شهدت موريتانيا الواقعة في إطار منطقة الساحل الأفريقي انتخابات رئاسية في 29 يونيو 2024، وقد خاض سباق التنافس الانتخابي سبعة مرشحين من بينهم الرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني"، والذي تم الإعلان عن فوزه بنسبة تتجاوز 56% من الأصوات. ويأتي إجراء هذه الانتخابات عقب إجراء آخر انتخابات رئاسية في عام 2019، والتي شهدت بدورها أول انتقال ديمقراطي للسلطة السياسية بين رئيسين منتخبين منذ حصول موريتانيا على استقلالها عن فرنسا في عام 1960، وهو ما شكل تحولاً عن المسار المعتاد لانتقال السلطة بشكل غير دستوري عبر آلية الانقلابات العسكرية والتي ظلت سائدة خلال الفترة (1978-2008)، وفي ضوء ما سبق يمكن فهم وقراءة الانتخابات الرئاسية في عام 2024 في ضوء عدد من الأبعاد الرئيسية من جانب، ومؤشرات دالة على اتجاهات التصويت من جانب آخر.

أبعاد رئيسية

ثمة جملة من الأبعاد الرئيسية التي يمكن في إطارها فهم وقراءة الانتخابات الرئاسية الموريتانية في عام 2024، والمتمثلة فيما يلي:

1- خوض الرئيس الحالي سباق المنافسة الانتخابية: دخل الرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني" سباق الانتخابات للحصول على الولاية الرئاسية الثانية على التوالي، حيث سبق وأن حسم مقعد الرئاسة لصالحه عبر الانتخابات الرئاسية السابقة التي جرت في عام 2019، ويسعى في هذا السياق لاستثمار سيطرة حزبه "الإنصاف" على الأغلبية في البرلمان "الجمعية الوطنية" في الانتخابات التي جرت في مايو 2023، حيث حصل حزبه على (107) مقاعد من بين (176) مقعداً.

علماً بأن الرئيس الحالي يبلغ من العمر (67) عاماً، واستطاع دخول المجال السياسي كممارسة بعد المؤسسة العسكرية التي تقاعد منها برتبة جنرال، حيث كان قائداً للأركان العامة للجيش ومديراً عاماً للأمن الوطني في عهد الرئيس السابق "محمد ولد عبد العزيز". كما يعتبر من أبرز القادة العسكريين الذين قادوا الانقلاب العسكري الذي جرى في عام 2008 ضد الرئيس المدني المنتخب "سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله"، كما شارك في الانقلاب العسكري الذي جرى ضد الرئيس الأسبق "معاوية ولد سيدي أحمد الطايع" في عام 2005.

2- دفع التيار الإسلامي بمرشح لخوض الانتخابات: تجسد ذلك من خلال قيام حزب "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية" المعروف باسم "تواصل" بترشيح رئيسه "حمادي ولد سيد المختار" لخوض غمار المنافسة الانتخابية، والذي تولى رئاسة الحزب منذ عام 2022. وقد ولد في عام 1975، ويعد أحد رموز الفقه والدعوة وتخصص في الشريعة الإسلامية، ودخل دائرة العمل السياسي حيث انتخب نائباً برلمانياً لمرتين متتاليتين عن دائرة مقاطعة "كيفه" في شرق موريتانيا، علماً بأن الحزب الذي ينتمي له يُعد حزباً إسلامياً معارضاً وامتداداً لتنظيم "الإخوان المسلمين" في الدولة. وتعد هذه المرة الأولى التي يقدم فيها الحزب مرشحاً عن صفوفه منذ قرابة عقد ونصف من الزمان، أي منذ عام 2009 تقريباً.

3- تعثر قدرة المعارضة السياسية على تقديم مرشح توافقي: تبلور ذلك من خلال عدم التفات المعارضة السياسية الموريتانية إلى الدفع بمرشح يحظى بقواعد توافقية واسعة المجال، وهو ما تجسد من خلال وجود خمسة مرشحين آخرين بخلاف مرشح التيار الإسلامي "حمادي ولد سيد المختار"، ويأتي على رأسهم المرشح "بيرام ولد الداه عبيد"، الذي ولد في عام 1965، وينحدر من عائلة عانت من العبودية، ولذا ظل مناهضاً للعبودية بشكل مباشر في البلاد، وعمل في أروقة المحاكم منذ عام 1988، وقد دخل إلى مجال العمل السياسي بشكل تدريجي، حيث كان المتحدث الرسمي لحملة المرشح الرئاسي الأسبق "الزين ولد زيدان" في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2007، وانتخب نائباً في البرلمان مرتين متتاليتين، وقد خاض سباق الانتخابات الرئاسية مرتين سابقتين، كانت الأخيرة منهما التي جرت في عام 2019، والتي تمكن خلالها من الحصول على المركز الثاني بعد حصوله على نحو (18.5%) من الأصوات، بيد أنه قد طعن في نزاهة ومصداقية نتائج هذه الانتخابات.

كما خاض سباق الانتخابات الرئاسية لعام 2024 المرشح "العيد ولد محمدين مبارك"، الذي ولد في عام 1979، وانتسب للهيئة الوطنية للمحامين في عام 2006، ويعمل حالياً عضواً في البرلمان ممثلاً عن "الجبهة الجمهورية للوحدة والديمقراطية"، والتي لديها (7) مقاعد في البرلمان، علماً بأنه كان أيضاً عضواً في البرلمان السابق الذي تم انتخابه في عام 2018، ويحظى بعلاقات مستقرة في الأوساط الأكاديمية والحقوقية، ويتميز خطابه بالاعتدال في القضايا الوطنية. ويضاف إلى ذلك المرشح "محمد الامين ولد الوافي"، الذي يعمل في مجال المحاسبة، وقد سبق له أن خاض الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2019، وكذلك المرشح "مامادو بوكاربا" وهو زعيم حزب "التحالف من أجل العدالة والديمقراطية"، ويدافع عن حقوق الزنوج الذين يعيشون في جنوب الدولة، فضلاً عن المرشح "أوتوما سوماري"، الذي يعمل كطبيب بشري.

4- تفاوت الأولويات الانتخابية للمرشحين: تبلور ذلك من خلال البرامج الانتخابية لكل مرشح، حيث رفع الرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني" شعار "التغيير الآمن"، وركز على محاربة الفساد وإنشاء مندوبية خاصة بحل مشاكل الشباب الذي يشكل نحو (65%) من النسيج المجتمعي، والاهتمام برفع معدل التوظيف لهم ولا سيما في ضوء أن نسبة البطالة تصل إلى نحو (31%)، وكذلك العمل على تكريس مناخ سياسي قائم على التهدئة والانسجام بين مختلف الفصائل السياسية. أما مرشح التيار الإسلامي "حمادي ولد سيد المختار" فقد تعهّد بخفض الأسعار، وإحداث إصلاح شامل وجذري في قطاع التعليم وتحقيق المساواة في الأجور بين الأساتذة والوزراء، مع التركيز على قضايا تعزيز الهوية الإسلامية ودعم التنمية الزراعية. في حين ركز المرشح "العيد ولد محمدين مبارك" على ضرورة إحداث التغيير الجذري في الدولة في ضوء إخفاقات النظام الحاكم الحالي، كما وعد بتعزيز واقع الحريات وتبني إصلاحات في مجال العقارات. وفيما يخص باقي المرشحين فقد تلاقت أولوياتهم الانتخابية في بعض القضايا الرئيسية، ولعل من أبرزها محاربة الفساد، وتحقيق الاستغلال الأمثل للثروات، وتمكين المرأة، وتعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.

5- استبعاد الرئيس السابق "محمد ولد عبد العزيز" من الانتخابات: على الرغم من سماح السلطات الرسمية للرئيس السابق "محمد ولد عبد العزيز"، الصادر بحقه حكم بالحبس لمدة ثلاث سنوات في ديسمبر 2023 على خلفية تهم متعلقة بالفساد، بتقديم أوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو 2024؛ إلا أن المجلس الدستوري رفض أوراق ترشحه وتم استبعاده وذلك في ضوء استنفاده عدد الولايات الرئاسية المحددة دستورياً بولايتين فحسب، حيث سبق له تولي مهام الحكم لولايتين متتاليتين في خلال الفترة (2008-2019) عقب استيلائه على السلطة السياسية في انقلاب عسكري، وقد رفض الرئيس السابق هذا القرار بشكل قاطع، وانتقد سياسات الرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني" بشدة، ووصف فترة حكمه بأنها "فاشلة".

6- تصاعد وتيرة انتقاد المعارضة لترتيبات الانتخابات: تجلى ذلك من خلال العديد من الشكاوى التي تقدم بها مرشحو المعارضة السياسية والتي تنصرف إلى وجود تحيزات من قِبل وسائل الإعلام الحكومية لصالح الرئيس الحالي وذلك قبل بدء عملية الاقتراع، وهو ما دعا خمسة مرشحين إلى الإعلان عن مقاطعة الإعلام الرسمي للدولة. وعلى جانب آخر، وجهت المعارضة السياسية اتهامات ضد اللجنة المستقلة للانتخابات بالفشل في ضمان حسن سير العملية الانتخابية، حيث دعت إلى إجراء فحص بيومتري لأسماء الناخبين، بيد أن اللجنة استبعدت هذا الإجراء انطلاقاً من أنه غير عملي نظراً لضيق الوقت.

وقد قام بعض المرشحين من قبيل "بيرام ولد الداه عبيد" باتهام اللجنة المستقلة للانتخابات بالتآمر مع الرئيس الحالي من أجل شراء الأصوات الانتخابية بالمال. وعلى الرغم من قيام الحكومة الموريتانية بتشكيل مرصد وطني لمراقبة الانتخابات، فإن المعارضة السياسية اعتبرت ذلك بمثابة أداة للتلاعب بالأصوات الانتخابية، ولا سيما في ظل وجود عدد قليل من المراقبين الدوليين، إذ أرسل الاتحاد الأفريقي نحو (27) مراقباً، وأرسل الاتحاد الأوروبي ثلاثة خبراء انتخابيين فحسب. ويعكس ذلك الوضع استمرار أزمة انعدام الثقة القائمة بين الأحزاب السياسية واللجنة المستقلة للانتخابات منذ الانتخابات التشريعية والبلدية التي جرت في عام 2023، حيث وجهت الأحزاب تهماً إلى اللجنة تتعلق بالمشاركة في عمليات التلاعب والتزوير خلال هذه الانتخابات.

7- تسجيل نسب مشاركة شعبية محدودة: من الملاحظ أن نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات لم تكن كبيرة، وهو ما يعكس عدم اقتناع الكثيرين بجدوى العملية الانتخابية. وفي هذا الصدد، أشارت التقديرات إلى تسجيل المشاركة في الانتخابات نحو 55%.

8- تأثير الحسابات العرقية في المشهد الانتخابي: على الرغم من فوز الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني في الانتخابات، فقد أظهرت النتائج تأثيراً ما للحسابات العرقية في المشهد الانتخابي؛ حيث نجح المرشح الرئاسي بيرام الداه عبيد، في تحقيق مكاسب ملحوظة بالمناطق ذات الأغلبية من الزنوج أو الحراطين، علاوة على المناطق التي ينتشر بها أفراد قوميته، وإن ظل الرئيس الغزواني قادراً على اكتساب أصوات هذه الفئات، كما حقق الغزواني مكاسب ملحوظة في العديد من الولايات الكبيرة ذات الأغلبية من القومية العربية البيضاء، مثل ولاية الحوض الشرقي وولاية الحوض الغربي.

مؤشرات دالة

ثمة جملة من المؤشرات الدالة على شكل اتجاهات التصويت خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في 29 يونيو 2024، والمتمثلة فيما يلي:

1- استمرار سيطرة الرئيس الحاكم على السلطة: فقد أظهرت النتائج المعلنة فوز الرئيس الحاكم "محمد ولد الغزواني" بحصوله على نحو (56%) من أصوات الناخبين، وهذا الفوز يعكس سيطرة الرئيس على مختلف أدوات التأثير ومؤسسات الدولة بحكم وجوده على رأس السلطة السياسية في الدولة، كما أنه يحظى بدعم من جانب المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية التقليدية المتمثلة في رجال الأعمال وشيوخ القبائل والأحزاب القريبة من السلطة. وكذلك لديه روابط بمختلف الحركات الصوفية ذات التأثير والتوجيه في مختلف أرجاء الدولة. فضلاً عن القدرة على استقطاب أكبر أحزاب المعارضة السياسية، حيث أعلن "تكتل القوى الديمقراطية" بقيادة "أحمد ولد داداه" وحزب التحالف الشعبي التقدمي الذي يترأسه "مسعود ولد البلخير" عن دعمه للرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني".

2- مواصلة الرئيس "الغزواني" التأكيد على نجاحه الأمني: عادة ما يروج الرئيس الحالي لقدرته على ضبط المشهد الأمني الداخلي، حيث لم تشهد الدولة أي عمليات إرهابية تقريباً منذ عام 2011 وذلك على الرغم من السياقات الإقليمية شديدة التعقيد في إطار منطقة الساحل الأفريقي، والمرتبطة بالأساس بموجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها كل من مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، خلال السنوات الأخيرة، وما صاحبها من ظروف عدم استقرار الأوضاع السياسية في إطار المراحل الانتقالية التي تمر بها هذه الدول، وأيضاً ما يرتبط بذلك من تنامي مصادر التهديدات العابرة للحدود من قبيل الإرهاب ومختلف أشكال الجرائم المنظمة والهجرة غير الشرعية. ويضاف إلى ذلك تعاظم تأثير السياسات التنموية للرئيس الحالي، ولعل من بينها إنشاء مندوبية عامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء "تآزر" التي تأسست في عام 2019، واستفاد منها أكثر من مليون وخمسمائة ألف مواطن.

3- استمرار معضلة التيار الإسلامي في موريتانيا: فقد واجه مرشح التيار الإسلامي "حمادي ولد سيد المختار" تحديات جمة تتمثل في تفكك قيادات حزبه، إذ انضم عدد منهم للنظام الحاكم، بينما أسس رئيسه السابق "محمد جميل منصور" حزباً جديداً وأعلن عن دعمه للرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني"، وكذلك محدودية القواعد الشعبية الداعمة لحزب هذا المرشح "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية"، وهو ما تبلور من خلال حصول الحزب على (11) مقعداً في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في عام 2023، بيد أنه بذلك قد حصد العدد الأكبر من المقاعد كحزب سياسي معارض في البرلمان "الجمعية الوطنية".

4- ضعف خطاب الحشد السياسي لقوى المعارضة: يعزز من ذلك غياب التوافق منذ البداية بين فصائل المعارضة السياسية ذات التوجهات "غير الإسلامية" حول الدفع بمرشح واحد في العملية الانتخابية وذلك على نحو يعكس تباين منظومة الأهداف والمصالح الذاتية لكل طرف، وهو ما يرجح معه تنامي ظاهرة "تفتيت الأصوات" الانتخابية بشكل كبير، وقطعاً سيصب ذلك في صالح تسهيل مهمة استمرار الرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني" في منصبه لولاية رئاسية جديدة، ويضاف إلى ذلك تصنيف بعض المرشحين من قِبل قطاع من الأوساط السياسية في الدولة على أن لديهم ميولاً أو انحيازاً لصالح الرئيس الحالي، وذلك من قبيل المرشح "العيد ولد محمدين مبارك"، وكذلك يواجه بعض المرشحين العديد من الصعوبات من قبيل المرشح "بيرام ولد الداه عبيد"، حيث يواجه انتقادات من قطاعات مجتمعية بفعل حرقه للكتب الفقهية، ووصفه عدداً من العلماء برموز السوء.

5- إمكانية تفاقم الاضطرابات الداخلية في موريتانيا: قد تدفع نتائج الانتخابات نحو تفاقم الاضطرابات الداخلية في موريتانيا، وخاصة مع رفض البعض النتائج، فقد أعلن "بيرام الداه عبيدي"، الذي يحتل المركز الثاني في الانتخابات بحوالي 22% من الأصوات، أنه لن يعترف بالنتائج الصادرة عن "اللجنة الوطنية المستقلّة للانتخابات التابعة للغزواني". ودعا إلى عصيان مدني سلمي احتجاجاً على "تزوير الانتخابات".

وختاماً، يمكن القول إن فرص بقاء الرئيس الحالي "محمد ولد الغزواني" في السلطة السياسية عبر الانتخابات الرئاسية لعام 2024 ارتبط بسيطرته على أدوات ومؤسسات الدولة المختلفة بحكم منصبه من جانب، وتفكك معسكر قوى المعارضة السياسية بشكل ملحوظ من جانب آخر، بيد أنه سيكون مطالب بالتعامل مع العديد من التحديات الرئيسية مع بدء ولايته الرئاسية الثانية، ولعل من أبرزها انتشار البطالة في صفوف الشباب، وزيادة التكاليف المعيشية، وملف الهجرة، واستشراء الفساد ولا سيما في ضوء وجود اتهامات من المعارضة بعودة رموز تابعة للأنظمة السابقة للمشهد السياسي في عهده.

ما دلالات نتائج الانتخابات الرئاسية الموريتانية؟