د. محمد عباس ناجي


        
<p>لا تبدو إيران في عجلة من أمرها في المفاوضات النووية؛ فرغم كل الضغوط والانتقادات التي تتعرض لها من القوى الدولية، بجانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي عقدت اجتماع مجلس محافظيها في الفترة من 12 إلى 16 سبتمبر الجاري؛ فإنها ما زالت تتعامل على نحو يعني أنها لا ترى أن المفاوضات وصلت إلى نهايتها، وأنه ما زال هناك مجال للتعويل على عامل الوقت للحصول على مزيد من العوائد والامتيازات التي يمكن أن يتضمنها أي اتفاق نووي محتمل. وما زال الاتجاه الرئيسي في طهران يراهن على أن حلول فصل الشتاء سوف يضعف الموقف الغربي ويعزز الموقع الإيراني في المفاوضات، خاصةً مع الإجراءات التصعيدية التي تواصل روسيا اتخاذها على صعيد إمدادات الطاقة إلى الدول الأوروبية، إلا أن ثمة اتجاهاً بدأ يظهر تدريجياً ويرى أن التعويل على تأثير حلول فصل الشتاء يمثل مغامرة قد تفرض في النهاية عواقب وخيمة على مصالح وحسابات طهران. ففي هذا السياق، حذر الكاتب الإيراني "الإصلاحي" عباس عبدي في مقال نشره في صحيفة "اعتماد" (الثقة)، في 11 سبتمبر الجاري، بعنوان "من المسؤول عن الاتفاق النووي؟"، من أن "الاعتماد على أن حلول فصل الشتاء سوف يغير الحسابات لصالح إيران، يمثل سراباً"، داعياً الرئيس إبراهيم رئيسي إلى حسم المفاوضات والموافقة على الوصول إلى صفقة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">اعتبارات عديدة</span></strong></p>



<p>يمكن القول إن هذا الاتجاه الجديد الذي يحذر من سياسة كسب الوقت في الملف النووي يستند إلى اعتبارات عديدة لتبرير تحذيراته، ويتمثل أبرزها في:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– إضعاف موقع إيران تدريجياً:</strong> يرى هذا الاتجاه أن الوقت قد لا يكون في صالح إيران على المديين المتوسط والبعيد؛ إذ إن الأزمة الاقتصادية ما زالت تتفاقم تدريجياً، ولم تنجح الحكومة في احتواء تأثيراتها حتى الآن؛ بسبب الضغوط التي تفرضها العقوبات الأمريكية. ورغم أن مؤسسات الدولة ساعدت نسبياً في الالتفاف على العقوبات الأمريكية، عبر آليات عديدة، فإن تداعيات ذلك كانت في حدها الأدنى.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وبمعنى أدق، فإن تأثير ذلك انحصر في تمكين إيران من التعايش مع العقوبات فقط، وليس معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي اتسع نطاقها اتساعاً كبيراً على مدى الأعوام الأربعة الماضية، منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق في 8 مايو 2018. وهنا، فإن استمرار هذه الضغوط كفيل بإضعاف موقع إيران ومن ثم إرباك حساباتها ومنح فرصة للدول الغربية من أجل ابتزازها ومحاولة انتزاع مزيد من التنازلات منها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– احتمالية بحث الدول الأوروبية عن خيارات أخرى:</strong><strong> </strong>لن تنتظر الدول الأوروبية، في الغالب، الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران لكي تعالج، أو لكي تحد على الأقل من تأثيرات أزمة الطاقة التي تواجهها، والتي يتوقع أن تتصاعد حدتها خلال الشهور القادمة؛ فالتأثير الواسع لإقدام روسيا على قطع إمدادات الغاز عبر "نورد ستريم 1" تمثل في دفع الدول الأوروبية إلى البحث عن خيارات أخرى للتعامل مع هذه الأزمة. وبالفعل بدأت تلك الدول توقع على اتفاقيات وصفقات مع دول أخرى مصدرة للطاقة، على غرار الجزائر وأذربيجان.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وعطفاً على هذا، فإن انتظار ضخ النفط الإيراني في الأسواق الدولية لن يمثل ورقة ضغط على الدول الأوروبية، أو يدفعها إلى الإسراع في عقد صفقة مع إيران تستوعب شروط الأخيرة، أو تتغاضى عن بعض الخلافات الجوهرية على غرار ملف الضمانات الخاص بتحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول الأنشطة النووية التي لم تعلن إيران عنها في ثلاثة مواقع رئيسية.&nbsp;&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وهنا، فإن هذا الاتجاه يستند إلى البيان الثلاثي الذي أصدرته بريطانيا وألمانيا وفرنسا، في 10 سبتمبر الجاري، الذي أكدت فيه أن لديها "شكوكاً جدية في أن إيران ملتزمة بالاتفاق بشأن برنامجها النووي"، مضيفةً أنها "وصلت إلى آخر حدود مرونتها" في محاولة التوصل إلى اتفاق مع إيران. ويبدو أن ذلك يمثل رسالة من جانب الدول الثلاثة إلى إيران مفادها أن عليها ألا تعول كثيراً على أن أزمة الطاقة سوف يكون لها دور رئيسي في حسم المفاوضات أو الوصول إلى اتفاق لا يستوعب مطالب تلك الدول، خاصةً فيما يتعلق بالشكوك حول وجود جانب عسكري للبرنامج النووي الإيراني.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– طول أمد المفاوضات يعزز فرص معارضي الاتفاق:</strong> يتبنى هذا الاتجاه مقاربة جديدة تقوم على أنه كلما طال أمد المفاوضات تزايدت العقبات التي يمكن أن تحول دون انتهائها بالوصول إلى صفقة جديدة. ومن دون شك، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى أن الأطراف المعارضة للاتفاق ليست قليلة؛ إذ إنها تتضمن قوى داخلية أمريكية، على غرار الحزب الجمهوري، وبعض أقطاب الحزب الديمقراطي، بجانب إسرائيل وبعض الدول الأخرى في المنطقة التي تتحفظ على مضمون الاتفاق المحتمل، وتهميش القضايا الخلافية الأخرى، مثل برنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وفي رؤية هذا الاتجاه، فإن الأحداث الأخيرة التي جرت بالتوازي مع تعثر المفاوضات النووية، تكشف أن هذه القوى تتحرك على الأرض وتمارس ضغوطاً قوية من أجل عرقلة الوصول إلى اتفاق جديد؛ فبجانب توجيه اتهامات إلى إيران بالتورط في محاولات اغتيال مسؤولين أمريكيين، على غرار مستشار الأمن القومي الأسبق جون بولتون، ووزير الخارجية الأسبق مايك بومبيو؛ فإن الاتهامات التي وجهت إلى إيران بتهديد أمن ألبانيا بشن هجوم سيبراني على بعض المؤسسات داخل الأخيرة التي تستضيف منظمة مجاهدي خلق المعارضة؛ كل ذلك لا يبدو مصادفةً، والهدف منه هو تأكيد أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى إبرام صفقة مع نظام يتبنى سياسات عنيفة في التعامل مع المعارضة والخصوم الإقليميين والدوليين في آن واحد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– تصاعد الضغوط الداخلية لتبني سياسة أكثر تشدداً:</strong> لا يستبعد هذا الاتجاه أن تؤدي إطالة أمد المفاوضات وعدم الوصول إلى اتفاق نووي في أسرع وقت إلى تصاعد حدة الضغوط التي تمارسها قوى داخلية من أجل تبني سياسة أكثر تشدداً إزاء المفاوضات النووية، مستندةً إلى أن تعثر الوصول إلى اتفاق حتى الآن يعني أن الدول الغربية لا تبدو مستعدة لإبرام صفقة تتضمن الحد الأدنى من شروط ومطالب إيران. وقد بدأت هذه الأطراف تدعو إلى إنهاء المفاوضات الحالية وليس هذا فقط، وإنما إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والاتجاه نحو رفع مستوى الأنشطة النووية لتصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التصعيد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ووفقاً لذلك، فإن لهذه الأطراف مصالح في تعطيل الاتفاق واستمرار فرض العقوبات الأمريكية، على أساس أنها تملأ الفراغ الناتج عن انسحاب الشركات الأجنبية من الاستثمار في السوق الإيرانية، في حين أن الوصول إلى اتفاق ومن ثم رفع العقوبات الأمريكية، من شأنه تهيئة المجال مرة أخرى لعودة تلك الشركات للاستثمار في إيران بكل ما ينتجه ذلك من خسائر اقتصادية كبيرة لها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">مغامرة سياسية</span></strong></p>



<p>على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران بالفعل تغامر بالمماطلة في الرد بوضوح على المسودة التي قدمها مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وتعزيز فرص الوصول إلى اتفاق جديد؛ فإذا كانت المتغيرات الدولية والإقليمية الحالية تتيح فرصة إبرام اتفاق جديد، فإن هذه المتغيرات قد لا تكون قائمة في المرحلة القادمة، في ظل السيولة الشديدة في أنماط التحالفات والتفاعلات التي تجري على الساحتين الإقليمية والدولية، وخاصةً فيما يتعلق بالتحولات الميدانية اللافتة التي بدأت تشهدها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتي سوف تفرض تداعيات مباشرة على حسابات إيران إزاء المسارات المحتملة للمفاوضات خلال المرحلة القادمة.</p>

      

لماذا تزايدت التحذيرات الداخلية الإيرانية من سياسة "كسب الوقت" بشأن الملف النووي؟