدي إلى توسيع دائرة التعاون العسكري والتدريب التركي للجيش الصومالي، وبناء القدرات الدفاعية والأمنية للأجهزة الأمنية بمقديشو للاستعداد لتولي مسؤولية أمن البلاد بالكامل بعد مغادرة قوات "حفظ السلام" الأفريقية نهاية العام الحالي.

2– تأكيد أهمية الصومال الاستراتيجية لتركيا: يتمتع الصومال بموقع استراتيجي هام بمنطقة القرن الأفريقي، وتطل سواحله على البحر الأحمر، وتمتد إلى المحيط الهندي وخليج عدن لتتحكم في مدخل مضيق "باب المندب" الذي يمر من خلاله حوالي 5 ملايين برميل نفط يومياً، وتمتد حدوده إلى إثيوبيا غرباً لترتبط بوسط أفريقيا؛ ولذا مثَّل الصومال مكانة هامة في الاستراتيجية التركية الهادفة إلى تعزيز مكانة أنقرة في القارة الأفريقية عامة والقرن الأفريقي والبحر الأحمر خاصة، وقد استغلت مقديشو ذلك للحصول على مساعدات تركية في شتى المجالات؛ فمنذ عام 2011 ركزت أنقرة جهودها في الصومال وقدمت دعماً إنسانياً اقتصادياً له لمواجهة المجاعة، وبلغ حجم المساعدات التركية للصومال في كافة المجالات منذ ذلك الحين نحو مليار دولار.

كما وقَّعت أنقرة عام 2020 اتفاقية للتنقيب عن الغاز والبترول في المياه الصومالية، وهو ما يسد الفجوة لأنقرة التي تعتمد على استيراد موارد الطاقة، كما توسطت أنقرة بين الصومال وكينيا للتوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية المشتركة بينهما، وأنشأت أنقرة قاعدة فضائية في الصومال بكلفة 350 مليون دولار لإطلاق الأقمار الصناعية منها؛ لقرب الصومال من خط الاستواء. وتعد البعثة الدبلوماسية التركية في الصومال هي أكبر بعثة دبلوماسية بالخارج؛ الأمر الذي عزز الدور التركي بأفريقيا خلال العقد الماضي في مواجهة التنافس مع عدد من القوى الإقليمية والدولية الفاعلة بالمنطقة.

3– استكمال مسار الوجود العسكري التركي بالصومال: شاركت تركيا عام 1993 في قوات حفظ السلام الأممية خلال الحرب الأهلية بالصومال. وفي عام 2017 افتتحت تركيا قاعدة عسكرية لها في الصومال بالقرب من مطار "مقديشو" على ساحل المحيط الهندي، تبلغ مساحتها (4 كم²) بتكلفة 50 مليون دولار، وتضم ثلاث مدارس عسكرية، ومخازن للأسلحة والذخيرة، ومباني سكنية، وهي قادرة على استقبال قطع بحرية وطائرات عسكرية بجانب قوات كوماندوز، وتُعد أكبر قاعدة عسكرية تركية بالخارج، وأعلنت أنقرة أن الهدف منها مساعدة الصومال في إعادة بناء جيش قوي قادر على مواجهة الحركات الإرهابية، مثل "حركة الشباب الإسلامية"، وخدمة الشعب الصومالي ودعمه. والقاعدة بها (200) ضابط تركي مهمتهم تدريب أفراد الجيش الصومالي، وحتى الآن دربت القاعدة 10 آلاف جندي صومالي. وتقوم تركيا أيضاً بتوريد الأسلحة اللازمة لوحدات الجيش الصومالي التي تتولى تدريبها؛ ما يترتب عليه توسيع سوق الأسلحة التركية الصنع. وتمثل القاعدة موطئ قدم لأنقرة على المدخل الشرقي الاستراتيجي إلى البحر الأحمر.

4– مراهنة مقديشو على الدعم التركي: أجرى الرئيس الصومالي "حسن شيخ محمود" زيارة هامة إلى أنقرة في نهاية أكتوبر 2023 التقى خلالها نظيره التركي "رجب طيب أردوغان" الذي أكد أن "استقرار وأمن الصومال لهما أهمية بالغة بالنسبة إلى أمن القارة الأفريقية بأكملها"، وجدد دعم أنقرة للصومال في محاربة الإرهاب وإعادة الإعمار، وكشف أن حجم التبادل التجاري بين أنقرة ومقديشو ارتفع بنسبة (31%) ليسجل 363 مليون دولار سنوياً. وأكد "محمود" أن "الصومال يَعتبر تركيا شريكاً وصديقاً هاماً له"، وثمن دعمها لمقديشو في حربها ضد الإرهاب، وأعلن نهاية المرحلة الأولى منها بتحرير أكثر من 80 بلدة من الإرهابيين. واتفق الرئيسان على تفعيل دور الحكومة التركية في الأمن وبناء الدولة والاستثمار في الصومال.

جدير بالذكر أن تركيا تدير عدد من الموانئ البحرية والجوية الرئيسية في مقديشو؛ حيث بنت وأدارت مطار مقديشو، وهذا يوفر 80% من عائدات الحكومة الصومالية. وتولت الشركات التركية إعادة الإعمار، وتطوير وصيانة البنية التحتية في مقديشو، وبناء مشاريع تكنولوجية جديدة، كما اهتمت أنقرة بتقديم مساعدات ثقافية لبناء المدارس والمساجد وترميم الآثار العثمانية بالصومال.

5– رفض تركي لاتفاقية أرض الصومال مع إثيوبيا: أجرى الرئيس الصومالي "شيخ محمود" اتصالاً هاتفياً، في 5 يناير الماضي، بنظيره التركي الذي دعا إلى إنهاء "التوتر المثير للقلق بين الصومال وإثيوبيا على أساس وحدة أراضي الصومال"، وأكد أن "تركيا تدعم الصومال في حربه ضد الإرهاب"، وأن "التعاون بين البلدين سيستمر تدريجياً"، كما أصدرت تركيا بياناً يؤكد رفضها واستنكارها الشديدين لمذكرة التفاهم التي وقَّعتها إثيوبيا مع حكومة أرض الصومال في مطلع يناير الماضي لأنها "اعتداء على حقوق ومصالح الشعب الصومالي، كما تتعارض مع القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار، وجددت التزامها الثابت بوحدة وسيادة وسلامة أراضي جمهورية الصومال الفيدرالية".

ودعت تركيا للتوصل إلى حل سلمي ودائم للنزاعات بين الصومال و"أرض الصومال" من خلال الحوار المباشر والمفاوضات. وتؤكد أنقرة أنها افتتحت قنصلية عامة لها في إقليم أرض الصومال ذي الحكم الذاتي، بيد أنها لا تعترف به دولةً مستقلةً.

تداعيات محتملة

يحمل الاتفاق الإطاري بين تركيا والصومال أهمية بالغة، وتتعدى تداعياته حدود الدولتين؛ نظراً إلى توقيته الذي يتزامن مع تغيرات إقليمية جيوسياسية؛ منها الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال، والإعداد لانسحاب قوات حفظ السلام الأفريقية من الصومال، ومن تلك التداعيات ما يلي:

1– المساهمة في إعادة بناء الجيش الصومالي: سيمثل الاتفاق الإطاري فرصة لتعزيز الوجود العسكري التركي في مقديشو، وستستكمل أنقرة تقديم مساعداتها العسكرية لإعادة بناء الجيش الصومالي وتعزيز قدراته القتالية، وتقديم مختلف الأسلحة له، ويمكن أن تشمل الطائرات المسيرة التركية (البيرقدار) التي حققت انتشاراً واسعاً خلال العامين الماضيين. وهذا سيؤدي إلى رفع قدرات الجيش الصومالي ليتولى مسؤولية أمن البلاد بالكامل بعد مغادرة قوات "حفظ السلام" الأفريقية "أتميس" نهاية العام الحالي، وكذلك سيضمن تعزيز القوات الصومالية في مكافحة الإرهاب، لا سيما بعد نجاح حركة "الشباب الصومالية" الإرهابية في السيطرة على أجزاء بمنطقة "جلجدود" بالصومال، كما أنه سيعزز قدرة القوات الصومالية على احتواء التوترات القبلية والعشائرية بالبلاد لمنع عودة شبح الحرب الأهلية مرة أخرى.

جدير بالذكر هنا أن تركيا تولي أهمية كبيرة لمحاربة التنظيمات الإرهابية بالصومال لتعزيز دورها الإقليمي بالمنطقة والحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستثمارات التركية بالصومال، لا سيما أنه خلال العامين الماضيين تعرضت السفارة التركية بمقديشو ومعسكر التدريب الذي تديره لعدة تفجيرات إرهابية أسفرت عن وقوع عدد من الضحايا والقتلى.

2– دعم تركي للصومال في مواجهة إثيوبيا: منذ توقيع حكومة "أرض الصومال" مع إثيوبيا على مذكرة التفاهم بينهما، بدأت مقديشو جهودها الدبلوماسية لإثبات "عدم شرعية" تلك المذكرة، عبر حشد المواقف الإقليمية والدولية الرافضة لها باعتبارها اعتداءً على سيادة الصومال؛ حيث أعلنت جامعة الدول العربية والاتحادان الأفريقي والأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة رفض تلك المذكرة، وهو ما توافق مع الموقف التركي الرافض للمذكرة. ويمكن لأنقرة أن تقدم كافة أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي لمقديشو لتأكيد رفض تلك المذكرة، ويمكنها أن تنسق المواقف الإقليمية والدولية معها في عدد من المنظمات الدولية ومنها (منظمة التعاون الإسلامي، والأمم المتحدة)، كما يمكن لتركيا تقديم وساطتها بين الصومال وإثيوبيا؛ نظراً إلى العلاقات المتميزة التي تجمعها بالدولتين للتوصل إلى حل للخلافات بينهما.

3– مساعي أنقرة لتعزيز التقارب مع الدول العربية: الموقف التركي الداعم لوحدة وسيادة الصومال سيعمل على تعزيز التقارب التركي العربي الذي حقق نجاحاً كبيراً خلال العامين الماضيين، ونجحت أنقرة في احتواء خلافاتها مع بعض الدول العربية التي توترت علاقاتها بها من قبل بفعل الاختلاف في إدارة الملفات الإقليمية المعنية بكل منها؛ ولذا يلاحظ أن الموقف التركي الداعم للصومال والرافض لمذكرة التفاهم بين (إثيوبيا وأرض الصومال)، جاء متطابقاً مع موقف جامعة الدول العربية والموقف المصري من الأزمة، وهو ما يطرح إمكانية التعاون بين أنقرة والقاهرة لاحتواء الأزمة ومعالجتها ومنع إثارة المزيد من التوترات في منطقة القرن الأفريقي الاستراتيجية، كما حضرت أنقرة في 7 فبراير الحالي الاجتماع الخامس لمجموعة "التشاور الصومالية" (QUINT) بأبوظبي بمشاركة ممثلين من دول (الإمارات، وقطر، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية) وخصص لمناقشة الوضع الأمني والسياسي بالصومال؛ ما يعزز الدور التركي في الملف الصومالي ذي الأهمية البالغة لحفظ الأمن القومي العربي.

4– إثارة التوتر بين تركيا وإثيوبيا: تعززت العلاقات التركية الإثيوبية خلال العامين الماضيين؛ ففي أغسطس 2021، زار رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" تركيا بمناسبة مرور 125 عاماً على تطبيع العلاقات بينهما، ووقع 4 اتفاقيات للتعاون المائي والعسكري، وأكد أن "إثيوبيا لن تنسى أبداً وقوف شعب وحكومة تركيا بجانبها". وفي عام 2022 تم الكشف عن بيع تركيا صفقة طائرات بدون طيار (البيرقدار) لإثيوبيا، وهو ما عزز قدرة القوات الإثيوبية على هزيمة التمرد بإقليم "تيجراي"، كما تمثل الاستثمارات التركية في إثيوبيا نصف حجمها في كامل القارة الأفريقية؛ ولذا فإن الدعم التركي للصومال في مواجهة إثيوبيا سيؤدي إلى إثارة التوتر في العلاقات بين أنقرة وأديس أبابا، الذي سيتخذ عدة أشكال مستقبلاً، وسيكون على أنقرة التوازن للحفاظ على علاقاتها المتميزة مع خصمين هما إثيوبيا والصومال.

خلاصة القول أن الاتفاق الإطاري بين تركيا والصومال سيساهم في تعزيز دور تركيا باعتبارها فاعلاً إقليمياً بمنطقة القرن الأفريقي، ويجعلها ضمن سياسة "الحزام الآمن" التركية التي أعلن عنها "أردوغان" بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في مايو 2023، والتي تقضي بمد النفوذ التركي إلى كافة الأقاليم الهامة المحيطة بتركيا، وهو ما سيؤدي إلى وجود ارتباط استراتيجي بين الأمن القومي الصومالي والتركي في المستقبل القريب، وهذا سينعكس على مجمل التفاعلات بمنطقة القرن الأفريقي.

أبعاد الاتفاق الإطاري الدفاعي بين تركيا والصومال