شهدت السنوات الأخيرة تصاعد الاهتمام الدولي بمفهوم الاقتصاد الأخضر الذي تمت صياغته لأول مرة في تقرير صدر في عام 1989 عن حكومة المملكة المتحدة، من قبل مجموعة من الاقتصاديين البيئيين الرائدين بعنوان مخطط الاقتصاد الأخضر. وفي عام 2008، أُعيد إحياء المصطلح خلال المناقشات حول استجابة السياسات للأزمات العالمية المتعددة في سياق الأزمة المالية العالمية. وعلى خلفية ذلك، أطلق برنامج الأمم المتحدة للبيئة مبادرة الاقتصاد الأخضر في أكتوبر 2008 لتوفير لدعم السياسات للاستثمار في القطاعات الخضراء وتخضير القطاعات غير الصديقة للبيئة. ومنذ ذلك الوقت، شهد مصطلح الاقتصاد الأخضر وسبل تحقيقه، اهتماماً دوليّاً بصورة موسعة، في إطار المساعي العالمية الرامية إلى خفض الانبعاثات الكربونية ومكافحة التغير المناخي.

وفي هذا الصدد، يُعرَّف الاقتصاد الأخضر بأنه اقتصاد منخفض الكربون، وفعال من حيث استغلال الموارد، وشامل اجتماعيّاً؛ حيث يكون النمو من خلاله في التوظيف والدخل مدفوعاً بالاستثمارَين العام والخاص في مثل تلك الأنشطة الاقتصادية والبنية التحتية والأصول التي تسمح بتقليل انبعاثات الكربون والتلوث، وتعزيز كفاءة الطاقة والموارد، ومنع فقدان التنوع البيولوجي وخدمات النظام الإيكولوجي.

أبعاد رئيسية

يتميز الاقتصاد الأخضر بتعدد أبعاده البيئية والاجتماعية والاقتصادية، ويمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:

1– المساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة: يهدف الاقتصاد الأخضر إلى تحسين عمليات الإنتاج وممارسات الاستهلاك بغية تقليل استهلاك الموارد وتوليد النفايات والانبعاثات عبر دورة الحياة الكاملة للعمليات والمنتجات، فضلاً عن تعزيز الطرق التي يتم من خلالها استخدام الموارد لتقديم قيمة للمجتمع. ويوفر الاقتصاد الأخضر نهجاً اقتصاديّاً كليّاً للنمو الاقتصادي المستدام مع التركيز في الأساس على الاستثمارات والتوظيف والمهارات.

بيد أن الاقتصاد الأخضر وإن كان لا يمكن أن يحل محل التنمية المستدامة بمفرده؛ إذ ليس النمو الأخضر ببديل عن التنمية المستدامة، لكنه يوفر نهجاً عمليّاً ومرناً لتحقيق تقدم ملموس وقابل للقياس عبر ركائزه الاقتصادية والبيئية، بما يسهم بصورة رئيسية في تحقيق التنمية المستدامة؛ إذ يستطيع أن يترك تأثيراً قويّاً على الاقتصاد والاستثمار ورأس المال والبنية التحتية والعمالة والمهارات والنتائج الاجتماعية والبيئية الإيجابية، كما أنه يعد بمنزلة تغيير شامل وتحويلي للوضع العالمي الراهن، بما يشكل فرصة تفرض ضرورة استغلالها وتعظيم فوائدها.

2– القيام بدور مساعد لتعزيز الازدهار: على اعتبار أنالاقتصاد الأخضر محوره الناس، فإن الغرض منه خلق ازدهار حقيقي ومشترك، والتركيز على تنمية الثروة التي تدعم تلك الرفاهية، بيد أن الثروة في هذا السياق ليست مالية فحسب، بل تشمل النطاق الكامل لرؤوس الأموال البشرية، والاجتماعية، والمادية، والطبيعية. إذ يسهم الاقتصاد الأخضر بدوره في إعطاء الأولوية للاستثمار والوصول إلى النظم الطبيعية المستدامة والبنية التحتية، وتقديم المعرفة والتعليم اللازم لجميع الناس، كما يوفر فرصاً لسبل العيش الخضراء اللائقة للمؤسسات والوظائف. وإن كان الاقتصاد الأخضر يقوم على الخيارات الفردية إلا أنه يُبنى على العمل الجماعي من أجل تحقيق المنافع العامة.

3– تعزيز المساواة وتمكين الفئات الضعيفة: يتميز الاقتصاد الأخضر بكونه شاملاً وغير تمييزي؛ حيث يفترض المشاركة في صنع القرار والفوائد والتكاليف بشكل عادل، ويدعم بشكل خاص تمكين المرأة، كما يعزز التوزيع العادل للفرص والنتائج، ويقلل التفاوتات بين الناس، مع توفير مساحة كافية لتحسين جودة الحياة البرية، مع العمل كذلك بشكل عاجل على معالجة الفقر والظلم المتعدد الأبعاد في الواقع العالمي الراهن. وكذلك يعمل الاقتصاد الأخضر على تحقيق التضامن والعدالة الاجتماعية، وتعزيز الثقة والروابط الاجتماعية، ودعم حقوق الإنسان، وحقوق العمال، والشعوب الأصلية والأقليات، والحق في التنمية المستدامة، فضلاً عن دوره في تمكين المشروعات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، والمؤسسات الاجتماعية، وسبل العيش المستدامة، ويسعى بدوره إلى انتقال سريع وعادل للطاقة، وتمكين الفئات الضعيفة كي تضطلع بدور أكبر في عمليات الانتقال الاقتصادي والمجتمعي، وتشجيع الابتكار في الحماية الاجتماعية وإعادة تشكيل المهارات.

4– تحفيز إعادة الاستثمار في الطبيعة: يدرك الاقتصاد الأخضر الشامل القيم المتنوعة للطبيعة، ويعمل على استرجاعها والاستثمار فيها، ومنها القيم المرتبطة بتوفير السلع والخدمات التي يقوم عليها الاقتصاد، والقيم الثقافية للطبيعة التي تدعم المجتمعات. وهو يقر كذلك بقابلية الاستبدال المحدودة لرأس المال الطبيعي؛ حيث يتبنى المبدأ الوقائي لتجنب فقدان رأس المال الطبيعي الحرج وخرق الحدود البيئية، ويستثمر في حماية وتنمية واستعادة التنوع البيولوجي والحفاظ على الأنظمة الطبيعية، كما يسهم في تعزيز الابتكار في إدارة النظم الطبيعية، وتحقيق المواءمة بين سبل عيش المجتمع المحلي القائمة على التنوع البيولوجي والأنظمة الطبيعية.

5– التوجه الداعم للتنمية الاقتصادية: يحافظ الاقتصاد الأخضر الشامل المنخفض الكربون على الموارد؛ نظراً إلى كونه متنوعاً ودائريّاً؛ حيث يتبنى نماذج جديدة للتنمية الاقتصادية للمساهمة في تعزيز ازدهار الكوكب، بيد أن ذلك يُشترط لتحقيقه إحداث تحول عالمي كبير للحد من استهلاك الموارد الطبيعية إلى مستويات مستدامة ماديّاً، وهو أمر ضروري لتلبية رفاهية الناس. وبالتوازي مع ذلك، يمكن للاقتصاد الأخضر مواءمة الأسعار والإعانات والحوافز مع توفير التكاليف الحقيقية التي يتحملها المجتمع، من خلال آليات تستهدف تعزيز الفوائد والأرباح للذين يسيرون خطوات خضراء شاملة.

6– دعم إجراءات مكافحة التغير المناخي: يمكن للاقتصاد الأخضر المساهمة في تحسين جودة المياه والتربة والهواء والبيئة، التي تلعب دوراً في حياة الإنسان، وتشكل جزءاً مهماً من العديد من القطاعات التي تساهم في نمو الاقتصاد. ومن المشروعات التي تدعم تحقيق ذلك، مشروعات الطاقة المتجددة التي تلعب دوراً محوريّاً في خفض التلوث البيئي وتقليل الانبعاثات الكربونية، والمساهمة في مكافحة التغير المناخي.

متطلبات الدعم

ثمة متطلبات رئيسية يحتاجها العالم في سبيل تحقيق الاقتصاد الأخضر وتعزيز دوره ووجوده عالميّاً:

1– تعزيز دور القطاع الخاص في الاستثمارات الخضراء: يمكن للحكومات تعظيم فوائد الاقتصاد الأخضر من خلال تعزيز الاستثمارات الخضراء وتمكينها على نحو واسع، وهو ما يمكن تحقيقه عبر مزيد من الإنفاق العام المستهدف لقطاعات الاقتصاد الأخضر وإجراء إصلاحات للسياسات المعيقة لتلك النوعية من الاستثمارات، فضلاً عن إدخال تغييرات على الضرائب واللوائح لتيسير وتسهيل الاستثمارات الخضراء، والدفع قدماً نحو مزيد من إطلاق المشروعات الخضراء، إضافة إلى تقديم الحوافز للمستثمرين من القطاع الخاص، بما يعزز جهود التحول الأخضر عالميّاً. بيد أن الاقتصاد الأخضر يتطلب من الشركات الاعتراف على الجانب الآخر بمسؤوليتها الاجتماعية وإدراكها أهمية دورها ومشاركتها، واعتماد عمليات جديدة تساعد على تقليل تأثيرها البيئي قدر الإمكان.

2– دعم الشراكات بين أصحاب المصلحة: من أجل دفع الاقتصاد الأخضر قدماً، فإن ذلك يمكن أن يتحقق عبر دعم الشراكات بين أصحاب المصلحة المختلفة لتعزيز الاقتصاد الأخضر، بغية تسريع وتوحيد التغييرات المستدامة في أنماط الاستهلاك والإنتاج على حد سواء. ومن أصحاب المصلحة هؤلاء الحكومات والمنظمات غير الهادفة للربح، فضلاً عن القطاع الخاص الذي تهتم الأمم المتحدة بزيادة مشاركته في العمل المناخي، على اعتباره جهة فاعلة ومهمة للغاية في تعزيز كفاءة الموارد والاقتصاد الأخضر.

3– استغلال الاقتصاد الأخضر في توفير فرص عمل: انطلاقاً من قدرة الاقتصاد الأخضر على تقديم المزيد من الأفكار التجارية المبتكرة واكتشاف أسواق جديدة، ومن ثم خلق فرص عمل جديدة، فإن بإمكان الحكومات الاستفادة من ذلك، في إتاحة الفرصة أمام رواد الأعمال لبدء أعمالهم التجارية الخاصة في الاقتصاد الأخضر والمشاريع المرتبطة به، ومن ثم توظيف المزيد من الأشخاص، بما يؤدي بالتبعية إلى تحقيق الاستقرار المجتمعي، الذي يمكن أن يؤثر بإيجابية على الاقتصاد الكلي للدولة؛ حيث من شأن اهتمام صانعي السياسات بالاقتصاد الأخضر، وتعزيز فرصه في الاقتصاد أن يكون له انعكاساته الإيجابية الاقتصادية والاجتماعية.

4– توسيع الفرص الاقتصادية الخضراء: لا يزال العالم يواجه تحدياً مزدوجاً، يتمثل في توسيع الفرص الاقتصادية في سياق تزايد عدد سكان العالم، ومعالجة الضغوط البيئية التي إذا تُركت دون معالجة، فستُقوِّض القدرة على اغتنام تلك الفرص. ولعل النمو الأخضر يمثل الآلية القادرة على مواجهة تلك التحديات واستغلال الفرص، عبر دوره في تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية مع ضمان استمرار الأصول الطبيعية في توفير الموارد والخدمات البيئية التي يعتمد عليها في تحقيق الرفاهية. وفي ذلك الإطار، يحتم الأمر على صانعي السياسات تعزيز وتحفيز الابتكار الذي يعزز النمو المستدام ويسهم في خلق فرص اقتصادية جديدة.

وفي هذا الصدد، تُعَد سياسات النمو الأخضر جزءاً لا يتجزأ من الإصلاحات الهيكلية اللازمة لتعزيز نمو قوي وأكثر استدامةً وشموليةً، ومن ثم فإن من الممكن العمل على خلق محفزات نمو جديدة تسهم في تعزيز الإنتاجية وزيادة الكفاءة في استخدام الموارد الطبيعية، والحد من النفايات واستهلاك الطاقة، وإطلاق العنان لفرص الابتكار وخلق القيمة.

5– الربط بين الاستثمارات الخضراء وسياسات الحد من الفقر: يتطلب الانطلاق في تعظيم إمكانات الاقتصاد الأخضر، تعزيز ثقة المستثمرين من خلال زيادة القدرة على التنبؤ بكيفية تعامل الحكومات مع القضايا البيئية الرئيسية، وفتح أسواق جديدة من خلال تحفيز الطلب على السلع والخدمات والتقنيات الخضراء، والمساهمة في ضبط أوضاع المالية العامة من خلال تعبئة الإيرادات عبر إطلاق الضرائب الخضراء وإلغاء الإعانات الضارة بالبيئة، وهي التدابير التي من شأنها أن تساعد في توليد الموارد ضمن برامج مكافحة الفقر في مجالات كإمدادات المياه والصرف الصحي، أو غيرها من الاستثمارات الأخرى المقدمة لصالح الفقراء، والحد من مخاطر الصدمات السلبية للنمو نتيجة اختناقات الموارد، فضلاً عن خفض الآثار البيئية الضارة.

6– تصميم استراتيجيات نمو أكثر اخضراراً: يحتاج صانعو السياسات تصميم استراتيجيات نمو أكثر اخضراراً تتناسب مع ظروف دولهم، وتركز على ضمان قدرة الأصول الطبيعية على تحقيق إمكاناتها الاقتصادية الكاملة على أساس مستدام، بما في ذلك توفير خدمات دعم الحياة الممثلة في الهواء والماء النظيف والتنوع البيولوجي المرن اللازم لدعم إنتاج الغذاء وتأمين صحة الإنسان.

وهو ما يفرض على صانعي السياسات ضرورة النظر بعناية في كيفية إدارة أي مقايضات محتملة، والاستغلال الأفضل لأوجه التآزر بين النمو الأخضر والحد من الفقر، وتوفير بنية تحتية أكثر كفاءةً للناس في قطاعات الطاقة والمياه والنقل، ومعالجة سوء الحالة الصحية المرتبط بالتدهور البيئي وإدخال تقنيات فعالة، يمكن من خلالها أن تقلل التكاليف وتزيد الإنتاجية، وتخفف الضغط البيئي.

من ناحية أخرى، يجب على استراتيجيات النمو الأخضر أن تركز بشكل كبير على الناتج المحلي الإجمالي باعتباره مقياساً رئيسيّاً للتقدم الاقتصادي، دون تجاهل لمساهمة الأصول الطبيعية في الثروة والصحة والرفاهية، وهو ما يفرض ضرورة إعادة تعريف مقاييس التقدم، بما في ذلك جودة وتكوين النمو، وكيفية تأثير ذلك على ثروة الناس ورفاههم.

إجمالاً، لا يزال تعريف الاقتصاد الأخضر موضع نقاش، وإن كان قد تكوَّن بالفعل فَهم مشترك لهذا المفهوم على مدار السنوات الأخيرة، نتيجة زيادة الوعي بالأزمة البيئية وتغير المناخ، وتصاعد المناشدات بالحاجة إلى مزيد من تضمين البيئة داخل الاقتصاد العالمي. ويذكر في هذا الصدد أن النقاش حول الاقتصاد الأخضر يعد أمراً بالغ الأهمية؛ إذ يسهم في تحديد نوع الإجراءات المستدامة التي يمكن أن تتخذها البلدان والشركات والمجتمعات والأفراد في المستقبل لمكافحة التغير المناخي.

بيد أن ثمة تحديات قد تؤثر على مدى فاعلية وقدرة الاقتصاد الأخضر على إحداث تغيير طويل الأجل داخل الاقتصادات، تكمن في أن بعض البلدان لا تزال بعيدة عن روح ذلك الاقتصاد، ومن ثم فإن الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر في تلك البلدان يواجه صعوبات عدة؛ منها المشاكل البيئية المتزايدة، والفقر الشديد، فيما يعد تبني نظام اقتصادي أخضر في مناطق أخرى عملية معقدة، تتطلب تحليلاً اقتصاديّاً أكثر تعقيداً لمدى إمكانية مواءمة عمليات الاقتصاد الأخضر مع حالة ووضعية وإمكانات الدولة، وخبرات تكنولوجية فائقة واستعداد داخلي مُرحِّب بذلك التوجه الاقتصادي، بما في ذلك الحكومات والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والمواطنون على السواء.

كيف تعزز الدول مسار الاقتصاد الأخضر؟