د. محمد عباس ناجي

رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على حادث سقوط مروحية الرئيس الإيراني السابق "إبراهيم رئيسي"، في 19 مايو 2024، والذي أسفر عن مقتله مع سبعة آخرين أبرزهم وزير الخارجية السابق "حسين أمير عبد اللهيان"؛ إلا أن الجدل حول سبب الحادث ما زال قائماً، على نحو كان له دور في حرص السلطات الإيرانية على إعادة التأكيد على أن السبب يعود إلى الظروف الجوية السيئة التي واجهت المروحية خلال عودتها من محافظة أذربيجان الشرقية. إذ أشار التقرير النهائي الذي أصدرته هيئة تحقيق خاصة في أول سبتمبر 2024 إلى أن ظهور كتلة كثيفة من الضباب الكثيف والمتصاعد بشكل مفاجئ أمام المروحية أدى إلى اصطدامها بالجبل ومن ثم سقوطها واحتراق جثث القتلى.اعتبارات عديدةيمكن تفسير حرص السلطات في إيران على تأكيد روايتها السابقة الخاصة بسقوط مروحية "رئيسي" في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:1- تقليص ضغوط الرد الإيراني على إسرائيل: يبدو أن النظام في إيران مُصِرٌّ على استبعاد فرضية أن تكون إسرائيل متورطة في عملية إسقاط المروحية. إذ إن هناك اتجاهات عديدة في طهران ما زالت تروج لذلك. لكن النظام الذي ما زال متردداً في حسم مسألة الرد على إسرائيل عسكرياً بسبب اغتيالها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية" في طهران في 31 يوليو 2024، لا يريد مواجهة ضغوط أكبر لتبني هذا الخيار، الذي بدأ يرى أنه سوف يفرض كُلفة عالية، قد لا تتوافق مع حساباته ومصالحه في الوقت الحالي.وربما يمكن القول إن النظام الإيراني يواجه خيارات صعبة في هذا الصدد. إذ إنه إذا رد عسكرياً فإنه قد يتعرض لضربة مضادة قد لا تكون بالضرورة من جانب إسرائيل فقط. في حين أنه إذا عزف عن تبني هذا الخيار، فإنه يكون بذلك قد ناقض تهديداته الصاخبة التي أعقبت عملية الاغتيال، والتي لخصها المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي" بقوله إن "الرد على اغتيال هنية واجب على إيران".من هنا، فإن النظام حرص على تأكيد أن إسرائيل ليس لها دور في إسقاط المروحية، حتى لا يضيف ضغوطاً جديدة إلى الضغوط القائمة التي يتعرض لها حالياً من أجل توجيه ضربة عسكرية إلى تل أبيب بعد الضربة التي شنها حزب الله في 25 أغسطس 2024 رداً على اغتيال إسرائيل للقيادي العسكري البارز في الحزب "فؤاد شكر" في 30 يوليو 2024، وقد أكدت تل أبيب أنها وجهت ضربة استباقية لتحييد تداعياتها عليها.2- حرص هيئة الأركان على نفي اتهامات التقصير: كان لافتاً أن وكالة أنباء "فارس" -التابعة للحرس الثوري- نشرت تقريراً في 20 أغسطس 2024، تضمن انتقادات غير مباشرة إلى هيئة الأركان المشتركة التابعة للجيش الإيراني، والمسؤولة -حسبما أشارت التقارير- عن تأمين رحلات وزيارات الرئيس. فقد كشف التقرير أنه "خلافاً لبروتوكولات السلامة، فإن المروحية كانت تحمل شخصين إضافيين زائدين على حمولتها، ولهذا لم تكن لديها القوة الكافية للوصول إلى الارتفاع المطلوب على نحو أدى إلى اصطدامها بجبل". وهنا، تدخلت هيئة الأركان -التي كانت أول مؤسسة تشكل لجنة للتحقيق في الحادث في 20 مايو 2024- ورفضت هذا التقرير، واعتبرت أن ما جاء به عارٍ تماماً عن الصحة.هنا، يمكن القول إنه كانت هناك محاولة، ربما لم تكن بعيدة عن الحرس الثوري، لتحميل هيئة الأركان، ومن ثم الجيش الإيراني، المسؤولية عن الإهمال الذي أدى إلى حدوث كارثة سقوط مروحية الرئيس ومرافقيه، على نحو لا ينفصل عن تصاعد حدة التنافس بين المؤسستين خلال الأعوام الأخيرة، وهو ما يبدو جلياً في مسارعة الحرس والجيش إلى تعزيز قدراتهما العسكرية. وربما يكون تزايد الحديث عن قرب إقدام روسيا على تسليم إيران مقاتلات "سوخوي 35" سبباً في تأجيج هذا التنافس، خاصةً مع إشارة تقارير عديدة إلى أن الجيش هو الذي سيتسلم المقاتلات.3- استبعاد فرضية "المؤامرة الداخلية": في ظل الأزمات العاصفة التي تواجهها إيران خلال المرحلة الحالية على المستويين الداخلي والخارجي، كان لافتاً أن بعض الاتجاهات على شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع التابعة للمعارضة الإيرانية، ادعت أنه لا يمكن استبعاد فرضية العمل التخريبي من الداخل، بمعني تورط أطراف في النظام لديها مصلحة في إبعاد الرئيس السابق "إبراهيم رئيسي" عن المشهد السياسي خلال الفترة القادمة، في ظل الاستحقاقات المهمة التي يمكن أن تشهدها إيران، ولا سيما اختيار المرشد القادم خلفاً لـ"علي خامنئي".وقد كان من ضمن هذه الادعاءات تورط "مجتبى خامنئي" نجل المرشد الأعلى في عملية إسقاط المروحية، في ظل التنافس الذي يتم الترويج له بين الأول والرئيس السابق "إبراهيم رئيسي" على من سيخلف المرشد الحالي في منصبه، لا سيما وأن "رئيسي" كان يحظى بمكانة سياسية ودينية مرموقة تفوق مكانة "مجتبى" نفسه، على نحو كان من الممكن أن يقلص من فرص الأخير في وراثة منصب أبيه.وبصرف النظر عن مدى صحة تلك الرواية من عدمها، فإنها في النهاية كانت جزءاً من الجدل الذي شغل المجال العام في إيران خلال الأشهر الثلاثة الماضية، لا سيما وأن الحديث عمن سيخلف المرشد "خامنئي" في منصبه لا يتوقف في إيران، في ظل تقدم الأخير في العمر، فضلاً عن إصابته سابقاً بمرض سرطان البروستات. ومن هنا، يبدو أن مسارعة النظام إلى تأكيد سقوط المروحية بفعل العوامل الجوية كانت، في قسم منها، محاولة لنفى هذه الفرضية، التي كان من الممكن أن تتسبب في نشوب أزمات داخل مؤسسات النظام نفسه، في ظل الخلافات القائمة بينها والتي تتفاقم تدريجياً بسبب الصراع على النفوذ والمصالح.4- الترويج لأهمية رفع عقوبات الغرب عن طهران: جاء الكشف عن التقرير النهائي للجنة التحقيق في سقوط مروحية "رئيسي" في توقيت مواتٍ للرئيس الإيراني الجديد "مسعود بزشكيان" ووزير الخارجية "عباس عراقجي". فقد أعلنا أن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران سوف يكون على قمة أولوياتهما خلال الأعوام الأربعة القادمة، في ظل التداعيات السلبية التي فرضتها تلك العقوبات، والتي طالت مختلف المجالات والقطاعات داخل إيران، وفي مقدمتها قطاع الطيران المدني المتهالك بشدة بسبب عدم قدرة إيران على توفير قطع الغيار اللازمة لصيانة الطائرات، وهو ما كان سبباً أساسياً في حوادث سقوط الطائرات المدنية، وآخرها المروحية التي كانت تقل رئيس الجمهورية نفسه خلال زيارته لمحافظة أذربيجان الشرقية.ويعني ذلك أن الرئيس وطاقمه الحكومي سوف يسعى خلال المرحلة القادمة من أجل استغلال هذا التقرير لإضفاء وجاهة خاصة على التحركات التي سوف يقوم بها من أجل تجديد التفاوض مع الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، حول الاتفاق النووي، بهدف الوصول إلى صفقة جديدة تعالج الخلل الذي يعاني منه الاتفاق في الوقت الحالي، وبالتالي التمهيد لرفع القسم الأكبر من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، خاصةً فيما يتعلق بالصادرات النفطية واستخدام نظام "سويفت" في التعاملات المصرفية.نظرية المؤامرةفي ضوء ذلك، يمكن القول إن نظرية المؤامرة سوف تكون أحد محاور الجدل المتصاعد داخل إيران خلال المرحلة القادمة. ويعود ذلك في المقام الأول إلى تفاقم الأزمات التي يواجهها النظام داخلياً وخارجياً. فعلى الصعيد الداخلي، لم يؤدِّ انتخاب الرئيس "مسعود بزشكيان" إلى تقليص حدة التوتر القائم بين النظام والشارع، في ظل إصرار الأول على فرض قيود اجتماعية شديدة، بل إن الرئيس نفسه بات يتعرض لانتقادات شديدة بسبب مواقفه من بعض القضايا، وفي مقدمتها قضية الحجاب. كما يبدو أن ثمة خلافات بين مؤسسات النظام ليس فقط حول قضية خلافة "خامنئي"، وإنما أيضاً حول طبيعة ومدى الرد العسكري ضد إسرائيل.وعلى المستوى الخارجي، تتفاقم حدة الخلافات تدريجياً مع الدول الغربية حول ملفات عديدة، من ضمنها الدعم العسكري الإيراني لروسيا، وتصاعد الأنشطة النووية، والتدخلات الإيرانية في الأزمات الإقليمية، فيما تتزايد احتمالات انخراط إيران في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل كأحد ارتدادات الحرب التي تشنها الأخيرة في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، بالتوازي مع تآكل الردع الإقليمي الذي عملت إيران على بنائه على مدى الأعوام الخمسة والأربعين الماضية، بفعل الضربات والاختراقات الإسرائيلية، فضلاً عن الحشد العسكري الأمريكي المكثف بالقرب من حدود إيران.

لماذا يتواصل الجدل حول سبب سقوط طائرة "رئيسي"؟