انتخب التايوانيون "لاي تشينج- تي"، في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، التي وصفتها الصين بأنها خيار بين الحرب والسلام، بعد أن أشارت بكين مراراً بأن "لاي" يدعم مسار الصدام المتواصل مع بكين. وتنافس 3 مرشحين على الرئاسة بالانتخابات التي جرت في دورة واحدة، وهم "لاي تشينج- تي"، الذي يتولى حالياً منصب نائب رئيسة تايوان، وينتمي مثلها إلى الحزب التقدمي الديمقراطي المؤيد للاستقلال، و"هو يو-إيه"، مرشح حزب كومينتانج الذي يُعتبر أقرب إلى بكين، ورئيس حزب الشعب التايواني الصغير "كو وين-جي".

أبعاد متعددة

تضمنت هذه الجولة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عدة أحداث نتيجة اهتمام المجتمع الدولي بها؛ لذلك يمكن تسليط الضوء على أبرز الأبعاد على النحو التالي:

1- حملات انتخابية "هادئة" محلياً: على عكس الأطر القائمة في الإعلام الدولي التي صورتها على أنها انتخابات "وجودية"، اتسمت الحملة الانتخابية لعام 2024 في تايوان بالهدوء، مقارنة بالحملات في الأعوام السابقة. ويشير ذلك إلى مناخ سياسي أقل حدةً مقارنةً بالانتخابات السابقة. وقد يشير أيضاً إلى ديمقراطية ناضجة؛ حيث لا يُنظر إلى الانتخابات على أنها قرارات وجودية، كما أن الافتقار إلى المرشحين الملهمين أو الاستقطابيين يمكن أن يشير إلى تحول نحو عملية ديمقراطية أكثر تطبيعاً في تايوان .

2- إقبال جماهيري متراجع نسبياً: انعكس هذا المناخ الهادئ بين المتنافسين في إقبال الناخبين، الذي بلغ 71.86%، وهو ثاني أقل معدل في تاريخ تايوان بعد أن وصل ذروته في دورة 2008 إلى 76.33%. ومن جانبه، أكد "لاي" أن إجراء الانتخابات في البلاد أظهرت للعالم أن الشعب التايواني يقاوم جهود القوى الخارجية للتأثير على هذه الانتخابات، وأن تايوان اختارت الوقوف بجانب الديمقراطية؛ إذ شجع "لاي" التايوانيين على الإدلاء بأصواتهم قبيل الانتخابات، مشدداً على أن كل صوت له قيمته، وأن هذه هي الديمقراطية التي اكتسبتها تايوان بشق الأنفس .

3- استمرار التأييد للحزب الديمقراطي: حيث تشير إعادة انتخاب مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي "لاي" لولاية ثالثة على التوالي رئيساً إلى استمرار هيمنة الحزب الديمقراطي التقدمي على السياسة التايوانية، وهو ما يشير إلى التفضيل المستمر بين الناخبين التايوانيين لحزب يميل تقليدياً نحو المواقف المؤيدة للاستقلال.

ويعد الحزب الديمقراطي التقدمي أول حزب سياسي يفوز بثلاث فترات متتالية منذ أن بدأ شعب الدولة الجزيرة في انتخاب رئيسهم بشكل مباشر في عام 1996. وكان رئيس تايوان المنتخب "لاي تشينج تي"، مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي التايواني، قد أعلن عن فوزه في انتخابات الرئاسة بـ40% من الأصوات، يليه "هو يو-إيه" من حزب الكومينتانج المعارض الرئيسي (KMT) بنسبة 33.5%، و"كو وين-جي"، من حزب الشعب التايواني الجديد (TPP) بنسبة 26.5%.

4- تراجع تأثير الخطاب التصعيدي الصيني: فعلى مدار الشهور التي سبقت الانتخابات، كانت العديد من التحذيرات تصدر عن بكين بشأن وصول مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي التايواني إلى رئاسة تايوان باعتبار أن وصوله سيؤدي إلى تصعيد غير محكوم مع بكين، بيد أن هذه التصريحات لم يكن لها تأثير كبير على توجهات الناخبين التايوانيين، ولعل هذا ما أكده "لاي تشينج" بعد الإعلان عن فوزه؛ حيث أشار إلى أن النتائج كانت بمنزلة "انتصار لمجتمع الديمقراطيات" في جميع أنحاء العالم، وقال إن الناخبين قاوموا بنجاح جهود "قوى خارجية" للتأثير على الانتخابات، في إشارة إلى جهود بكين للإطاحة بالحزب التقدمي الديمقراطي.

5- غياب التوافق بين المعارضة: لقد ساعد على فوز "لاي" في الانتخابات الرئاسية غياب التوافق بين قوى المعارضة، ومن ثم تفتت الأصوات بين مرشحي المعارضة؛ فعلى حد تعبير "هوانج كوي بو" أستاذ الدبلوماسية في جامعة تشينج تشي الوطنية، في تصريحات لصحيفة الجارديان فإن "فوز لاي ناتج بشكل أساسي عن انقسام أحزاب المعارضة الرئيسية؛ ما أدى إلى تأخير استعدادات أكبر حزب معارض (أي حزب الكومينتانج) في الحملات الانتخابية ومن ثم إضعافه".

6- فقدان الحزب الحاكم لبعض مكاسبه في البرلمان: بالرغم من المكاسب التي حققها الحزب الديمقراطي التقدمي في الانتخابات الرئاسية، فإن هذه المكاسب لم تكن على المستوى نفسه في الانتخابات البرلمانية؛ إذ حصل الحزب الديمقراطي التقدمي على 51 مقعداً؛ ما يجعله أقل بكثير من الـ57 المطلوبة للحصول على الأغلبية في الهيئة المكونة من 113 مقعداً، في حين فاز حزب الكومينتانج بـ52 مقعداً، وفاز حزب الشراكة عبر المحيط الهادئ بثمانية مقاعد، وفاز المستقلون المتحالفون مع حزب الكومينتانج بمقعدين آخرين. ومن المقرر أن تؤدي الهيئة التشريعية الجديدة في تايوان اليمين في الأول من فبراير، ثم سيتولى "لاي تشينج-تي" منصبه رئيساً في 20 مايو .

7- محاولة بكين التأثير على مسار العملية الانتخابية: حاولت بكين التأثير على مسار العملية الانتخابية من خلال تصريحاتها التحذيرية للدول الأخرى من التدخل في المشهد الانتخابي، وكذلك التحذير من أي تغيير لوضع الجزيرة، ناهيك عن إشارة بعض التقارير إلى استغلال بكين بعض الأدوات العسكرية والاقتصادية للضغط على تايوان؛ فقبل أيام من الانتخابات، في شهر ديسمبر الماضي، أعلنت الصين إنهاء تخفيضات الرسوم الجمركية على الواردات الكيميائية من تايوان. وفي شهر يناير الجاري أعلنت وزارة التجارة الصينية أن بكين تدرس تعليق تخفيضات التعريفات الجمركية على المزيد من المنتجات المستوردة من تايوان، رداً على القيود التجارية للجزيرة والمناورات السياسية.

وفي سياق متصل، تحاكم السلطات التايوانية ما يقرب من 200 من القادة المحليين التايوانيين الذين تمت دعوتهم للسفر إلى الصين؛ للاشتباه في أن الرحلات كانت عملية تأثير تهدف إلى زيادة الأصوات للمرشحين المؤيدين لبكين، كما أبلغت تايبيه، قبل الانتخابات بأيام، عن رصدها عدداً من المناطيد الصينية التي حلقت مباشرة فوق الجزيرة، وهي البالونات التي وصفها البعض ببالونات تجسس.

التداعيات المحتملة

لا يمكن إغفال أن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تايوان، تنطوي على بعض التداعيات المحتملة التي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تزايد التحديات المحلية: سوف تؤثر نتيجة الانتخابات على أولويات السياسة الداخلية، بما في ذلك القضايا المتعلقة بالعلاقات عبر المضيق، والدفاع الوطني، والسياسات الاقتصادية، والإصلاحات الاجتماعية؛ فعلى الرغم من فوز الحزب الديمقراطي التقدمي، فإنه بسبب انخفاض حصته من الأصوات وفقدان السيطرة على الهيئة التشريعية، مع إعراب 60% من الناخبين عن رغبتهم في التغيير، قد يواجه الحزب صعوبات في الحكم بفاعلية. كذلك أصبحت الحاجة إلى التعاون مع أحزاب المعارضة أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي التقدمي للتنقل عبر هيئة تشريعية منقسمة .

وقد ظهر إدراك "لاي" لهذا التوجه خلال خطاب الفوز الذي ألقاه، والذي أثار فيه إمكانية عقد "مؤتمر الشؤون الوطنية" مع أحزاب المعارضة لإيجاد مجالات للتوافق والتعاون، في دلالة على أنه يدرك في وقت مبكر جداً حاجته إلى التواصل مع المعارضة وبناء ائتلافات من أجل الحكم.

2- محاولة الرئيس الجديد تخفيف حدة الصدام مع بكين: يعتبر لاي تشينج تي سياسياً مؤيداً للاستقلال، وتعهد بالحفاظ على الحكم الذاتي لتايوان، وكان حزبه، الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم، يتحدث بصوت عالٍ عن القومية التايوانية. وبصفته نائباً لرئيسة تايوان الحالية تساي إنج ون، منذ عام 2020، عمل لاي بشكل وثيق معها، ويدَّعي مثلها أن تايوان تتمتع بالسيادة بالفعل حتى لو لم يتم إعلان الاستقلال رسمياً.

ومع ذلك، فإنه ليس من المرجح أن يصل الرئيس الجديد إلى أقصى درجات الصدام مع بكين؛ ولذلك وجه "لاي" رسالة إلى الصين، أنه يفضل المزيد من عمليات التبادل والحوار، بدلاً من العرقلة والصراع، داعياً إلى السلام والاستقرار مع بكين، لكنه تعهد، في الوقت نفسه، بالدفاع عن الجزيرة، مؤكداً تصميمه على حماية تايوان من تهديدات الصين المستمرة وترهيبها، كما دعت وزارة الخارجية التايوانية الصين إلى احترام نتائج الانتخابات الرئاسية ومواجهة الواقع والتخلي عن قمع تايوان، من أجل عودة التفاعلات الإيجابية عبر المضيق إلى المسار الصحيح.

3- صعود حزب الشعب التايواني: نظراً إلى أن كلا الحزبين الرئيسيين (الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب الكومينتانج) لم يتمكن من تحقيق الأغلبية في المجلس التشريعي، فإن حزب الشعب التايواني ستكون له الغلبة في السيطرة على توازن القوى في المجلس؛ ما يمنحه القدرة على تشكيل السياسات التي تتم الموافقة عليها. وعلى الرغم من الأداء القوي الذي حققه الحزب الجديد؛ حيث صوت 26.5% من الناخبين باختيار "كو" لمنصب الرئيس و23.8% دعموا الحزب في الاقتراع العام (القائمة الحزبية) في البرلمان، فإنه لا يزال من غير الواضح مدى قوة البقاء التي يتمتع بها. ومن ثم، سيتعين على الحزب الديمقراطي التقدمي أن يعمل بفاعلية مع أحزاب المعارضة في الهيئة التشريعية المنقسمة، وإلا فإن وجود هيئة تشريعية تهيمن عليها المعارضة، مع رئيس من الحزب الديمقراطي التقدمي، قد يعني أن عملية حكم تايوان ستصبح أكثر صعوبة .

4- مواصلة إرسال بكين رسائل تحذيرية لتايبيه: تعد الصين من أهم المخاوف في هذه الانتخابات؛ نظرا إلى أن جيش التحرير الشعبي الصيني زاد من ضغوطه على الجزيرة خلال العام الماضي بعدد قياسي من التوغلات. ومن المتوقع أن تثير النتيجة غضب بكين بسبب مقاومة الحزب الديمقراطي التقدمي للحكم الصيني. وبالفعل جددت الصين تشديدها على أن "إعادة التوحيد" مع تايوان "حتمية". وشدد المتحدث باسم المكتب الصيني المسؤول عن العلاقات مع تايوان "تشين بينهوا" على عدم إعاقة نتيجة التصويت التوجه الحتمي لإعادة التوحيد مع الصين، معتبراً نتائج التصويت تظهر أن الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان لا يمكنه تمثيل غالبية الرأي العام في الجزيرة، فيما حذرت وزارة الدفاع الصينية من أن جيش التحرير الشعبي الصيني سيتخذ جميع الإجراءات اللازمة لسحق محاولات استقلال تايوان بحزم مهما كان شكلها .

ومن ثم، فإن من المرجح وبقوة أن يُقابل فوز "لاي"، على المدى القصير، بزيادة الضغط من بكين، في شكل عقوبات اقتصادية على الصادرات التايوانية، أو استعراض عسكري للقوة، وغيرهما من الإجراءات المحتملة التي ستؤكد استياء بكين من نتيجة الانتخابات، وستثبت بشكل استباقي شروط التفاعلات اللاحقة بين بكين وإدارة الحزب الديمقراطي التقدمي المقبلة. وإذا تمكن الحزب الديمقراطي التقدمي من عدم خسارة الأحزاب الأخرى، فستكون تايوان في موقف تفاوضي أقوى مع بكين، ويسمح لها بإحراز تقدم في قضايا مثل إعادة فتح خطوط الاتصال عبر المضيق، التي تعتبر "ضرورية" للاستقرار الإقليمي.

5- تزايد التجاذب بين واشنطن وبكين: سوف تؤثر نتائج الانتخابات على علاقات تايوان مع الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية، وخاصة الولايات المتحدة. وبما أن الولايات المتحدة هي الشريك العسكري الرئيسي لتايوان، فإن استمرار حكم الحزب الديمقراطي التقدمي قد يؤثر على الديناميكيات الإقليمية، خاصة في سياق العلاقات الأمريكية الصينية.

إذ تعتبر وضعية تايوان من أكبر القضايا الخلافية في المنافسة بين الصين والولايات المتحدة الداعم العسكري الرئيسي للجزيرة؛ إذ تنوي واشنطن إرسال "وفد غير رسمي" إلى تايوان بعد التصويت. وفي الوقت نفسه، شدد الرئيس الأمريكي "جو بايدن" على أن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان، كما هنأ وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" الرئيس التايواني الجديد "لاي" مشيداً بصلابة النظام الديمقراطي في الجزيرة، لكنه أكد أيضاً التزام واشنطن بالحفاظ على السلام والاستقرار عبر المضيق والحل السلمي للخلافات بعيداً عن الإكراه والضغوط .

ومن ثم، فإنه على الرغم من عدم مرور وقت طويل على احتفال واشنطن وبكين بعودة قنوات التواصل بينهما وتبادل الزيارات الرسمية، فإن من المتوقع أن تستمر تايوان بوصفها ورقة ضغط أمريكية على بكين؛ حيث تأمل واشنطن أن يؤدي احتمال مشاركتها إلى ردع العدوان الصيني. في المقابل، قد تستخدم الولايات المتحدة أيضاً نفوذها لتشجيع الحوار السلمي بين تايوان والصين.

6- مخاوف من تأثر التجارة العالمية والاقتصاد: إن التداعيات الاقتصادية ممكنة؛ حيث إن السياسات الاقتصادية والعلاقات التجارية في تايوان قد تتأثر بالاستجابة الدولية للانتخابات. وأي تحولات في العلاقات عبر المضيق قد تؤثر على الديناميكيات الاقتصادية العالمية؛ فثمة مخاوف من أن تواصل بكين سياسة الضغط الاقتصادي على النظام الجديد في تايوان، وتتراجع عن بعض التخفيضات الجمركية على بعض المنتجات التايوانية، وهي سياسات سيكون لها انعكاسات على الاقتصاد والتجارة العالمية.

7- تزايد التهديدات الأمنية في الهندوباسيفيك: قد تثير نتيجة الانتخابات مخاوف أمنية في مضيق تايوان ومنطقة الهندوباسيفيك بشكل أعم؛ فالانتخابات تدفع نحو المزيد من الاستقطاب في المنطقة، وخاصة بعد انتقادات بكين لبيان واشنطن بشأن الانتخابات وتهنئتها المرشح الفائز. أضف إلى ذلك أن الانتخابات كانت بمنزلة فرصة لتأكيد حالة الصراع الدولي على النفوذ؛ إذ استغلت موسكو الانتخابات لتأكيد تحالفها مع بكين؛ فقد صرحت وزارة الخارجية الروسية في بيان بعد إعلان فوز لاي، بأن موسكو تواصل اعتبار تايوان جزءاً لا يتجزأ من الصين.

خلاصة القول: إن تداعيات الانتخابات داخل تايوان وخارجها معقدة ولها اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية. وسوف تلعب ديناميكيات العلاقات عبر المضيق والاستجابات الدولية دوراً حاسماً في تشكيل مشهد ما بعد الانتخابات. وصحيح أن واشنطن حاولت تهدئة مخاوف بكين من خلال تأكيد أنها لا تدعم استقلال تايوان، بيد أن هذا لا يمنع من أن دعم واشنطن للرئيس الجديد، المعروف عنه تأييد استقلالية تايوان، سيؤدي إلى مواصلة التوتر بين الصين والولايات المتحدة.

ما الذي كشفت عنه نتائج انتخابات تايوان؟