إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

رغم اتساع نطاق الخلافات بين إيران والدول الأوروبية خلال الفترة الماضية، فضلاً عن رفض إيران التجاوب مع دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للوصول إلى صفقة جديدة حول الاتفاق النووي؛ فإن ذلك لم يمنع إيران والدول الأوروبية من إجراء مفاوضات جديدة تناولت الاتفاق والملفات الخلافية الأخرى؛ إذ أعلن وزير الخارجية عباس عراقجي، في 26 فبراير 2025، أن إيران ودول الترويكا الأوروبية الثلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، عقدت جولة جديدة من المفاوضات في جنيف قبل يومين، تناولت الاتفاق النووي والملفات الأخرى، وأضاف أن هذه المفاوضات رغم أنها تشهد صعوداً وهبوطاً، فإنها سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة. ومن دون شك، فإن حرص الطرفين على مواصلة هذه المفاوضات رغم اتساع نطاق الخلافات، لا ينفصل عن السياسة الجديدة التي يتبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سواء تجاه إيران أو إزاء أوروبا نفسها، فضلاً عن الاختبارات الصعبة التي سوف يواجهها الاتفاق النووي خلال العام الحالي.أسباب عديدةيمكن تفسير حرص إيران ودول الترويكا الأوروبية على مواصلة المفاوضات رغم اتساع نطاق الخلافات فيما بينها في ضوء أسباب عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:1– التخوف من السياسات الأمريكية في عهد ترامب: وهو متغير لا يقتصر على إيران فحسب، بل يمتد إلى الدول الأوروبية نفسها؛ إذ إن الأخيرة لم تَعُد تُبدِي ثقة كبيرة بإمكانية الرهان على الحليف الأمريكي في مواجهة التهديدات الأمنية العاصفة التي تواجه القارة الأوروبية خلال المرحلة الحالية، والتي تبلورت بشكل واضح خلال الحرب التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا منذ فبراير 2022، ويُتوقَّع أن تشهد تحولات مهمة في ظل التفاهمات الأمريكية–الروسية الحالية. وقد بدا لافتاً، على سبيل المثال، أن المرشح الأبرز لمنصب المستشار الألماني فريدريش ميرتس طالب كلاً من بريطانيا وفرنسا بتوسيع نطاق حمايتهما الأمنية النووية لأوروبا لتحقيق استقلال القارة عن الولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء السياسات التي يتبناها الرئيس ترامب.وربما يؤشر ذلك على أن أوروبا لا تثق بأن المفاوضات الأمريكية–الروسية يمكن أن تتمخض عن تسوية تستوعب أمنها ومصالحها، وهو ما ينطبق أيضاً في الرؤية الأوروبية، عن المقاربة الأمريكية تجاه إيران، التي قد تستوعب مصالح إسرائيل بشكل أكبر من مصالح أوروبا. ومن هنا، فإن الدول الأوروبية تسعى، عبر استمرار التفاوض مع إيران، إلى توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاح أمامها للتعامل مع إيران وإدارة ترامب في آن واحد، بدلاً من التعويل فقط على السياسة التي يتبعها ترامب إزاء إيران، التي أثبت، خلال ولايته الأولى، أنها لم تنجح في دفع الأخيرة نحو تغيير سياستها والاستجابة للضغوط والعقوبات الأمريكية.2– توسيع إيران هامش الخلافات الأمريكية الأوروبية: وهو هدف تعمل إيران باستمرار على تحقيقه، مهما اختلفت الظروف والتطورات؛ إذ إن ذلك معناه، وفقاً لرؤية طهران، عدم وجود كتلة غربية متماسكة ضدها. وقد نجحت إيران خلال الولاية الأولى لترامب في الاستفادة من هذا التباين، على نحو بدا جلياً، على سبيل المثال، في فشل إدارة ترامب في تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، في أغسطس 2020، يقضي بتمديد الحظر الأممي المفروض على إيران في مجال الأسلحة التقليدية؛ إذ امتنعت الدول الأوروبية عن التصويت، واستخدمت روسيا والصين حق الفيتو، وهو ما أدى في النهاية إلى فشل المشروع الذي لم تؤيده سوى دولتين فقط؛ هما الولايات المتحدة ا أمريكية وجمهورية الدومينيكان؛ ما مثَّل هزيمة سياسية كبيرة لإدارة ترامب.ويبدو أن إيران تعول على إمكانية أن تنجح في توسيع هامش الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية حول الملفات التي ترتبط بها، على غرار الاتفاق النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والدعم الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية، والنفوذ الإقليمي لإيران في الشرق الأوسط، على نحوٍ يدفعها إلى الحرص على مواصلة تلك المفاوضات.3– مساعٍ إيرانية لتحييد خطر "آلية الزناد": لا تستبعد إيران أن تلجأ الدول الأوروبية إلى استخدام آلية الزناد (SnapBack)، التي تتيح إعادة فرض العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران وتم تعليقها بعد الوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1" في يوليو 2025. وتستند إيران في هذا السياق إلى أن هذه الآلية ستكون هي الخيار الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه الدول الأوروبية من أجل الحيلولة دون نجاح إيران في تحقيق هدف استراتيجي مهم في 18 أكتوبر 2025، وهو اليوم الذي يسمى في الاتفاق النووي بـ"يوم النهاية" الذي ستنتهي بمقتضاه وصاية مجلس الأمن الدولي على الاتفاق النووي، وسترفع نهائياً العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران.ومن هنا، فإن طهران تسعى، عبر استمرار التفاوض مع الدول الأوروبية، إلى تقليص احتمالات لجوء الأخيرة إلى هذا الخيار الذي سيفرض عواقب وخيمة على إيران؛ لأنه سوف يثبت أنها طرف غير ملتزم بالاتفاق النووي، وسيؤدي إلى مضاعفة العقوبات المفروضة عليها لتتحول من عقوبات غربية إلى عقوبات دولية، على نحوٍ سوف يزيد حدة الضغوط التي تتعرض لها، خاصة على المستوى الاقتصادي.4–تحوُّط طهران الاستباقي ضد تحولات سياسة روسيا: تبدي إيران قلقاً واضحاً إزاء التحولات المحتملة في السياسة الروسية على خلفية المفاوضات التي تجري حالياً بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت بلقاء وزيري الخارجية في الرياض، في 18 فبراير 2025، وربما تنتهي بلقاء مباشر بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب، من أجل تسوية الأزمة التي أنتجتها الحرب الروسية في أوكرانيا.وفي رؤية طهران، فإنها سوف تكون عنواناً رئيسياً ضمن أي صفقة محتملة بين موسكو وواشنطن خلال المرحلة القادمة، سواء لجهة الدعم العسكري الذي تقدمه لروسيا لمساعدتها في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، أو لجهة الدعم العسكري الذي يحتمل أن تقدمه روسيا لإيران لمساعدتها في إدارة التصعيد العسكري مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث عادت وسائل الإعلام الإيرانية مجدداً للإشارة إلى احتمال إبرام صفقة بين إيران وروسيا لشراء مقاتلات "سوخوي 35".من هنا، فإن إيران تسعى، عبر الحفاظ على قنوات تواصل مع الدول الأوروبية، إلى التحوط مبكراً من احتمالات حدوث تحول في السياسة الروسية تجاهها، كأحد أثمان الصفقة المحتملة مع إدارة ترامب حول أوكرانيا، وهو مسار من الممكن أن يعرض إيران لضغوط وعواقب وخيمة إذا ما وجدت أنها أصبحت أمام كتلة غربية متماسكة ضدها دون وجود ظهير دولي قوي يستطيع تقليص الضغوط التي يفرضها ذلك عليها، وهو روسيا التي مارست هذا الدور بشكل واضح قبل الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، وواصلت المهمة خلال فترة الصراع السوري المسلح التي بدأت في مارس 2011؛ حيث تعاونت مع إيران بشكل مكثف من أجل مساعدة نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد على مواجهة الفصائل المسلحة، حتى نجاح الأخيرة بدايةً من 28 نوفمبر 2024 في السيطرة على معظم المدن السورية الرئيسية إلى أن وصلت إلى العاصمة دمشق؛ حيث أعلنت سقوط النظام.عقبات عديدةختاماً، لا يمكن القول إن إيران تستطيع الحفاظ على هذا المسار الإيجابي في العلاقات مع الدول الأوروبية لفترة طويلة؛ فالخلافات العالقة بين الطرفين ليست ثانوية، ولا يمكن تسويتها بسهولة، فضلاً عن أن التواريخ العاجلة التي سوف يصل إليها الاتفاق النووي قريباً يمكن أن تضع مزيداً من العقبات أمام استمرار هذه المفاوضات، لا سيما أن إيران ما زالت مصرة على مواصلة تبني سياسات تثير حفيظة الدول الأوروبية، خاصةً على صعيد اعتقال وإصدار أحكام بالسجن والإعدام ضد بعض مزدوجي الجنسية من تلك الدول، على نحوٍ يضع الأخيرة أمام خيار واحد هو التصعيد مع إيران، وربما الانضمام لاحقاً إلى الحملة الأمريكية الحالية التي تهدف إلى دفع إيران نحو إجراء مفاوضات حول الملفات الخلافية كافة.

دوافع استمرار المفاوضات بين إيران وبعض القوى الأوروبية