د. ياسمين كالميت

توفي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنري كيسنجر" عن عمر يناهز 100 عام في 29 نوفمبر الماضي. وكان كيسنجر واحداً من أبرز اللاعبين في السياسة الأمنية والخارجية للولايات المتحدة، كما كان أكثر المسؤولين إثارةً للجدل. تمتَّع كيسنجر بذكاء حاد؛ حيث كان مفكراً مرموقاً في الدبلوماسية الدولية. أثارت سياساته بعض المعارضة، وشكَّلت قراراته القوية والفعالة ضد الشيوعية مسار التاريخ الدولي. كان كيسنجر عبقرياً في السياسة الواقعية (Realpolitik)، ولم يقتصر إرثه على السياسة الأمريكية فحسب، بل امتد إلى أمريكا اللاتينية أيضاً.مسيرة تاريخيةانحدر كيسنجر من عائلة ألمانية يهودية، وسافر مع أسرته إلى الولايات المتحدة هرباً من النازية والتشدد الديني ضد اليهود تحت حكم الحزب الشيوعي الألماني، وحصل فيما بعد على الجنسية الأمريكية. درس كيسنجر العلوم السياسية في جامعة هارفارد، وواصل مسيرته الأكاديمية أستاذاً ومديراً لقسم الدراسات الدفاعية بالجامعة. عَمِل مستشاراً أمنياً لوكالات استخباراتية أمريكية تحت إدارة عدة رؤساء أمريكيين؛ من بينهم أيزنهاور، وكينيدي، وجونسون قبل أن يصبح مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية تحت إدارتي نيكسون وفورد. واستمر كيسنجر في إسداء المشورة لعدة رؤساء أمريكيين لاحقين، مثل جورج بوش وكلينتون وجورج بوش الابن، لا سيما بعد هجمات 11 سبتمبر.خلال الحرب الباردة، تبنى كيسنجر سياسة موازنة القوة من خلال تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كما سعى إلى توطيد الروابط الدبلوماسية مع الصين؛ حيث اعترف نيكسون بتايوان كأراضٍ صينية عام 1972. علاوةً على ذلك، أدار حواراً مع الاتحاد السوفييتي حول منع انتشار الأسلحة.وفي هذا السياق، يذكر أن كيسنجر استطاع أن يجد بعض الثغرات التي قام من خلالها بتخفيف حدة التوتر بين القوتين العظميين في هذا الوقت. مع ذلك، فإن بعض سياسات كيسنجر كانت ضارة؛ كان مسؤولاً عن قصف كامبوديا ولاوس، والانقلابات العسكرية في تشيلي والأرجنتين، و"عملية كوندور" في أمريكا الجنوبية. وسعى كيسنجر طوال الوقت إلى جعل واشنطن القطب العالمي الأوحد، يتبع خطاها سائر القوى الأخرى.النفوذ الأمريكي سعى كيسنجر إلى الإطاحة بالحكومات الاشتراكية، وتعزيز الحضور الأمريكي في أمريكا الجنوبية. بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية، قام بزعزعة الاستقرار في تشيلي والإطاحة برئيسها سلفادور أليندي، وكذلك الإطاحة بأرتورو إيليا في الأرجنتين. إن دعم كيسنجر أنظمة الحكم الدكتاتورية العسكرية في هذه الدول استهدف ضمان الحد من توسع الشيوعية، وبقاء الولايات المتحدة القوة الأعظم عالمياً.في عام 2001، أظهرت بعض الوثاق التي كُشف عنها السرية أن كيسنجر كان بالفعل متورطاً في الانقلابات العسكرية في الأرجنتين وتشيلي؛ حيث قال في أحد خطاباته إن "بينوشيه قام بعمل رائع في دعم الغرب بإطاحته بأليندي". امتد أثر هذا الانقلاب إلى سائر دول المنطقة مثل الدومينو؛ حيث صعدت الأنظمة الدكتاتورية العسكرية في عدة دول، وتم استخدامها كأدوات للمراقبة والسيطرة على التوسع الشيوعي.كانت حكومتا الأرجنتين وتشيلي من أكثر الحكومات العسكرية عنفاً في أمريكا الجنوبية؛ حيث منعتا الأحزاب السياسية وقمعتا الصحافة واستخدمتا العنف ضد المعارضة. يشار إلى أن أكثر من 30 ألف شخص اختفوا أو قتلوا في الأرجنتين، وأن 40 ألفاً واجهوا المصير نفسه في تشيلي. على الصعيد الاقتصادي، اعتمدت الحكومات في الدولتين على الولايات المتحدة وحققت "معجزات" زائفة أثناء تنفيذها سياسات نيوليبرالية اقتصادية فاقمت عدم المساواة في الدولتين.لقد هدفت عملية كوندور إلى زيادة مبيعات الأسلحة الأمريكية في المنطقة، وتعزيز دور القوات المسلحة بدول القارة في حماية الانضباط السياسي من ناحية، وتعميق التدخل الأمريكي في دول القارة من ناحية أخرى. عززت هذه العملية التعاون بين الدكتاتوريات في البرازيل وتشيلي وأوروجواي وباراجواي والأرجنتين وبوليفيا لقمع كل من يحاول معارضة تلك الحكومات أو يدعم الشيوعية. أدت عملية كوندور إلى اختفاء نحو 40 ألف شخص من دول المنطقة المختلفة.أعطى التحضير لهذه العملية وتنفيذها الفرصة أمام واشنطن لتطوير مواقع استراتيجية في المنطقة، والترويج للبرامج النووية. تلقت البرازيل الدعم الأكبر في هذا المجال. وقال كيسنجر حينها إن البرازيل كانت إحدى أعمدة السياسة الأمريكية في أمريكا اللاتينية، وستظل حليفاً استراتيجياً هاماً للحفاظ على التعاون مع دول أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى مساعدة الولايات المتحدة على الاستفادة من القطاع النووي في البرازيل.النظرية الجيوسياسيةشكَّل كيسنجر ما يُعرف اليوم بالنظرية الجيوسياسية، ودفعت آراؤه وقراراته مجتمع العلوم السياسية والعلاقات الدولية في أمريكا اللاتينية إلى تطوير أفكار جديدة لفهم السياسة الدولية والسياسة الواقعية، بالإضافة إلى أهمية القيادة في العلاقات الدبلوماسية، كما أثارت آراؤه عن النظام العالمي جدلاً حول ضرورة استمرار اللاعبين الفاعلين في حل الصراعات الدبلوماسية، أم أن هناك حاجة لظهور لاعبين جدد. وأثارت نظرية كيسنجر أيضاً انتقادات حول العنصرية الغربية للحداثة؛ حيث رأى أنها تقتصر على الحلفاء الغربيين وليس غيرهم من الدول.خلاصة القول: كان كيسنجر عبقرياً محبوباً من البعض ومكروهاً من البعض الآخر، وكان برجماتياً في محاولاته لتعزيز مصالح الولايات المتحدة حول العالم، ورجلاً ميكافيلياً بامتيازـ ما زال النظام العالمي الحالي يحاول استيعاب استراتيجياته المعقدة؛ ففي المجمل، حاول كيسنجر طرح نظريات في كل ما رآه ضرورياً في السياسة الواقعية، وترك إرثاً هائلاً ومثيراً للجدل.

ما إرث سياسات هنري كيسنجر في أمريكا اللاتينية؟