أسماء الصفتي

سعت إندونيسيا إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى ومنها روسيا؛ وذلك بالرغم من استمرار تداعيات الصراع الأوكراني، والضغوط التي مارستها القوى الغربية على الأطراف الدولية المختلفة من أجل قطع العلاقات مع موسكو. ظهر هذا الاهتمام الإندونيسي بتطوير العلاقات مع موسكو مؤخراً مع المناورات العسكرية التي أجريت بين الدولتين في شهر نوفمبر الجاري، كما أشار الرئيس الإندونيسي، يوم 18 نوفمبر 2024، إلى أن جاكرتا حريصة على أن تحصل على عضوية مجموعة البريكس.تقارب ملحوظتتمتع إندونيسيا بعلاقات وطيدة مع روسيا تتسم بطابع تاريخي ممتد؛ فقد دعم الاتحاد السوفييتي استقلال إندونيسيا وإنهاء الاستعمار الهولندي هناك؛ وذلك في اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في يناير 1946. وقد اعتبر الاتحاد السوفييتي أن تصرفات هولندا في إندونيسيا تشكل تهديداً للسلام والأمن؛ ولذلك طلب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اتخاذ تدابير لوضع حد لها. وفي أعقاب استقلال إندونيسيا، سارعت موسكو إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع جاكرتا. ومع تصاعد حدة التوتر والتنافس فيما بين الدول الغربية والصين وروسيا، تسعى إندونيسيا إلى تبني سياسة متوازنة بين الدول الكبرى المتنافسة.وفي هذا الصدد، اتخذت إندونيسيا مؤخراً عدداً من السياسات التي تظهر رغبتها في تطوير علاقتها مع الجانب الروسي؛ وذلك على النحو التالي:1– مواصلة تبني موقف محايد من الحرب الأوكرانية: التزمت إندونيسيا بتبني موقف الحياد منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022. وقد سافر الرئيس الإندونيسي السابق "جوكو ويدودو"، بصحبة الرئيس الحالي، ووزير الدفاع آنذاك "برابوو سوبيانتو"، إلى كييف وموسكو في منتصف ذلك العام. وقد هدفت الزيارتان إلى إقناع كل طرف بزيادة صادراته الزراعية إلى الدول النامية؛ للمساعدة في تخفيف ارتفاع الأسعار الذي كانت هذه الدول تعاني منه نتيجة التداعيات الاقتصادية للحرب. وفي يونيو 2023 اقترح وزير دفاع إندونيسيا حينها، وهو الرئيس الحالي "برابوو سوبيانتو"، خلال مؤتمر "شانجريلا" للأمن في سنغافورة، خطة لتسوية النزاع في أوكرانيا سلمياً، تشمل وقف إطلاق النار، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح، ونشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. ومع ذلك، لم تحظَ خطته بالدعم من روسيا وأوكرانيا، ولا من الولايات المتحدة ولا من الدول الأوروبية.2– استمرار التقارب السياسي بين الطرفين: لم تنصَعْ جاكرتا كثيراً للضغوط الغربية بشأن التوقف عن التقارب مع روسيا والانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو. وحرصت جاكرتا على مواصلة الانفتاح السياسي على موسكو، وظهر ذلك من خلال الزيارات المستمرة إلى موسكو؛ فعلى سبيل المثال، زار الرئيس الإندونيسي الجديد "برابوو سوبيانتو" موسكو في يوليو 2024، وعقد لقاءً رفيع المستوى مع الرئيس الروسي "بوتين".وفي تصريحات صحفية أدلى بها الرئيس الإندونيسي عقب الزيارة، وصف "برابوو" روسيا بالصديقة المقربة لإندونيسيا؛ هذا بجانب تأكيده رغبته الملحة في تدعيم واستدامة العلاقات الإندونيسية الروسية خلال فترة توليه السلطة في بلاده، مبرراً ذلك بالقول إن موسكو قد دعمت جاكرتا على جميع الأصعدة خلال مراحلها التاريخية المختلفة. وأكدت تقارير إندونيسية أن الزيارة قد انتهت باتفاق الطرفَين الروسي والإندونيسي على تعزيز التعاون بينهما في ملفات الأمن الغذائي والطاقة والتعليم، بالإضافة إلى توعد موسكو بتقديم المساعدة لجاكرتا في مجال الطاقة النووية.3– عقد مناورات بحرية مشتركة: عقدت إندونيسيا وروسيا أول مناورات بحرية مشتركة بينهما يوم 4 نوفمبر 2024 ولمدة خمسة أيام. وأجريت المناورات على مرحلتين في قاعدة بحرية في سورابايا وفي بحر جاوة. وأرسلت روسيا 3 سفن حربية من طراز كورفيت وسفينة ناقلة متوسطة ومروحية عسكرية وزورق سحب حسبما ذكرت البحرية الإندونيسية. ويقول محللون إن التدريبات المشتركة تشير إلى أن "برابوو" بدأ تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية، متعهداً بتعزيز تحالفات جاكرتا مع القوى الكبرى.4– حرص جاكرتا على الانضمام إلى مجموعة بريكس: باتت مجموعة بريكس محوراً مهماً في التقارب الحادث بين موسكو وجاكرتا؛ ففي يوم 18 نوفمبر 2024، وعلى هامش المشاركة في منتدى الأعمال الإندونيسي البرازيلي الذي عُقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل؛ قال الرئيس الإندونيسي "برابوو سوبيانتو" إن دولته ملتزمة بالحصول على عضوية مجموعة البريكس، مشيراً إلى أهميتها للاقتصاد العالمي. وقال "سوبيانتو" إن هذا الطموح كان جزءاً من رؤيته منذ عام 2014 عندما ترشح لأول مرة للرئاسة. وكانت إندونيسيا تقدمت رسمياً بطلب عضوية مجموعة البريكس في أكتوبر خلال قمة المجموعة التي عُقدت في قازان بروسيا. ويبدو في هذا السياق أن موسكو تدعم مساعي جاكرتا للحصول على عضوية المجموعة.محركات جاكرتاتستهدف إندونيسيا من وراء تطوير شراكتها الثنائية مع موسكو تحقيق عدد من الأهداف الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1– مساعي "سوبيانتو" للاستجابة للتوترات الإقليمية: يعكس التقارب مع روسيا مساعي إندونيسيا لتعزيز قدراتها الدفاعية استجابةً للتوترات المتصاعدة في منطقة الهندوباسيفيك؛ فعلى سبيل المثال، ناقش الرئيس الإندونيسي "برابوو"، خلال اجتماع مع وزير الدفاع الروسي "أندريه بيلوسوف"، في شهر يوليو 2024، إمكانية نقل ومشاركة تكنولوجيا الدفاع الروسية مع إندونيسيا.ويأمل الرئيس الإندونيسي الجديد أن يتمكن من تعزيز قدرات بلاده العسكرية؛ وذلك من خلال إنشاء صناعة دفاعية مستقلة. ويحرك هذا الدافع خلفية "برابوو" العسكرية، وتفهُّمه للتحديات الأمنية الكبرى التي تهدد بلاده، خاصةً مع تصاعد حدة التنافس الأمريكي الصيني في المنطقة؛ هذا بجانب زيادة معدل الأنشطة الصينية العسكرية بجنوب شرق آسيا، التي تهدف إلى فرض الهيمنة على بحر الصين الجنوبي.يضاف إلى ذلك، توجه جميع دول المنطقة، ومنها الدول التي كانت تُعرَف بحيادها العسكري سابقاً – على غرار اليابان – إلى رفع قدراتها العسكرية، وهو ما أدخل المنطقة بأكملها في سباق تسلح فريد من نوعه. وعلى الرغم من وجود العديد من الدول الغربية التي تسعى للقيام بهذا الدور في إندونيسيا، على غرار فرنسا، فإن الرئيس الحالي يفضل روسيا، ولا يتمتع بعلاقات جيدة مع الجانب الفرنسي، وهو ما ظهر جلياً مع عدم حضور ممثل رفيع المستوى للجانب الفرنسي مراسم تنصيبه رئيساً للبلاد في أكتوبر.2– إعادة الانتعاش إلى الشراكة الدفاعية بين روسيا وإندونيسيا: تعد إندونيسيا واحدة من أهم العملاء الدفاعيين لروسيا في جنوب شرق آسيا؛ حيث اشترت جاكرتا مقاتلات روسية وطائرات هليكوبتر ومركبات مشاة قتالية، إلا أنه خلال عام 2021، مع تولي "برابوو" حقيبة الدفاع، أوقفت إندونيسيا صفقة شراء إحدى عشرة مقاتلة "سوخوي سو–35" من روسيا، بسبب مخاوف من أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات إضافية على إندونيسيا.ومع عودة الرئيس "ترامب" إلى رأس السلطة في الولايات المتحدة، واحتمال تخليه عن سياسة التشدد في فرض العقوبات على موسكو، ودفعه نحو إنهاء حالة التوتر الحادة القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، يُتوقَّع أن تبادر العديد من الدول إلى إعادة إحياء شراكاتها الدفاعية مع روسيا من دون الخوف من أن تنالها العقوبات؛ وذلك على غرار إندونيسيا. وقد ظهرت المؤشرات الأولى للتحسن في الشراكات العسكرية بين جاكرتا وموسكو خلال زيارة الرئيس "برابوو" إلى موسكو في يوليو 2024؛ فقد دعا الرئيس الإندونيسي شركات الدفاع الروسية إلى المشاركة في معرض دفاعي كبير في إندونيسيا كان من المقرر أن يُعقَد في نوفمبر، ولكن تقرر عقده لاحقاً في يناير 2025.3– محاولة التغلب على تحديات الاقتصاد الإندونيسي: تسعى إندونيسيا إلى الحصول على مساعدة روسيا لتخفيف ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وحل نقص العاملين في مجال الصحة. تعتبر روسيا مصدراً رئيسياً للعديد من المنتجات الزراعية والغذائية الرئيسية في إندونيسيا؛ وذلك على غرار القمح والزيت النباتي والأسمدة، وهي منتجات مهمة لأمن الغذاء في إندونيسيا. وقد عانى المستهلكون الإندونيسيون من ارتفاع أسعار هذه السلع الثلاثة منذ أن غزت روسيا أوكرانيا. وفيما يتعلق بالقطاع الصحي، فإن إندونيسيا تعاني من نقص كبير في عدد الأطباء، خاصةً في المناطق الريفية. ويهدف الرئيس الإندونيسي إلى معالجة هذا النقص من خلال توفير برنامج منح دراسية واسع للطلاب الإندونيسيين للدراسة في الخارج، بما يشمل ذلك الجامعات الطبية الروسية.4– العمل على تطوير قطاع الطاقة في إندونيسيا: ناقش "برابوو" و"بوتين"، خلال زيارة الأول إلى موسكو، في يوليو الفائت، احتمالات التعاون الثنائي لمساعدة إندونيسيا على إنشاء صناعة طاقة نووية مدنية. قد تساعد الطاقة النووية في تخفيف أزمة الطاقة في البلاد؛ هذا بجانب مساعدتها على تحقيق أهدافها المتعلقة بملف المناخ. وقد أعربت إندونيسيا عن اهتمامها بالحصول على مفاعلات نووية صغيرة متنقلة (SMRs)، وهي مصممة لتكون أرخص وأكثر أماناً من محطات الطاقة النووية التقليدية وقابلة للنقل، إلا أن التكلفة الواسعة لنقل هذه التكنولوجيا، ومحدودية القدرات والخبرات التكنولوجية التي تمتلكها جاكرتا في هذا الميدان، قد منعتا من تحقيق هذه الغاية. وتعتبر روسيا رائدة عالمياً في تصميم هذه المفاعلات الصغيرة، وهو ما يجعلها الشريك الأمثل لإندونيسيا في هذا الميدان، خاصةً أنها تقدم هذه التكنولوجيا بتكلفة أقل من منافسيها الغربيين.5– مساعي "سوبيانتو" لإثبات عدم تماهيه مع الغرب: يبدو أن الرئيس الإندونيسي الجديد "سوبيانتو" يرى أن جاكرتا قد تبنت سياسات مؤيدة للغرب، وكانت أكثر تحيزاً إلى الولايات المتحدة والدول الغربية المؤيدة لها، وهو الأمر الذي لا يفضله. ويعتقد المحللون أن هذه النظرة تعود إلى خلفيته العسكرية والدينية التي ترى أن التحالف مع الغرب سيكبد إندونيسيا العديد من الخسائر؛ فمن ناحية يرفض التيار المؤيد له إظهار التحالف المباشر والعلني مع واشنطن، خاصة في أعقاب اندلاع الحرب في غزة، وبروز انتقادات واسعة للدور الأمريكي الداعم لإسرائيل في هذه الحرب. يضاف إلى ذلك، هيمنة حالة من التوتر في العلاقات الصينية والروسية مع الولايات المتحدة وحلفائها، وانعكاس ذلك بالسلب على الاستقرار العام في المنطقة.6– تأكيد استمرار تبني إندونيسيا نهجاً سياسياً حيادياً: جاءت زيارة "برابوو" إلى روسيا في يوليو الماضي بعد شهرين فقط من زيارته إلى الصين، التي كانت أول زيارة له إلى الخارج بعد فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية في فبراير، كما كرر الرئيس الإندونيسي في شهر نوفمبر 2024 زيارة الصين وبعد تلك الزيارة زار واشنطن. وكافة هذه الزيارات تعكس حرص جاكرتا على تبني سياسات متوازنة مع كافة القوى، وتجنب استعداء أي طرف حفاظاً على مصالحها المتنوعة.7– إمكانية الاستعانة بروسيا في الدفع لإنهاء الحرب في غزة: من المرجح أن يركز "برابوو" بشكل أكبر على الصراع بين إسرائيل وحماس في الأشهر المقبلة؛ حيث إن هذه القضية تثير مشاعر غضب قوية في إندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة. ومع وصول الرئيس "ترامب" إلى السلطة، ودخول روسيا على خط المفاوضات الرامية إلى إنهاء الحرب في غزة ولبنان، فإن الرئيس الإندونيسي الحالي يمكن أن يرى في موسكو حليفاً يمكن أن تتعاون معه جاكرتا لتحقيق أي تقدم في هذا الملف.خلاصة القول: يحافظ أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا على سياسة خارجية محايدة ترفض الانحياز إلى أي طرف في النزاع الأوكراني أو في المنافسة بين واشنطن وبكين، لكن الرئيس الإندونيسي الجديد "برابوو سوبيانتو" الذي تعهَّد أن يكون أكثر جرأةً على الساحة العالمية، وبأخذ خلفياته العسكرية والسياسية في الاعتبار، من المتوقع أن يواصل خطواته الرامية إلى تعزيز التقارب بين موسكو وجاكرتا، مع الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من بكين وواشنطن.

لماذا تحرص إندونيسيا على تطوير العلاقات مع روسيا؟