د. محمد عباس ناجي

رغم الإجراءات العديدة التي اتخذتها الحكومة العراقية، بدعم من جانب القوى السياسية، بما فيها القوى الشيعية، من أجل حماية الحدود المشتركة مع سوريا منعاً لتمدد الفوضى وعدم الاستقرار من الأخيرة إلى العراق؛ إلا أن ذلك لم يمنع إيران من توجيه تحذيرات متكررة من العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجم عن ذلك، ولا سيما في ظل التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية خلال الفترة الماضية، وآخرها سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ووصول هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة إلى السلطة في دمشق.ففي هذا السياق، قال كمال خرازي مستشار المرشد الأعلى للعلاقات الدولية ورئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، في 18 ديسمبر 2024، إن "إسرائيل تستغل الفراغ القائم في سوريا لانتهاك سيادتها"، محذراً من أن "ذلك يمكن أن يؤدي إلى انتقال الفوضى من سوريا إلى العراق". وجاء ذلك بعد أن أشارت تقارير إيرانية عديدة إلى أن العراق يقع في مرمى الاستهداف من جانب إسرائيل في ظل انخراط بعض المليشيات الشيعية الموالية لإيران في التصعيد العسكري ضد إسرائيل، بسبب الحرب التي تشنها في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023.دوافع عديدةيمكن تفسير تخوف إيران من عواقب وصول ارتدادات ما حدث في سوريا إلى العراق في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:1- اقتراب إسرائيل من الحدود الإيرانية: ترى إيران أن العراق يمثل المحطة الأخيرة قبل أن تصل إسرائيل إلى حدودها. ووفقاً لذلك، فإن التطورات الجديدة التي طرأت على الساحة الإقليمية، بعد إضعاف حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، عبر القضاء على الجزء الأكبر من قدراتهما العسكرية، فضلاً عن سقوط النظام السوري؛ يمكن أن تحفز إسرائيل على المضي قدماً نحو القضاء على القدرات العسكرية للمليشيات الشيعية في العراق الموالية لإيران، وبالتالي تعزيز فرص انخراط إسرائيل في حرب واسعة النطاق ضد إيران خلال المرحلة القادمة، في إطار الاستراتيجية الجديدة التي يعمل على تنفيذها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يسعى -حسب قوله- إلى "تغيير الشرق الأوسط".ولا تستبعد إيران في هذا السياق أن تشن إسرائيل ضربات عسكرية قوية ضدها، في حالة إضعاف القدرات العسكرية للمليشيات الشيعية العراقية، خاصة في ظل تصاعد حدة الخلافات حول البرنامج النووي، والتصعيد العسكري من جانب تلك المليشيات ضد إسرائيل. ومن دون شك، فإن ما يزيد من مخاوف إيران في هذا الصدد هو الوجود الاستخباراتي الإسرائيلي في شمال العراق، والذي سعت إيران إلى استهدافه أكثر من مرة في الهجمات العسكرية التي شنتها داخل العراق، وآخرها الهجمات التي نفذت في يناير 2024، حيث ترى أن هذا الوجود الاستخباراتي يمثل آلية تسعى من خلالها إسرائيل إلى تهديد أمن واستقرار إيران بشكل مباشر.2- ارتدادات على أوراق الضغط في مواجهة واشنطن: رغم أن إيران دائماً كانت تدعو إلى انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، إلا أنها كانت ترى في المقابل أن وجود القوات الأمريكية في العراق يوفر فرصة لها لامتلاك أوراق ضغط ضد الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن هذا الوجود العسكري الأمريكي يضع مصالح أمريكية حيوية في مرمى الاستهداف الإيراني. وقد كانت إيران دائماً حريصة على استغلال نفوذها في العراق في إدارة التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية، سواء حول البرنامج النووي أو الدور الإقليمي.فعلى سبيل المثال، بدأت المليشيات الشيعية العراقية في استهداف الوجود العسكري الأمريكي في العراق، بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، رداً على الدعم الذي تقدمه واشنطن إلى تل أبيب على المستويين السياسي والعسكري. من هنا فإن القضاء على القدرات العسكرية للمليشيات العراقية سوف ينزع تلك الورقة المهمة من يد إيران، وبالتالي تتراجع قدرتها على تهديد المصالح الأمريكية أو إدارة التصعيد مع واشنطن عبر الساحة العراقية.3- تزايد استقلالية القوى الشيعية عن إيران: لا تستبعد إيران أن يفرض أي انتقال محتمل للفوضى من سوريا إلى العراق تداعيات سلبية على علاقاتها مع القوى الشيعية، أو بمعنى أدق نفوذها لدى تلك القوى. وفي رؤيتها، فإن بعض تلك القوى بدأت في استغلال ما يجري على الساحة من أجل توسيع مساحة الحركة بعيداً عن إيران. وربما يمكن القول إن هذا المسار بدأ حتى منذ أربع سنوات، وتحديداً منذ اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 2020، وأسفرت أيضاً عن مقتل أبو مهدي المهندس نائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي.لذا، اعتبرت اتجاهات في إيران أن البيان الذي أصدره زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في 5 ديسمبر 2024، ودعا فيه الحكومة والفصائل العراقية إلى عدم التدخل في الأحداث التي تشهدها سوريا، لم يكن ليصدر في حالة وجود سليماني، خاصة أن خلفه إسماعيل قاآني لم ينجح في ملء الفراغ الذي نتج عن اغتياله، حيث استغلت بعض القوى ذلك من أجل مناوأة بعض التحركات الإيرانية علناً.4- إضعاف الموقف التفاوضي لإيران مع الخصوم: تستعد إيران لمواجهة ضغوط أمريكية أقوى عليها بعد وصول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، الذي سوف يسعى إلى العودة لـ"تصفير" الصادرات النفطية الإيرانية في إطار سياسة الضغوط القصوى التي تبناها خلال فترته الرئاسية الأولى. وفي رؤيتها فإن تزامن ذلك مع اقتراب إسرائيل من حدودها، وتراجع دورها الإقليمي بفعل سقوط النظام السوري والقضاء على القدرات العسكرية لحزب الله وحماس، يدفع في اتجاه الوصول إلى صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية تُضعف من احتمالات الانخراط في حرب واسعة النطاق مع الأخيرة أو مع إسرائيل.وفي رؤيتها، فإن نفوذها في العراق يمكن أن يوفر لها فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي قبل الوصول إلى مرحلة إبرام صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن الأخيرة معنية بتحييد أية مصادر تهديد قد تواجه قواتها العسكرية ومصالحها في العراق.ومن هنا، فإن انتقال الفوضى من سوريا إلى العراق يمكن أن يؤدي إلى إرباك حسابات طهران ويضعف موقعها التفاوضي، وبالتالي يضطرها إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات من دون أوراق ضغط، على نحو يمكن أن يؤدي إلى الوصول لصفقة لا تستوعب مصالحها ولا تتضمن امتيازات كبيرة، وهي صفقة قد تكون مضطرة إليها، باعتبار أن البديل لذلك هو الانخراط في حرب مباشرة، أو تعرض منشآتها النووية لضربة عسكرية مكثفة أمريكية أو إسرائيلية.ختاماً، يمكن القول إن إيران سوف تتكرر تحذيراتها من عواقب انتقال الفوضى من العراق إلى سوريا، وربما تعجل بمحاولة فتح قنوات تواصل جدية مع إدارة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب من أجل إبرام صفقة استباقاً لأية استحقاقات استراتيجية قد تفرض تداعيات سلبية على أمنها ومصالحها في الفترة القادمة. ففي رؤيتها، فإن هذه الصفقة قد تساعد النظام على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي يتعرض لها، والتي تبدو غير مسبوقة على مدى الأعوام الخمسة والأربعين الماضية. ومع ذلك، فإن إيران لا تستبعد أن تواجه جهودها لإبرام تلك الصفقة عقبات عديدة، لا سيما من جانب إسرائيل، التي تبدو متحفزة في الوقت الحالي لاستغلال التطورات الحالية من أجل "تحييد" مصادر التهديد الإيرانية.

لماذا تحذر إيران من انتقال الفوضى إلى العراق؟