د. محمود زكريا

تشهد جنوب السودان الواقعة في إطار إقليم شرق أفريقيا حالة من تصاعد الاضطرابات الداخلية في الدولة خلال الآونة الأخيرة، ولعل آخر مظاهر ذلك وقوع هجوم على طائرة مروحية تابعة للأمم المتحدة حاولت إجلاء قوات في بلدة "الناصر" الواقعة في "ولاية أعالي النيل" في 7 مارس 2025. ويرتبط ذلك في الأساس بوقوع اشتباكات عنيفة في هذه البلدة بين القوات الحكومية ومجموعة مسلحة تُعرف باسم "الجيش الأبيض" في 4 مارس 2025، وقد تزامن ذلك مع إلقاء قوات أمن موالية للرئيس "سلفاكير ميارديت" القبض على وزيرين وعدد من كبار المسؤولين العسكريين المتحالفين مع نائبه "رياك مشار"، ومهاجمة قاعدة عسكرية؛ وذلك وفقاً لما أكده المتحدث باسم الحكومة "ميخائيل ماكوي".محفزات رئيسيةثمة جملة من العوامل المحفزة لتفاقم التوترات الداخلية في جنوب السودان خلال الآونة الأخيرة، وتتمثل هذه التداعيات فيما يلي:1– توجيه الرئيس اتهاماً إلى قوات "مشار" بإثارة الاضطرابات: تبلور ذلك من خلال اتهام المتحدث باسم الحكومة "ميخائيل ماكوي" القوات الموالية لنائب الرئيس "رياك مشار" بمخالفة القانون والتعاون مع جماعة "الجيش الأبيض"، وقيامهم بشن هجوم على ثكنة عسكرية في بلدة "الناصر" الواقعة في "ولاية أعالي النيل". وتتكون هذه الجماعة من أفراد مسلحين ينتمون إلى جماعة "النوير" التابع لها نائب الرئيس، وقد قاتلت ضد القوات الموالية للرئيس "سلفاكير" التي ينتمي غالبيتها إلى جماعة "الدينكا"، في إطار الحرب الأهلية التي حدثت خلال الفترة (2013–2018).2– اتهام "مشار" للرئيس بخرق اتفاق السلام القائم: تأتي التوترات الحالية عقب تهديد نائب رئيس جنوب السودان "رياك مشار" في 12 فبراير 2025 بالانسحاب من اتفاق السلام لعام 2018 بعد إقالة الرئيس "سلفاكير" العديد من المسؤولين من مناصبهم، منهم نائبان للرئيس ووزيرة الصحة ورئيس المخابرات؛ حيث أكد نائب الرئيس أن عمليات الفصل تنتهك اتفاق تقاسم السلطة الذي أنهى سنوات من الحرب الأهلية، وشدد على أن عدم انسحابه من الاتفاق مرهون بإعادة تعيين اثنين من المسؤولين الذين تمت إقالتهم في غضون (24) ساعة، وهما وزيرة الصحة "يولاندا أويل دينق"، والجنرال "ألفريد فوتويو كارابا" حاكم ولاية غرب الاستوائية. وقد أسفر التصعيد المتبادل بين الطرفين عن قيام القوات الموالية للرئيس "سلفاكير" باعتقال وزير النفط "بوت كانج شول"، والوزير المعني بجهود السلام، ونائب قائد الجيش، ووضع مسؤولين عسكريين كبار آخرين متحالفين مع "مشار" قيد الإقامة الجبرية، وفرض حصار على منزل نائب الرئيس؛ وذلك في 5 مارس 2025. والجدير بالذكر أن من أبرز التحديات المواجهة لتنفيذ اتفاق السلام لعام 2018، فشل الحكومة في توحيد قيادة الجيش، وتأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية إلى عام 2026.3– رغبة "البرهان" في إبعاد "جوبا" عن مساندة قوات الدعم السريع: تبلور ذلك من خلال ما ذهبت إليه بعض التقارير – وعلى رأسها تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر في 7 مارس 2025 – التي أشارت إلى أن الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة في السودان "البرهان"، قد أعاد تنشيط علاقاته القديمة مع مليشيات تابعة لجماعة "النوير" في ولاية "أعالي النيل"، وأرسل الإمدادات العسكرية إلى الجنوب في محاولة لاستعادة وكلاء الجيش السوداني السيطرة على الأراضي القريبة من الحدود بين السودان وجنوب السودان وعلى طولها في أعالي النيل، ولا سيما في ظل سيطرة قوات الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان "جناح الشمال" على معظم الحدود، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على محاولات الجيش السوداني لمنع قوات الدعم السريع من إنشاء منطقة عمليات آمنة.4– تزايد تأثيرات العامل الإثني في الحياة السياسية: حيث إن التوترات الحالية تعد جزءاً من سلسلة ممتدة من الصراعات على السلطة السياسية في الدولة التي تغذيها الخلافات الإثنية منذ ديسمبر 2013 بين جماعتي "الدينكا" التي تمثل نحو (35.8%) من السكان، وجماعة "النوير" التي تمثل نحو (15.6%). وعلى الرغم من وجود العديد من المحاولات لرأب الصدع بين الجماعتين عبر تبني العديد من اتفاقيات السلام ووقف إطلاق النار بين الطرفين، ولعل آخرها تلك الموقعة في عام 2018؛ فإن حالة السلام قد ظلت هشة وغير مستقرة بشكل تام في الدولة. ويرتبط ذلك بوجود خروقات من كلا الجانين لبنود هذه الاتفاقية؛ علماً بأن الدولة تشمل ما لا يقل عن نحو (60) جماعة إثنية.تداعيات محتملةثمة جملة من التداعيات المحتملة لتفاقم التوترات الداخلية في جنوب السودان خلال الآونة الأخيرة، وتتمثل هذه التداعيات فيما يلي:1– تصاعد المخاوف الدولية بشأن غياب حالة الاستقرار: يعزز من ذلك تبلور تحذيرات من قِبل الأمم المتحدة بشأن اتساع نطاق العنف في الدولة في 8 مارس 2025؛ حيث حذرت رئيسة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة "ياسمين سوكا" من تدهور الأوضاع الداخلية في الدولة على نحوٍ قد يؤثر سلباً على التقدم المحرز على الأرض خلال السنوات الماضية، كما وجهت دعوة إلى القادة للاهتمام بتحقيق مقاصد عملية السلام بشكل مباشر وضمان الانتقال السلس نحو إدراك الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان للمواطنين، مع العمل على الحد من تأجيج الانقسامات والصراع. وفي السياق ذاته حثت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) في 7 مارس 2025 جميع الجهات الفاعلة على الامتناع عن المزيد من العنف، كما دعت قادة البلاد إلى العمل معاً بشكل عاجل لحل التوترات القائمة.2– اتساع نطاق ودوائر العنف في جنوب السودان: يدعم ذلك احتمال التحرك من قبل المليشيات التابعة لجماعة "النوير" للاستيلاء على "ملكال" عاصمة ولاية "أعالي النيل" وواحدة من المدن الثلاث الرئيسية في جنوب السودان، وهو ما من شأنه زيادة حدة التوتر بشكل كبير؛ حيث إنها مدينة متعددة الإثنيات، وقد يؤدي القتال فيها إلى وقوع مذابح طائفية قد تؤدي بدورها إلى إشعال فتيل القتال في بقية الولاية أو في جميع أنحاء البلاد، وهو ما قد يدفع نحو صعوبة احتواء المزيد من الأعمال القتالية، ولا سيما في ضوء عدم وضوح مدى النفوذ الذي قد يمارسه نائب الرئيس "مشار" على المليشيات التابعة لجماعة "النوير" أو المليشيات المعارضة الإضافية التي قد تكون ولاءاتها محل نزاع من جانب، والتحرك المحتمل لجيش جنوب السودان نحو شن عملية كبرى جديدة لاستعادة بلدة "الناصر" بولاية "أعالي النيل" من جانب آخر.3– تزايد الضغوط الخارجية على جوبا لاحتواء التوترات: يعزز من ذلك إدانة سفارات الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبية الهجوم العسكري الذي تم على طائرة مروحية تابعة للأمم المتحدة في 7 مارس 2025، كما دعت إلى تنبي إجراءات طارئة وعاجلة من قبل النظام الحاكم في الدولة، وكذلك طالبت قادة جنوب السودان بتغليب مصلحة الشعب. ودعا رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي "موسى فقي" في السياق ذاته إلى إنهاء العنف القائم في الدولة والالتزام بترتيبات وقف إطلاق النار، مع تأكيد خوضه مشاورات مع قادة الدولة والهيئة الحكومية للتنمية "إيجاد" بشأن اتخاذ تدابير وإجراءات مشتركة لاحتواء التوترات الموجودة في الدولة.4– تهديد مستقبل اتفاق السلام القائم في الدولة: يعزز من ذلك أن تصاعد التوترات الأمنية بشكل مستمر خلال الآونة الأخيرة قد يدفع إلى تعريض اتفاق السلام الموقع في عام 2018 للخطر؛ علماً بأن هذا الاتفاق تم التوقيع عليه من قِبل الرئيس "سلفاكير" ونائبه "رياك مشار" في العاصمة الإثيوبية "أديس أبابا"، الذي وضع حداً لحالة الحرب الأهلية القائمة في الدولة طوال خمس سنوات، بدأت في ديسمبر 2013، وقد قام تجمع "إيجاد" بدور محوري في تيسير مهمة التوصل إلى هذا الاتفاق بين الطرفين. والجدير بالذكر أن كلا الطرفين قد وقَّعا على اتفاقات سلام أخرى منذ بدء الحرب، بيد أنها لم تنجح في تحقيق الاستقرار في الدولة، ولعل من بينها الاتفاقات الموقعة في عامي 2015 و2017.5– تفاقم حدة الأوضاع الإنسانية في البلاد: يدعم ذلك أن هناك نحو (9.3%) من المواطنين في حاجة إلى تلقي المساعدات الإنسانية، وهو ما يمثل زهاء (69%) من إجمالي تعداد سكان الدولة، كما تشير التقديرات إلى هناك نحو (2.1) مليون طفل من المتوقع أن يعانوا من سوء التغذية الحاد، مع احتمالية أن يواجه نحو (63) ألف شخص أسوأ مستويات انعدام الأمن الغذائي، فضلاً عن أنه على مدى السنوات الخمس الماضية، تركت الفيضانات مليون شخص عرضةً للأمراض المنقولة بالمياه والنزوح ومستويات شديدة من سوء التغذية.وفي أواخر عام 2024، شرَّدت الفيضانات أكثر من نحو (76) ألف شخص، بينما فقد نحو (53) ألف مزارع ومربي ماشية محاصيلهم ومواشيهم؛ ما زاد الضغط على إمدادات الغذاء الهشة في جنوب السودان، بالإضافة إلى أن جنوب السودان يأتي في المرتبة الثانية بين البلدان الأكثر عرضة لمخاطر المناخ. ويزيد من صعوبة الأمور وصول أكثر من نحو (878) ألف شخص فروا من السودان منذ بدء اندلاع الحرب 15 أبريل 2023 إلى جنوب السودان؛ ما يزيد فرص نشوب نزاعات عنيفة حول الأراضي والإسكان والممتلكات.6– تسارع تدهور الأوضاع الاقتصادية في جنوب السودان: يعزز من ذلك احتمالية تأثر قطاع النفط بشكل كبير في الدولة، لا سيما في ظل استمرار الاضطرابات الأمنية المتصاعدة، وهو ما قد يؤثر على القدرة الاقتصادية للدولة بشكل مباشر؛ حيث يأتي كل دخل حكومة جنوب السودان تقريباً من النفط؛ مما جعل الحكومة غير قادرة على دفع رواتب عمالها. ويزيد من صعوبة الأمور اعتماد جنوب السودان على السودان في تصدير النفط عبر خطوط أنابيب، وهي الخطوط التي تأثرت بشكل كبير منذ بدء الحرب الأهلية في السودان في أبريل 2023؛ إذ خسرت جنوب السودان ثلثي عائدات الدولة بعد انفجار خط أنابيب تصدير النفط الرئيسي بالقرب من العاصمة السودانية "الخرطوم" في عام 2024. ويضاف إلى ذلك معاناة الأسر من التضخم المفرط والانخفاض الحاد في قيمة العملة المحلية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تزيد عن نحو (95%) في يوليو 2024 مقارنة بالعام السابق.7– دفع الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي نحو مزيد من التعقيد: يدعم من ذلك ما تواجهه بعض دول المنطقة، مثل إثيوبيا والصومال والسودان، من اضطرابات داخلية ملحة خلال الفترات الماضية؛ ففيما يتعلق بإثيوبيا فإنها تشهد اتساعاً في نطاق تمرد مليشيا "فانو" الأمهرية بجانب تنامي المواجهات المسلحة بين النظام الحاكم و"جيش تحرير أورومو" (OLA). وفيما يتعلق بالصومال، فإنه بجانب التهديدات المصاحبة للعمليات الإرهابية لحركة الشباب المجاهدين، فإن الدولة تعاني من التوترات الداخلية الناتجة عن تأزم العلاقات بين الحكومة الاتحادية الصومالية. أما السودان فيشهد حالة من عدم الاستقرار الداخلي بفعل استمرار المواجهات المسلحة بين رئيس مجلس السيادة "البرهان" ونائبه "حميدتي" منذ 15 أبريل 2023. ومن شأن هذه الأوضاع المضطربة أن تهدد حالة السلام والأمن المجتمعي في دول المنطقة بالكامل.وختاماً، يمكن القول إن التوترات الحالية الواقعة في إطار جنوب السودان بين الرئيس "سلفاكير" ونائبه "رياك مشار"، تعد امتداداً لسلسلة الخلافات القائمة بين الطرفين على تقاسم السلطة السياسية في الدولة منذ بداياتها في ديسمبر 2013. وتطرح الرؤية المستقبلية تفاقم التداعيات المرتبطة بهذه التوترات في حال استمرارها وعدم احتوائها بشكل سريع من قِبَل الأطراف المختلفة المعنية، سواء الدولية أو الإقليمية؛ وذلك على نحوٍ قد يؤدي إلى انهيار اتفاق السلام "الهش" المُوقَّع في عام 2018، وهو ما قد تنعكس مآلاته الحادة، سواء على الصعيد الداخلي من خلال تفجر حالة الاقتتال الإثني والتأثير على مجمل الأوضاع الاقتصادية والإنسانية من جانب، أو على الصعيد الخارجي عبر تصدير مزيد من الاضطرابات الشديدة التأثير على منظومة السلم والأمن في إطار منطقة القرن الأفريقي من جانب آخر.

ما تداعيات تصاعد التوترات في جنوب السودان؟