عودة اليمين:

أسفرت نتائج جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية الأرجنتينية، التي جرت في 19 نوفمبر الجاري، عن فوز "خافيير ميلي" الليبرتاري اليميني المتطرف، بعد حصوله على 55.7% من الأصوات مقابل 44.3% لمنافسه "سيرجيو ماسا" مرشح "الاتحاد من أجل الوطن" اليساري الحاكم، الذي أقر بالهزيمة. تُمثل هذه النتيجة مفاجأة للعديد من المراقبين؛ لكونها مخالفة لنتائج الجولة الأولى التي جرت في 22 أكتوبر الماضي؛ حيث كان ماسا متصدراً، وحصل على 36% من الأصوات، على خافيير ميلي من حزب "تقدم الحرية" الذي جاء في المركز الثاني، بنسبة 30 % من الأصوات. يضاف إلى ذلك أن انتصار ميلي، بآرائه المتطرفة، يمكن أن يكون له تداعيات جوهرية على الأوضاع الداخلية في الأرجنتين، وشبكة علاقاتها الخارجية.


دلالات جوهرية

يُعد فوز ميلي برئاسة الأرجنتين، التي ستبدأ فعلياً في 10 ديسمبر القادم، ترجمة لبعض التطورات التي تشهدها البلاد مثل غيرها من بلدان أمريكا اللاتينية؛ حيث يستدعي هذا الفوز عدداً من الدلالات الجوهرية المتمثلة فيما يلي:


1– انتصار اليمين المتطرف: يُمثل انتصار اليمين المتطرف في الأرجنتين استثناءً من موجة صعود اليسار إلى السلطة في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية خلال السنوات الأخيرة، كما أنه يعكس عودة مرتقبة لليمين المتطرف إلى المشهد السياسي اللاتيني بعد الانتكاسة التي تعرض لها الرئيس اليميني المتطرف للبرازيل "جايير بولسونارو"، الذي فشل في إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية خلال الانتخابات التي جرت العام الماضي، كما فشل "أنطونيو كاست" مرشح اليمين المتطرف في الفوز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في كولومبيا في ديسمبر 2021.


في الوقت نفسه، فإن فوز ميلي يُمثل انعكاساً لضعف الأحزاب التقليدية في الأرجنتين، بما في ذلك حزب "معاً من أجل التغيير" الذي يُمثل تيار يمين الوسط مع هزيمة مرشحته "باتريشيا بولريش" في الجولة الأولى، ناهيك عن هزيمة مرشح الائتلاف اليساري الحاكم. يأتي هذا التحول متسقاً أيضاً مع الصعوبات التي تواجهها حكومات يسارية أخرى مثلما الحال مع كولومبيا، في ظل فشل الأحزاب المتحالفة مع الرئيس "جوستافو بترو" في تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت في 29 أكتوبر 2023؛ حيث فاز ممثلو أحزاب المعارضة والمستقلون بأغلبية حكام الولايات ورؤساء البلديات وأعضاء المجالس والمناصب المحلية الأخرى، بما في ذلك العاصمة بوجوتا.


2– سيادة نمط التصويت لصالح التغيير: يُمثل انتصار ميلي غير المحسوب على الطبقة السياسية الحالية – حيث انتخب نائباً في الكونجرس عام 2021 – بمنزلة زلزال سياسي في ثاني أكبر بلدان أمريكا اللاتينية، ويُعد تعبيراً عن حالة الغضب الشديد بسبب عقود من سوء الإدارة للحكومات اليسارية التي هيمنت على الحياة السياسية في الأرجنتين على مدار ستة عشر عاماً؛ لذلك سيطر على الناخبين شعور عارم بأن مرشح الائتلاف الحاكم لن يكون قادراً على تبني نهج مختلف عن سياسات الحكومة الحالية للرئيس "ألبرتو فرنانديز". وكان تفوق ميلي على ماسا بنحو 3 ملايين صوت – وهو أكبر هامش فوز في سباق رئاسي منذ عودة الأرجنتين إلى الديمقراطية في عام 1983 – تأكيداً لرغبة الناخبين في الانفصال عن النخب وكذلك السياسات الحالية.


من ناحية أخرى، يُمثل التصويت لصالح ميلي، امتداداً لنمط التصويت الذي غلب على الانتخابات الرئاسية التي شهدتها عدة بلدان في أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة، وهو النمط الذي ارتبط بانتخاب شخصيات وأحزاب من خارج دوائر النخبة السياسية الحاكمة؛ وذلك في البرازيل، وكولومبيا، وتشيلي، وهندوراس، وكوستاريكا، وجواتيمالا، والإكوادور.


3– أولوية الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية: يأتي تصويت الناخبين لصالح ميلي ترجمة لحالة الإحباط الواسع النطاق من قبل الناخبين على خلفية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتكررة، مع ارتفاع التضخم السنوي إلى أكثر من 140% وتسجيل معدل الفقر 40% من إجمالي السكان البالغ عددهم 45 مليون نسمة، وارتفاع حجم الديون؛ حيث إنها أكبر مدين لصندوق النقد الدولي (44 مليار دولار)، وهو الأمر الذي يفسر الدعم الواضح الذي حظي به من الطبقات الوسطى والدنيا، وخاصة بين الشباب.


مع ذلك، لا يمكن إنكار أهمية الدعم الذي تلقاه ميلي من الرئيس الليبرالي السابق ماوريسيو ماكري (2015–2019)، الذي ساهم في نهاية المطاف في إقناع الناخبين المترددين بالتصويت لصالح ميلي؛ وبذلك تمكن من الحصول على معظم الأصوات البالغ عددها 6.2 مليون صوت التي حصلت عليها باتريشيا بولريتش وزيرة الأمن السابقة في حكومة ماكري في الجولة الأولى. فقد فاز بـ21 من أصل 24 دائرة انتخابية في البلاد، بما في ذلك قرطبة وسانتا في ومندوزا ثاني أكبر مقاطعة بعد بوينس أيرس.


4– اشتداد حدة الاستقطاب السياسي: غلبت حالة الانقسام وتبادل الاتهامات بين مرشحي الرئاسة الأرجنتينية خلال الحملة الانتخابية. وامتدت حالة الاستقطاب السياسي بشأن انتخابات الأرجنتين إلى بقية بلدان أمريكا اللاتينية، مع إعلان رؤساء دول ينتمون إلى اليسار علانية دعهم مرشح الائتلاف الحاكم في مواجهة ميلي. كان من بين هذه الدول كل من البرازيل، وكولومبيا، والمكسيك. وبينما دعا الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا" الناخبين في الأرجنتين إلى التصويت لصالح ماسا، أيد سلفه "جايير بولسونارو" انتخاب ميلي. وقد هنأ الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" ميلي على فوزه، ودعاه إلى "جعل الأرجنتين عظيمة مرة أخرى ".


تأثيرات مرتقبة

من المرجح أن يكون لتولي ميلي رئاسة الأرجنتين نتائج مهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي بالنسبة إلى سياسة الأرجنتين، ومن بينها:


1– محاولة إحداث تغيير جذري في السياسات الداخلية: وعد ميلي، عقب إعلان فوزه بالرئاسة، بإجراء "تغييرات جذرية" لمعالجة "الواقع المأساوي" للأرجنتين، كما بعث برسالة إلى المجتمع الدولي: "ستعود الأرجنتين إلى المكان الذي ما كان ينبغي أن تفقده أبداً"، لكن مما يُثير المخاوف بشأن نهج ميلي، تحذيراته من أنه سيكون قاسياً للغاية على الذين يقاومون "بعنف" التغييرات التي يقترحها، وأضاف بعد فوزه في الانتخابات أنه "لن يكون هناك تدرج أو فتور". وقال: "إذا لم نتحرك بسرعة إلى الأمام مع التغييرات الهيكلية التي تحتاجها الأرجنتين، فسوف نتجه نحو أسوأ أزمة في التاريخ، لكننا اليوم نتبنى مرة أخرى أفكار الحرية لنصبح قوة عالمية".


وخلال حملته الانتخابية، تعهد ميلي بإلغاء البنك المركزي كما تعهد دولرة الاقتصاد، بجانب إضفاء الشرعية على بيع الأعضاء، وإغلاق أكثر من اثنتي عشرة وزارة، منها وزارتا التعليم والصحة بهدف الحد من حجم الحكومة الوطنية وتقليل الإنفاق العام، وكذلك القضاء التدريجي على برامج الرعاية الاجتماعية وخصخصة القطاع الصحي. ووعد الرئيس الأرجنتيني المنتخب أيضاً بإلغاء الإجهاض – الذي كان قانونياً في الأرجنتين منذ عام 2020 – وإلغاء القاعدة التي تمنع القوات المسلحة من المشاركة في مهام الأمن الداخلي.


2– صعوبات حقيقية في تنفيذ المقترحات الأكثر راديكاليةً: إن انتخاب ميلي السياسي الراديكالي، ربما يقود إلى حالة من الغموض بشأن مستقبل البلاد، وسيكون عليه صياغة حلول ناجحة للمشكلات الهيكلية التي تعاني منها الأرجنتين، خاصة عجز الموازنة وانخفاض قيمة العملة، وهذا سيتطلب منه التفاوض مع الذين وصفهم خلال الحملة الانتخابية بـ"اليساريين القذرين" و"حثالة البشر". بوجود 38 نائباً فقط من حزب ميلي من أصل 350 نائباً في مجلس النواب، و8 مقاعد فقط من أصل 72 مقعداً في مجلس الشيوخ، فإنه سيحتاج إلى دعم نواب حزب "معاً من أجل التغيير" للرئيس السابق "ماكري" البالغ عددهم 94 نائباً.


وسيبقى من المهم متابعة كيفية تنفيذ ميلي واحدة من مقترحاته الراديكالية، خاصة ما يتعلق بدولرة الاقتصاد والتخلي عن البيزو الأرجنتيني واستخدام الدولار الأمريكي عملةً لها؛ إذ لم يسبق لأي دولة بحجم الأرجنتين أن سلمت مقاليد سياستها النقدية إلى صانعي القرار في واشنطن؛ ما سيؤدي إلى فقدانها سيادتها الوطنية على الاقتصاد. مع ذلك، يرى بعض المحللين أن هذه الخطوة مهمة للسيطرة على التضخم الجامح، الذي يمثل واحداً من أعلى المعدلات في العالم. وتجدر الإشارة إلى أنه سبق أن قامت الإكوادور والسلفادور بدولرة اقتصاديهما لمكافحة التضخم.


3– تفاقم الاضطرابات الاجتماعية والسياسية: من المرجح أن تشهد الأرجنتين حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وربما تتأجج الاحتجاجات الشعبية والإضرابات الوطنية التي ستنظمها النقابات العمالية القوية بالفعل، اعتراضاً على خطط ميلي غير المكترثة لتغير المناخ، والدافعة أيضاً نحو خفض الإنفاق الاجتماعي، خاصة في قطاعي الصحة والتعليم، اللذين تقدمهما الدولة مجاناً منذ عام 1983. يمكن أن تتفاقم أعمال العنف السياسي إذا تابع ميلي رؤيته المتطرفة للأرجنتين بدون التشاور مع بقية القوى السياسية الرئيسية في البلاد.


تتعزز المخاوف أيضاً بشأن تشكيك ميلي في الإجماع الذي دام أربعة عقود حول جرائم الدكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين 1976–8319، والتي قتل خلالها ما يقدر بنحو 30 ألف شخص على يد النظام العسكري. مرشحته لمنصب نائبة الرئيس هي فيكتوريا فيلارويل عضوة الكونجرس المحافظة المتطرفة، قللت بدورها من خطايا الدكتاتورية العسكرية.


4– غموض بشأن مستقبل التكامل الإقليمي: من المرجح أن يعزز ميلي التقارب بين الأرجنتين والحكومات اليمينية في أمريكا اللاتينية، خاصة في الإكوادور، وباراجواي، وأوروجواي، والسلفادور، على حساب الحكومات اليسارية، وبالتحديد البرازيل، في ظل انتقادات ميلي المتكررة للرئيس "لولا دا سيلفا" باعتباره "شيوعياً فاسداً"، وهو الأمر الذي يمكن أن ينعكس بالسلب أيضاً على التكتل التجاري "ميركوسور" (البرازيل، والأرجنتين، وباراجواي، وأوروجواي)، الذي تعهد ميلي بالانسحاب منه.


ورغم تأكيد رئيس باراجواي "سانتياجو بينيا" الذي تتولى بلاده الرئاسة الحالية لميركوسور، أن مستقبل التكتل لن يتأثر بنتائج انتخابات الأرجنتين، فإن الواقع يشير إلى أن التكتلات الإقليمية في أمريكا اللاتينية غالباً ما تتأثر بالعلاقات الشخصية بين قادة الدول؛ حيث تتعزز جهود التكامل في ظل وجود حكومات يسارية في الحكم، بينما تعاني التجمعات الإقليمية من الجمود والتعثر في ظل تباين التوجهات السياسية للحكومات اللاتينية.


5– إعادة صياغة العلاقات الدولية للأرجنتين: من المرجح أن يُعيد ميلي تشكيل خريطة الشركاء الدوليين للأرجنتين، من ناحية تعزيز التقارب مع الولايات المتحدة وفك الارتباط مع الصين، في ظل تعهداته الانتخابية بقطع العلاقات مع أكبر شريك تجاري ومستثمر للبلاد، قائلاً: "أنا لا أعقد صفقات مع الشيوعيين".


مع ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها الأرجنتين ربما ستدفع الرئيس المنتخب إلى التراجع عن هذه الوعود الانتخابية، لصالح المزيد من التبادل التجاري مع الصين، الذي بلغ نحو 55 مليار دولار في العام الماضي؛ أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف قيمة التجارة مع الولايات المتحدة (شريكها التجاري الثالث) وهو ما سبق أن تكرر في حالة الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو، الذي تراجع عن انتقاداته للصين، وعمل على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع بكين بالرغم من الضغوط الأمريكية.


وفي الوقت نفسه، لوح ميلي في تجمع انتخابي مؤخراً بالعلم الإسرائيلي، وقبل أشهر صرح: "إذا توليت الرئاسة، فسوف أنحاز إلى الولايات المتحدة وإسرائيل حليفين رئيسيين. مستوى التحالف مع إسرائيل عميق لدرجة أنني أعتزم نقل السفارة الأرجنتينية من تل أبيب إلى القدس".


ربما التطور الأبرز الجدير بالملاحظة انتقاد ميلي الشديد لتجمع بريكس "الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا"، وسيبقى لنرى مدى جديته في تنفيذ تعهداته برفض دعوة البريكس للأرجنتين للانضمام إلى التجمع في يناير 2024.


من جملة ما سبق، يمكن القول إنه برغم فوز ميلي غير المتوقع في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية – وذلك بفارق كبير عن منافسه المرشح عن الائتلاف اليساري الحاكم – فإن قدرته على الحكم تظل مسألة محفوفة بالمخاطر والتحديات، بسبب عدم امتلاك حزبه الأغلبية في الكونجرس وصعوبة الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها الأرجنتين، والتي ستتطلب منه مزيداً من المرونة والبرجماتية حتى يكون قادراً على المضي قدماً لتنفيذ تعهداته الانتخابية.