تولى "خافيير ميلي" منصبه رئيساً لدولة الأرجنتين خلفاً للزعيم البيروني ألبرتو فرنانديز، رسمياً يوم 10 ديسمبر 2023، في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد الأرجنتيني أزمة اقتصادية حادة، ناجمة عن الإفراط في الإنفاق والديون، والالتفاف على ضبط العملات؛ حيث بلغ معدل التضخم نحو 161% في نوفمبر 2023، فيما يعاني نحو 40% من السكان من الفقر؛ ما دفع الرئيس الجديد إلى إعلان تبني سياسات تقشفية حادة، وإصلاحات هيكلية لمواجهة التضخم المفرط وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي.

واقع مأزوم

تعاني الأرجنتين ثالث أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، بعد البرازيل والمكسيك، عقوداً من سوء الإدارة الاقتصادية والأزمات المتكررة الناجمة عن القيود الهيكلية والسياسات المشوهة التي تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل على حساب الاستقرار الاقتصادي الطويل الأجل، وبوجه عام تمثلت أهم مؤشرات التأزم الاقتصادي فيما يلي:

1– انخفاض قيمة العملة المحلية: وضعت الأرجنتين ضوابط صارمة للعملة الحكومية، منذ انهيار السوق في عام 2019، لتقييد عملة البيزو الأرجنتينية، والحد من نقلها إلى الخارج؛ حيث تحد من شراء المواطنين بقيمة 200 دولار فقط شهرياً؛ ما أسهم في انخفاض قيمة العملة المحلية بحدة، وخلْق سوق سوداء مزدهرة للدولار بسعر صرف عائم أقل؛ إذ يتم تداول الدولار بنحو 900 بيزو للدولار؛ ما يعادل أكثر من ضعف سعر المستوى الرسمي البالغ نحو 350 للدولار.

وانخفضت قيمة العملة المحلية مقابل الدولار بنحو 52% خلال العام الجاري، عقب دعمها بشكل مصطنع لسنوات من خلال ضوابط رأس المال الصارمة؛ حيث طبع البنك المركزي الأرجنتيني المزيد من العملة المحلية خلال الفترة الماضية لمساعدة حكومة البلاد على عدم التخلف عن سداد ديونها؛ ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، وصلت إلى مستويات تضخم مفرطة؛ ما دفع البنك المركزي الأرجنتيني إلى رفع سعر الفائدة بنحو 133% خلال شهر أكتوبر 2023.

2– معدلات تضخم جامحة: شهدت الأرجنتين معدلات تضخم مفرطة؛ حيث ارتفع معدل التضخم السنوي من 54% في ديسمبر 2019 إلى نحو 161% في نوفمبر 2023، نتيجة الإنفاق الحكومي غير المستدام؛ حيث تقدم الأرجنتين دعماً لقطاعات الرعاية الصحية والطاقة والجامعات والنقل العام، يتم تمويله من خلال الإنفاق بالعجز أو طباعة المزيد من البيزو؛ ما أدى بدوره إلى تفاقم التضخم، بالتزامن مع انخفاض مستويات الأجور.

كما أسهم انخفاض قيمة البيزو الأرجنتيني في ارتفاع أسعار السلع المستوردة بشكل حاد، وقد حاولت الحكومة تعويض تأثير انخفاض قيمة العملة من خلال مجموعة من الإجراءات الاقتصادية، بما في ذلك زيادة مدفوعات المعاشات التقاعدية؛ ما فاقم من زيادة النفقات الحكومية.

وتتزايد مخاطر استمرار معدلات التضخم عند مستويات مرتفعة؛ حيث ترتفع أسعار السلع والخدمات بسرعة أكبر من الأجور؛ ما يؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة، ويدفع بشرائح أوسع من المجتمع إلى الفقر المدقع؛ حيث بلغ معدل الفقر، بحسب بعض التقديرات، نحو 40.1% في النصف الأول من عام 2023، مقارنةً بـ36.5% في الفترة ذاتها من عام 2022، وبلغ معدل الفقر المدقع نحو 9.3% مقارنة بـ8.8% في النصف الأول من عام 2022.

3– عجز الميزانية العامة للدولة: يعاني الاقتصاد الأرجنتيني من عجز كبير في الميزانية العامة للدولة يبلغ نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو العجز الناجم عن ارتفاع الإنفاق الحكومي الموجه لإعانات المستهلكين لكل من الوقود والكهرباء والغاز الطبيعي والمياه والنقل الجماعي؛ حيث تنفق الدولة نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي على المعاشات، كما يتم إنفاق 2.5% أخرى من الناتج المحلي الإجمالي على دعم النقل والمرافق، بالإضافة إلى الضرائب الباهظة والقيود الدورية المطبقة على الصادرات الغذائية، مثل فول الصويا ولحم البقر؛ ما أسهم في تراجع إيرادات الحكومة من الصادرات، فضلاً عن تقنين الوصول إلى العملات الأجنبية بأسعار صرف متعددة.

بينما تخلفت الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المستثمرين المحليين والدوليين، ولم يكن لدى السلطات خيار سوى تمويل العجز الضخم بقروض من البنك المركزي الأرجنتيني. ولكن بعد أربع سنوات من تمويل الحكومة عن طريق قروض بدون فوائد، ارتفعت مخاوف البنك المركزي من الإفلاس أو التخلف عن سداد التزاماته للقطاع المصرفي؛ ما قد يؤدي إلى أزمة مالية نظامية.

4– ارتفاع معدلات المديونية: ارتفع الدين العام في الأرجنتين لنحو 90% نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي، بينما يصل العجز المالي نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي. وتحتل الأرجنتين مركز الصدارة في قائمة الدول المدينة لصندوق النقد الدولي، بنحو 44 مليار دولار مستحقة من قرض بقيمة 57 مليار دولار أمريكي تم توقيعه في عام 2018، ولديها ديون خارجية بنحو 400 مليار دولار، فيما تراجعت الاحتياطيات الأجنبية لدى المصرف المركزي بنسبة 43.2%، لتقترب من أدنى مستوى لها منذ عام 2006، عند 6 مليارات دولار، أو 5.7 مليار دولار.

وهو ما يهدد قدرة البلاد على سداد الديون لصندوق النقد الدولي، وحملة السندات الخاصة، فضلاً عن تغطية الواردات الرئيسية. وقد تخلفت الأرجنتين عن سداد ديونها السيادية تسع مرات في تاريخها، كان آخرها في عام 2020؛ حين واجهت انكماشاً اقتصادياً وتضخماً هائلاً وضغطاً على العملة الصعبة أثناء جائحة الفيروس التاجي.

5– دخول الاقتصاد في مرحلة الركود: تواجه الأرجنتين الغنية بالحبوب والغاز الصخري والليثيوم، سادس ركود لها، ناجماً عن ارتفاع معدلات التضخم المفرطة، وارتفاع العجز الحكومي، وانخفاض قيمة العملة، فضلاً عن تضرر قطاع التصدير الذي يعتمد عليه الاقتصاد الأرجنتيني من جراء تداعيات التغيرات المناخية والجفاف الذي أثر على السلع الأساسية الزراعية، وأدى إلى فقدان نحو 20 مليار دولار من إيرادات الصادرات الزراعية؛ ما أسهم في انكماش الاقتصاد بنسبة 2.8% في الربع الثاني من عام 2023 و4.9% مقارنة بالعام 2022. ومن المتوقع أن ينكمش بنحو 2.4% بنهاية العام الجاري، وأن ينكمش الاقتصاد خلال عام 2024 بمعدل 1.3% من إجمالي الناتج المحلي، واستمرار معدل التضخم فوق مستوى 100% خلال العام ذاته، مع انخفاض حتمي في قيمة العملة المحلية.

إصلاحات طارئة

في ظل الظروف الراهنة التي تولى فيها الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميلي رئاسة الدولة، أعلنت حكومته تنفيذ إصلاحات اقتصادية طارئة للحد من عجز الموازنة العامة للدولة، تشمل تعديلاً مالياً يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وخفض الإنفاق الحكومي بنحو 15% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، من خلال التحرير السريع للاقتصاد، واتباع سياسات تقشفية حادة، بإجراءات تشمل:

1– دولرة الاقتصاد: تحظى دولرة الاقتصاد في ظل التراجع الحاد والمتواصل في قيمة البيزو، بأولوية محورية في برنامج الرئيس الجديد، وتعني الاستعاضة عن البيزو بالدولار الأمريكي كعملة قانونية بهدف كبح جماح التضخم، ومنع البنك المركزي من سياسة طباعة النقود لتمويل الديون، التي اعتمد عليها لتمويل الإنفاق العام؛ حيث يُقدَّر بأن الأرجنتين هي الثالثة على مستوى العالم من حيث كمية الأوراق النقدية المتوافرة بالدولار المدخرة مع المواطنين. ويعول ميلي على إعادة منح مواطنيه الثقة لاستخدام هذه النقود المكدسة خارج النظام المالي.

2– تخفيض النفقات الاجتماعية: أعلنت الحكومة الجديدة عن تخفيضات هائلة في الإنفاق الحكومي تعادل 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وتتضمن خططاً لخفض عدد الوزارات الحكومية من 18 وزارة إلى 9، بما في ذلك وزارتا الصحة والتعليم، وخفض التحويلات الإقليمية، وخفض دعم النقل والطاقة، وتجميد الإنفاق على بعض العقود والإعلانات الحكومية الكبرى، وتعليق مشاريع الأشغال العامة، بهدف خفض الإنفاق الحكومي ومحاولة تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة.

3– خفض قيمة العملة الوطنية لأكثر من النصف: بدأت الحكومة الأرجنتينية تخفض قيمة عملتها بأكثر من 50% مقابل الدولار، كجزء من العلاج بالصدمة الاقتصادية، ليصل سعر صرف الدولار نحو 800 بيزو مقابل الدولار الأمريكي، من نحو 391 بيزو؛ وذلك بعدما حافظت البلاد على عملتها بشكل مصطنع منذ عام 2019؛ حيث بلغ سعر العملة نحو 1070 بيزو لكل دولار. ويعتزم البنك المركزي الأرجنتيني خفض العملة الوطنية بنسبة 2% شهرياً حتى الوصول بالسعر الرسمي إلى سعر السوق السوداء.

4– تحسين الهيكل الاقتصادي من خلال عمليات الخصخصة: يسيطر القطاع العام على الاقتصاد الأرجنتيني؛ حيث بلغ معدل التوظيف في قطاع الدولة نحو 34% من 2011 إلى 2022، بينما بلغت النسبة نحو 3% فقط في القطاع الخاص خلال الفترة ذاتها؛ ما أدى إلى عجز مزمن في الميزانية يزيد عن 4% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن ثم عمدت الحكومة الجديدة إلى تحسين الجهاز الاقتصادي للدولة من خلال خصخصة الشركات العامة التي تشكل عبئاً على الحكومة، وزيادة الاستثمار الخاص، بهدف تحقيق توازن في الميزانية. ومن بين المؤسسات العامة المرشحة للخصخصة شركة النفط الوطنية "واي بي إف"، ووسائل إعلامية عمومية مثل وكالة "تيلي آم" للأنباء، وقناة "بي في بي" التلفزيونية، فيما لن تطال الخصخصة قطاعَي التعليم والصحة.

5– تقديم معونات نقدية للطبقة الفقيرة: تتضمن خطة الرئيس الجديد تقديم معونات نقدية جديدة لحماية الطبقة الفقيرة من السياسات التقشفية الحادة التي ينتهجها، تبلغ قيمتها نحو 80 دولاراً للعمال المسجلين، و125 دولاراً للعمال غير الرسميين، و49 دولاراً للمتقاعدين. وتمثل تلك المساعدات نحو 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى خطة إعفاء العمال من ضريبة الدخل التي تستثني 1% فقط منهم، وتمثل نحو 0.83% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، فضلاً عن مضاعفة إعانات الأطفال، ورفع قيمة البطاقة الغذائية التي تقدمها الحكومة بنسبة 50%، وإصلاح نظام الرعاية الصحية العام، وإلغاء التعريفات الجمركية على واردات المدخلات الاستراتيجية والسلع الرأسمالية، وإلغاء النظام الحالي للتصاريح الحكومية للواردات، وإلغاء ضرائب التصدير.

تداعيات مؤلمة

ترغب حكومة ميلي في تحقيق استقرار اقتصادي، ومحاولة السيطرة على معدلات التضخم؛ حيث تهدف السياسات التي انتهجتها الحكومة إلى تحسين المالية العامة، وحماية الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، وتعزيز نظام النقد الأجنبي؛ ما يسهم في استقرار الاقتصاد؛ حيث تأمل الحكومة أن تسهم تلك الإجراءات في خفض قيمة العملة المحلية، ومن ثم جعل صادرات الأرجنتين أقل تكلفة ومن ثم أكثر قدرة على المنافسة خارجياً؛ ما يسهم في زيادة عائدات الصادرات، وتقليل العجز التجاري المرتفع، كما تسهم في السيطرة على كمية العملة الأجنبية الصادرة للخارج من خلال رفع ضرائب الواردات وارتفاع تكلفتها، وهو ما من شأنه أن يسمح للبنك المركزي بتجديد احتياطياته من العملات الأجنبية.

ولكن على الجانب الآخر، قد ينجم عن تلك السياسات تداعيات سلبية تضر باستقرار الاقتصاد الأرجنتيني؛ نظراً إلى الظروف الاقتصادية التي تمر بها الدولة في الوقت الراهن. ويمكن تناول أهم هذه التداعيات على النحو التالي:

1– فقدان السيطرة على السياسة النقدية: على الرغم من نجاح عملية الدولرة في السيطرة على التضخم في الأكوادور والسلفادور وبنما، فقد يختلف الوضع في الاقتصاد الأرجنتيني؛ حيث تتطلب الدولرة عادة مخزوناً من الدولارات السائلة لتحل محل القاعدة النقدية، يصل إلى ما بين 20 و25 مليار دولار من الاحتياطيات الدولية في الأرجنتين، فيما لم يكن لدى البنك المركزي الأرجنتيني احتياطيات كافية من العملات لتنفيذ الخطة، ومن ثم تتطلب الدولرة الرسمية الاقتراض في الأسواق الدولية، في ظل عدم قدرة الأرجنتين على سداد ديونها الحالية؛ حيث إنها ستكون معرضة لخطر التخلف عن السداد.

ومن ثم سيفقد البنك المركزي السيطرة على السياسة النقدية، وستفتقر الأرجنتين إلى الأدوات النقدية اللازمة لتخفيف الصدمات الخارجية؛ حيث لا تتمتع الدولة بالمرونة اللازمة لاستيعاب الصدمات، مثل الانخفاض الحاد في أسعار الصادرات، وتقلب أسعار المنتجات الزراعية، وارتفاع أسعار النفط، وتأثير الحرب الأوكرانية على الطلب على الصادرات، وعدم الاستقرار السياسي الذي يؤدي إلى سحب الودائع، ومن ثم فإن الدولرة ليست بديلاً لسياسات الاقتصاد الكلي السليمة.

2– زيادة الاضطرابات الاجتماعية وارتفاع معدلات الفقر: تسهم السياسات التقشفية وخفض معدلات النفقات الاجتماعية في انخفاض مستويات المعيشة وتزايد الأعباء الاقتصادية من جراء التحرير الاقتصادي؛ حيث يستفيد من الدعم الحكومي نحو 51% السكان، ومن ثم سيحرم جزء كبير من السكان من سبل عيشهم.

فمن المرجح أن ينخفض دخل الفرد إلى ما يقرب من 15% دون المستوى الذي كان عليه في عام 2011، وسترتفع معدلات البطالة بحدة؛ ما يسهم في ازدياد حدة الفقر في الأرجنتين، كما سيخلق انهيار العملة قبل تطبيق الدولرة، في ارتفاع معدلات التضخم بمعدلات أكبر، والدخول في مرحلة ركود اقتصادي؛ حيث يتخلى الأرجنتينيون عن البيزو بأعداد كبيرة مقابل العملة الأجنبية، في ظل نقص الدولار المتداول والمحتفظ به في البنوك.

كما أن إلغاء الدعم الحكومي للصناعات الوطنية، سيعني تعريض الشركات الوطنية للسوق، وإمكانية إفلاسها، وزيادة أعداد المُسرَّحين والعاطلين عن العمل، فضلاً عما تسهم به زيادة ضرائب الواردات من ارتفاع تكلفة الواردات، ومن ثم استمرار ارتفاع الأسعار، وانتشار الاضطرابات الاجتماعية.

3– استمرار ارتفاع عجز الموازنة العامة: سيزيد انخفاض قيمة العملة الوطنية من تكلفة خدمة الديون، ويزيد من نفقات الميزانية؛ نظراً إلى أن الديون ستظل مقومة بالدولار؛ ما يسهم في استمرار زيادة العجز والحاجة إلى طباعة النقود، كما ستحتاج الحكومة إلى اقتراض نحو 30 مليار دولار لتحويل اقتصادها إلى الدولرة، بينما هي معزولة بشكل أساسي عن أسواق رأس المال؛ ما من شأنه أن يزيد من مخاطر التضخم المفرط إلى 300%، ويرفع حجم مديونيتها؛ ما يسهم في زيادة عجز الموازنة.

4– تقويض علاقات الأرجنتين مع أهم الشركاء التجاريين: تدعم سياسة الرئيس ميلي إعادة صياغة علاقات الأرجنتين الاقتصادية مع كل من البرازيل والصين، على الرغم من كونهما أهم الشركاء التجاريين للدولة بنسبتي 34% و31% على التوالي خلال عام 2022، ومع بعض التجمعات الإقليمية والدولية، خاصةً ميركوسور وبريكس؛ ما يسهم في انحسار الدولة تجارياً، وخسارتها الدعم الاقتصادي لبريكس.

وأخيراً، على الرغم من أهمية وحتمية الإجراءات الاقتصادية التي أعلن عنه الرئيس الأرجنتيني الجديد، فإنها قد تؤثر سلباً على الاقتصاد، وقد تؤتي نتائج عكسية عن المستهدف منها؛ حيث إن هناك عدداً من التدابير الضرورية بجانب تلك الإجراءات للاستفادة من جدواها الاقتصادية، وتجنب أو تقليل تداعياتها السلبية، فيتطلب القضاء على تشوهات آليات السوق وتحفيز الصادرات، ضرورة تنفيذ تخفيض قيمة العملة مع الحفاظ على الإعانات المقدمة للفقراء، فضلاً عن ضرورة الحفاظ على الإنفاق على البنية التحتية وزيادة النفقات الاستثمارية فيها للحفاظ على بنية تحتية جيدة تسهم في جذب المزيد من الاستثمارات، فضلاً عن إعادة هيكلة ديونها لخفضها إلى مستويات مستدامة ومن ثم تخفيض تكلفة خدمة الديون.

كما تبدو ثمة حاجة ملحة للحفاظ على استقلالية السياسة النقدية للدولة؛ فهي لا تعبر عن سلطة الدولة في إصدار العملة فحسب؛ بل تشير إلى قدرة الدولة على إدارة المعروض النقدي وتحديد أسعار الفائدة، والإشراف على أنظمة أسعار الصرف وإنشائها، وفرض الضوابط على العملة ورأس المال التي تؤثر على احتياطيات البنك المركزي، وقد يتطلب ذلك الحفاظ على قيمة العملة المحلية للدولة، وتقويمها بقيمها الحقيقية، مع الحفاظ على سلطة البنك المركزي في التحكم في السياسة النقدية للدولة بألا يتم إلغاؤه، أو جعله تابعاً لسلطة الفيدرالي الأمريكي في حال دولرة الاقتصاد. ويتم ذلك من خلال إصلاح سياسات البنك المركزي الأرجنتيني، وإحكام الرقابة على الفاعلين في النظام المصرفي بوجه عام؛ ما يسهم في تحقيق استقرار الأسعار ومن ثم الحفاظ على الاستقرار المالي، واستقرار الاقتصاد الأرجنتيني بوجه عام.

كيف يؤثر برنامج "ميلي" على الاقتصاد الأرجنتيني؟