إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

على الرغم من طابعها البروتوكولي المتمثل في كونها "زيارة الدولة" الأولى التي يقوم بها رئيس فرنسي إلى ألمانيا منذ نحو 24 عاماً، ورغم أنها أتت بالتزامن مع الذكرى السنوية الـ75 لإقرار الدستور الألماني الحالي (المعروف باسم Grundgesetz)؛ فإن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ألمانيا، التي بدأت في 26 مايو 2024 وامتدت لـ3 أيام، كانت تحمل أبعاداً أخرى وسياسية بامتياز؛ بحيث كانت تهدف إلى تجاوز الخلافات الألمانية الفرنسية حول بعض الملفات الأوروبية المهمة؛ بدءاً من الحرب في أوكرانيا ووصولاً إلى التبادلات التجارية الأوروبية، وهي الملفات التي كان يمنع التوصُّلَ فيها إلى حلول وسط تباينُ وجهات النظر الاستراتيجية بين الدولتَين، بالإضافة إلى طبيعة العلاقة التي تُوصَف بالمتنافرة بين ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز.دلالات رئيسيةيمكن الإشارة إلى أهم الدلالات التي حملتها زيارة الرئيس الفرنسي إلى ألمانيا بالتالي:1– تقديم الدعم للديمقراطية الألمانية: جرت الاحتفالات بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين للقانون الأساسي لعام 1949، الذي يرمز بشكل خاص إلى تكريس الحقوق الأساسية في الدستور الألماني بعد سقوط النظام النازي، في سياق سياسي متوتر يتسم بعودة اليمين المتطرف إلى واجهة الأحداث السياسية؛ حيث يحتل حزب البديل من أجل ألمانيا AFD المركز الثاني في بعض استطلاعات الرأي بنسبة 17%؛ ومن المتوقع أن يحقق نتائج تاريخية في بعض ولايات ألمانيا الشرقية بالانتخابات الإقليمية في سبتمبر 2024.وكذلك وقعت في ألمانيا مؤخراً عدة أحداث أدت إلى تزايد المخاوف من حدوث ارتداد عن الديمقراطية وعودة إلى الاستبداد؛ حيث أدين القيادي البارز بحزب البديل من أجل ألمانيا بيورن هوكي، في شهر مايو 2024، لاستخدامه شعاراً نازياً، كما صرح رئيس قائمة حزب البديل من أجل ألمانيا في الانتخابات الأوروبية ماكسيميليان كراه بأن أفراد قوات الأمن الخاصة خلال حقبة النازيين ليسوا جميعاً مجرمين، بالإضافة إلى انتشار مقاطع فيديو لمجموعة من الشباب وهم يغنون شعاراً نازياً قديماً معادياً للأجانب؛ لذلك فإن الرئيس الفرنسي حرص بشكل خاص على عدم تفويت فرصة المشاركة في هذا الاحتفال مع الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير على الرغم من تزامنها مع تدهور الوضع في كاليدونيا الجديدة.2– التعبئة ضد اليمين المتطرف قبل الانتخابات الأوروبية: حيث كان لافتاً خلال أول محطة في الزيارة، إعراب الرئيس الفرنسي ماكرون في 26 مايو 2024، عن قلقه بشأن الانبهار بالاستبداد الذي ينتشر في الديمقراطيات الأوروبية، كما ذكَّر ماكرون بأنه أمام هذا العدد غير المسبوق من أعداء الخارج والداخل، لا بد من التصويت في الانتخابات الأوروبية بعد أقل من أسبوعين للدفاع عن الديمقراطية.كما اعتبر الرئيس الفرنسي أن أوروبا تمر بلحظة وجودية، ويمكن أن تموت، في تكرار للموقف الذي أطلقه في جامعة السوربون في 25 أبريل 2024، كما شدد ماكرون أمام الرئيس الألماني على فكرة أنه لو كان اليمين المتطرف في السلطة خلال السنوات الخمس الماضية لما كانت هناك خطة أوروبية موحدة لشراء لقاحات كورونا، ولما تم إقرار مشروع التعافي الأوروبي، ولما كانت هناك استجابة أوروبية لمواجهة تحديات الهجرة، ولما كان لدى الأوروبيين صفقة خضراء وخطة مشتركة لإدارة إزالة الكربون، بالإضافة إلى التخلي عن أوكرانيا ودعم روسيا، كما دعا شتاينماير بدوره إلى وجوب "قيام تحالف بين الديمقراطيين في أوروبا؛ لأن الحرية والسلام والديمقراطية لا تسقط من السماء".3– تعزيز الصلات بين باريس والمجتمع المدني الألماني: مضى 24 عاماً على آخر زيارة دولة لرئيس فرنسي إلى ألمانيا منذ زيارة جاك شيراك في عام 2000. ويريد ماكرون إحياء هذا التقليد، رافعاً عدد زيارات الدولة إلى 6 في تاريخ العلاقات الفرنسية مع ألمانيا: الأولى كانت في عام 1962 مع شارل ديجول، ثم في عام 1981 مع فاليري جيسكار ديستان، وفي 1987 و1989 مع فرنسوا ميتران، وفي عام 2000 مع جاك شيراك. وبالمفهوم الدبلوماسي الفرنسي، فإن زيارات الدولة ليست زيارات عمل عادية ومخصصة لمناقشة موضوع محدد، أو تجمع حصرياً بين الرئيسَين، لكنها مناسبة لتوطيد العلاقات بين دولتين شريكتين بحيث تكون الزيارة طويلة نسبياً، ويتضمن برنامجها – بالإضافة إلى الاجتماعات بين الرئيسَين – لقاءات متنوعة بين الرئيس الضيف وهيئات من المجتمع المدني في الدولة المستضيفة.لذلك فإن زيارة ماكرون امتدت لثلاثة أيام؛ حيث التقى الرئيس شتاينماير والمستشار أولاف شولتز، كما تضمن برنامج الزيارة في 27 مايو إلقاء خطاب مُوجَّه للشعب الألماني، باشره ماكرون وأنهاه باللغة الألمانية؛ ما أثار إعجاب الحضور في كاتدرائية دريسدن التي دمَّرها الحلفاء في عام 1945، والتي أعيد إعمارها في عقد التسعينيات من القرن الماضي؛ حيث دعا في هذا الخطاب إلى قيام أوروبا قوية وموحدة. ولقد كان لافتاً رمزية اختيار ماكرون هذه المدينة في ألمانيا الشرقية للتكلم منها؛ لأن حزب البديل من أجل ألمانيا يتمتع بحضور واسع فيها، كما أن حركة بيجيدا Pegida المناهضة للمهاجرين وُلِدت فيها في عام 2014، بالإضافة إلى أن النازيين الجدد يجتمعون فيها في كل عام لإحياء ذكرى محرقة القنابل، حسب تسميتهم، المرتبطة بقصف دريسدن من قِبَل الحلفاء خلال نهاية الحرب العالمية الثانية، التي خلَّفت – حسب وجهات نظرهم – ما لا يقل عن 100 ألف قتيل.4– تأكيد الروابط القوية التي تجمع بين باريس وبرلين: ولقد كان من المقرر إجراء هذه الزيارة في يوليو 2023، لكن ماكرون اضطر إلى تأجيلها بعد اندلاع أعمال الشغب في فرنسا في يونيو 2023. وتهدف هذه الزيارة، حسب أغلب القراءات، إلى تذكير الشعبَين الألماني والفرنسي، وخاصةً الشباب، بعمق علاقة الصداقة التي تربط بينهما؛ وذلك قبل أسابيع قليلة من بطولة اليورو لكرة القدم التي ستُقام في ألمانيا، والألعاب الأولمبية التي تليها والتي ستُقام في باريس.5– محاولة تجاوز الخلافات بين الدولتين بشأن حرب أوكرانيا: جاءت زيارة الرئيس الفرنسي في وقت تشهد فيه العلاقات الفرنسية–الألمانية فتوراً، في حين أن السياق الجيوسياسي الأوروبي الراهن يتطلب عكس ذلك؛ أي المزيد من التفاهم والتضامن الراسخَين، خصوصاً بعد أن أثارت الحرب في أوكرانيا العديد من الخلافات بين الدولتين؛ ففي حين أن برلين تخشى أن تصبح روسيا أكثر خطورةً مع احتمال لجوئها إلى الخيار النووي إذا شعرت بأنها قريبة من الهزيمة في أوكرانيا؛ فإن باريس تعتبر أنه إذا لم تُهزَم روسيا فستُهدِّد أوروبا مرةً أخرى بمجرد إعادة تشكيل قواتها، كما يرى الألمان أن الحرب في أوكرانيا أكدت الأهمية الحاسمة للولايات المتحدة الأمريكية ولحلف شمال الأطلسي في حماية أوروبا، فيما يعتبر الفرنسيون أن أوروبا لا يجب أن تعتمد في المستقبل على الولايات المتحدة فقط من أجل الدفاع عن نفسها.فرص التقارب أتاحت هذه الزيارة فرصة البحث في مواضيع خلافية بين الدولتين؛ حيث جرى إحراز تقدم في بعضها، فيما احتاج بعضها الآخَر إلى المزيد من التداول؛ حيث نوجز خلاصة ذلك بالتالي:1– الدعوة لبناء نموذج اقتصادي أوروبي جديد: قبل الزيارة، دعا ماكرون إلى نموذج جديد للاقتصاد وللنمو في أوروبا، معرباً – في مقابلة مع صحيفة ليكسبريس الفرنسية L`Express في 22 مايو 2024– عن أنه سيحاول إقناع المسؤولين الألمان بهذا النموذج. ويقوم المقترح الفرنسي على إطلاق مبادرة لإنعاش النمو في أوروبا وتشجيع التوصُّل إلى اتفاق مع الطرف الألماني من أجل تمويل المشاريع الأوروبية الكبرى بعد الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024، خصوصاً أن الطرفين الفرنسي والألماني يَعتبران أن أوروبا تُواجِه عقبات استثمارية وعلى أكثر من صعيد.وخلال الزيارة، دعا ماكرون إلى تشديد القواعد التجارية للاتحاد الأوروبي ومضاعفة ميزانيته؛ من أجل تجنب التدهور الاقتصادي في مواجهة الولايات المتحدة والصين؛ لأن أوروبا – حسب رأيه – هي آخر مكان ينفتح على بقية العالم دون قواعد للتعامل بالمثل.2– الترويج لمفهوم "التفضيل الأوروبي": ولقد اعتبر ماكرون أن الأوروبيين بحاجة إلى بلورة استراتيجية أوروبية قائمة على "التفضيل التجاري الأوروبي" في مجال الدفاع والفضاء والشراء لضمان المنافسة العادلة، كما شجع الرئيس الفرنسي على مضاعفة حجم موازنة الاتحاد الأوروبي عبر مضاعفة الاستثمار أو عبر الاقتراض المشترك. وتعتبر بعض التحليلات أن ماكرون تمكن من الحصول على دعم المستشار الألماني أولاف شولتز؛ حيث تجلى ذلك في المقال المشترك لهما الذي نشرته صحيفة فايننشال تايمز في 27 مايو 2024 الذي اعتبرا فيه أنه لا يمكن اعتبار الأسس التي بني عليها أسلوب الحياة الأوروبي ودور أوروبا في العالم أمراً مفروغاً منه، محذرين بأن أوروبا قد تكون معرضة للموت؛ لذلك يجب الارتقاء إلى مستوى هذا التحدي.3– مواصلة خطاب الرئيس الفرنسي الداعم لكييف: كرر ماكرون في الأشهر الأخيرة دعوته حلفاء أوكرانيا إلى مضاعفة الدعم لكييف، وألا يستبعدوا خيار إرسال قوات عسكرية على الأرض في أوكرانيا. وتعارض ألمانيا مع عدد من الدول الأوروبية هذه الفكرة، كما اعتبر وزير الدفاع الألماني أن النقاش الأوروبي حول كيفية دعم أوكرانيا يجب ألا يتحول إلى شجار حول من هو شجاع أكثر. وتعتبر ألمانيا نفسها غير مقصرة في هذا المجال، خصوصاً أنها أكبر مساهم أوروبي في المساعدات لأوكرانيا، وتسبق بفرنسا في هذا المجال.كما تضاف إلى الانتقادات الفرنسية لألمانيا في هذا المجال مسألة رفض برلين تسليم صواريخ توروس الألمانية إلى أوكرانيا، في حين أن باريس زودت أوكرانيا بصواريخ سكالب البعيدة المدى. وخلال الزيارة وتحديداً خلال الخطاب الذي ألقاه في دريسدن، اعتبر ماكرون أن السلام لا يعني استسلام أوكرانيا، بل إن السلام الذي يقبله الأوروبيون هو ما يقرره الأوكرانيون، محذراً من انعكاسات "هبوب الرياح الشريرة على أوروبا إذا لم يستيقظ الأوروبيون".4– استمرار التباين حول فكرة الردع الأوروبي: أعلن ماكرون، في الخطاب الذي ألقاه في جامعة السوربون في 25 أبريل 2024، أنه مستعد لفتح النقاش بشأن الدفاع الأوروبي وكيفية الاستفادة أوروبياً من الأسلحة النووية الفرنسية. ورحب المستشار الألماني شولتز بموقف ماكرون الذي اعتبر فيه أن هناك بعداً أوروبياً للسلاح النووي الفرنسي، ولكن شدد على أن أوروبا بحاجة إلى تعاون أوثق؛ فبالإضافة إلى الردع النووي، يجب تصور وجود قوات تقليدية قوية ودفاع جوي وصاروخي، بالإضافة إلى قدرات إلكترونية وفضائية وقدرات هجومية عالية الدقة. وهذا الموقف يبدو أنه لم يتغير كثيراً في الزيارة.5– التشديد الفرنسي على أهمية الإطار الأمني المشترك الأوروبي: خلال الزيارة، اعتبر ماكرون أن الأوروبيين محتاجون إلى التفكير في الإطار الأمني المشترك، والتوقف عن كونهم قوميين بالكامل أو أطلسيين بالكامل؛ لأنه لا يمكن الرد على التحديات الحالية إلا بالتفكير كأوروبيين. ويتحقق ذلك حين تشعر ألمانيا أن بإمكانها الاعتماد على فرنسا، وتشعر فرنسا أن بإمكانها الاعتماد على ألمانيا، كما كانت الجلسة المشتركة لمجلس الوزراء الفرنسي–الألماني التي انعقدت في ميسيبيرج في 28 مايو 2024، فرصة للاتفاق على خط مشترك للعمل على الأجندة الأوروبية الجديدة بعد الانتخابات الأوروبية.ختاماً، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خلال هذه الزيارة، وبالتعاون مع المستشار الألماني أولاف شولتز، إرسال رسالة قوية حول متانة العلاقات الفرنسية الألمانية التي تعتبر المحرك الرئيسي لمشروع الوحدة الأوروبي، على الرغم من وجود بعض التباينات؛ وذلك لتعزيز ثقة الأوروبيين باستدامة هذا المشروع، كما حاولت هذه الزيارة تسليط الضوء على التهديدات الوجودية التي تواجه هذا المشروع، والتي تتلخص – وفقاً لوجهة النظر الفرنسية – في تقدُّم تيارات اليمين المتطرف، والمنافسة الاقتصادية غير العادلة مع الصين والولايات المتحدة، والحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا.

ما مآلات زيارة الرئيس الفرنسي إلى ألمانيا؟