عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

شكلت أمريكا اللاتينية واحدة من أهم مناطق التنافس الدولي على النفوذ خلال السنوات الماضية؛ حيث كانت روسيا واحدة من أهم الأطراف الساعية للوجود بالمنطقة. وعملت موسكو على تطوير حضورها في المنطقة، لا سيما بعد الحرب الأوكرانية ومساعي موسكو لمواجهة المحاولات الغربية لفرض عزلة دولية عليها. علاوة على ذلك فقد مثلت المنطقة أداة لموسكو من أجل الضغط على واشنطن التي لطالما اعتبرت أمريكا اللاتينية فناءً خلفياً لها.

وفي هذا الصدد، نشرت مؤسسة جيمس تاون تقريراً مُكوناً من جزأين بعنوان "روسيا تسعى إلى تعزيز علاقاتها السياسية مع أمريكا اللاتينية في إطار الصراع على النفوذ في الجنوب العالمي"، بقلم الدكتور سيرجي سوخانكين، وهو زميل في مؤسسة جيمس تاون. ويُركز التقرير على مُحاولات روسيا تعزيز علاقاتها السياسية مع دول أمريكا اللاتينية في إطار مساعيها للتغلب على العزلة السياسة والاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على الكرملين في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا في عام 2022؛ وذلك من خلال تسليط الضوء على استضافة روسيا حدثين هما: منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي 2023، والمؤتمر البرلماني الدولي 2023، وسعي موسكو لتوطيد علاقتها مع جواتيمالا بالرغم من وجود بعض التحديات؛ أبرزها النفوذ الغربي والعلاقات المتنامية مع الصين في المنطقة.

استثمار الموارد

تحاول روسيا استثمار مواردها الكبيرة في تعزيز علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي الكبرى لكسب الدعم لعملياتها العسكرية في أوكرانيا، والتغلب على العزلة السياسية والاقتصادية التي فرضتها عليها الدول الغربية؛ وذلك من خلال الجهود التالية:

1- توظيف موسكو دبلوماسية المؤتمرات لتعزيز روابطها بأمريكا اللاتينية: لوحظ أن موسكو وظفت خلال الفترة الماضية دبلوماسية المؤتمرات والمنتديات من أجل تعزيز روابطها بدول أمريكا اللاتينية؛ فعلى سبيل المثال، جمع منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي 2023 ممثلين عن العديد من دول أمريكا اللاتينية، ضمن جهود روسية حثيثة تهدف إلى تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول أمريكا اللاتينية؛ حيث ناقش مسألة إلغاء الدولرة، وبدائل سويفت، وإعادة تأسيس العلاقات اللوجستية. ورغم عدم اتخاذ أي قرارات محددة، أكد المنتدى حرص موسكو على تطوير علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية ومحاولة بناء رؤى مشتركة إزاء القضايا المختلفة.

وفي سياق متصل، انعقد المؤتمر البرلماني الدولي تحت عنوان "روسيا وأمريكا اللاتينية" في موسكو خلال الفترة من 29 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2023، واستضاف ما يزيد على 200 مندوب من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية. وأعلنت روسيا صراحة أن أهداف الحدث هي "مواجهة العقوبات الغربية" والحاجة إلى تعزيز إمكانات الجنوب العالمي.

2- محاولة بناء توافق حول إضعاف هيمنة الدولار: لوحظ أن موسكو حاولت، عبر تعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية، بناء توافق حول مسألة إضعاف هيمنة الدولار عالمياً؛ فعلى سبيل المثال، أشار كل من لوريانو أورتيجا موريلو الممثل الخاص لرئيس نيكاراجوا لشؤون العلاقات مع روسيا، وخوان كارلوس جارسيا جراندا وزير السياحة الكوبي، إلى أن الطريقة الأكثر فاعلية للتخلص من الدولرة في التجارة الدولية بين روسيا وأمريكا اللاتينية، ستكون من خلال استخدام التجربة الكوبية وزيادة استخدام نظام الدفع ببطاقة مير الروسية. بالإضافة إلى ذلك، اقترح بوريس تيتوف المفوض الرئاسي الروسي لحقوق رواد الأعمال، العودة إلى التجربة السوفييتية في استخدام ما تسمى "روبلات المقاصة" – وهو نوع فرعي من تجارة شبه المقايضة بين أعضاء مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة – التي سمحت جدياً، وفقاً لـ "تيتوف"، "برفع مستوى التجارة بين البلدين".

3- العمل على تطوير عمليات التبادل التجاري بين روسيا وأمريكا اللاتينية: إذ أشار ممثل كوبا، خلال منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي 2023، إلى أن البلاد لديها كل البنية التحتية اللازمة. في المقابل، شدد بلاس كريستالدو مونيز رئيس رابطة تعاونيات التصنيع في جمهورية باراجواي، على ضرورة التصرف بأسرع ما يمكن، وإيجاد طرق لإنشاء خطط تصدير واستيراد مباشرة بين روسيا وشركائها في أمريكا اللاتينية.

4- استقطاب دول أمريكا اللاتينية بعيداً عن الموقف الغربي: حاولت موسكو استقطاب دول أمريكا اللاتينية بعيداً عن الموقف الغربي المضاد لروسيا، وظهر ذلك خلال المؤتمر البرلماني الدولي 2023؛ فعلى سبيل المثال جاءت تصريحات خورخي رودريجيز رئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية، وخوان إستيبان لازو هيرنانديز رئيس الجمعية الوطنية للسلطة الشعبية في كوبا، رافضة للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على أكثر من ثلاثين دولة، كما أعربا عن رفضهما الشديد لخطر اقتراب البنية التحتية العسكرية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من الحدود الروسية.

5- تأكيد مسار التعاون الاستراتيجي بين موسكو وأمريكا اللاتينية: حيثُ اقترح فاسيلي بيسكاريوف النائب عن حزب روسيا الموحدة في مجلس الدوما السابع لروسيا، تنظيم تبادل الممارسات التشريعية بين البرلمان الروسي ونظرائه في أمريكا اللاتينية، واقترح أيضاً إدراج "الأمن السيبراني ومكافحة التطرف والإرهاب والجريمة المنظمة والدفاع عن السيادة الوطنية" بالتعاون بين حكومة روسيا وحكومات أمريكا اللاتينية، فضلاً عن تنظيم العمل على بلورة مواقف مُشتركة في هذه المجالات في المنتديات والمنصات الدولية.

وفي السياق ذاته، أكد الخطاب الرئيسي الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال المؤتمر أن روسيا ستدافع عن أمريكا اللاتينية لتكون قوية ومستقلة وناجحة، كما أعرب عن استعداد بلاده لبناء علاقات على المستوى الثنائي وكذلك الكتل التكاملية الإقليمية في أمريكا اللاتينية، مثل مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، والتحالف البوليفاري لشعوب أمريكا اللاتينية، مع السوق المشتركة الجنوبية، وأشار أيضاً إلى اهتمام روسيا بالعمل مع دول المنطقة من خلال مشاركتها المتزايدة – وحتى عضويتها – في مجموعة البريكس.

6- استفادة موسكو من فوز بعض القادة اليساريين في أمريكا اللاتينية: في إطار مسعاها لتعزيز علاقتها وتحالفاتها التعاونية مع دول أمريكا اللاتينية، سعت موسكو إلى الاستفادة من وصول بعض القادة اليساريين إلى السلطة في أمريكا اللاتينية، ولعل هذا ما اتضح من توجه روسيا إلى إعادة تنشيط العلاقات مع جواتيمالا، وقد تعززت آمالها بشكل غير متوقع بعد فوز الرئيس "لبرناردو أريفالو" في نهاية عام 2023، وهو سياسي ذو توجه يساري. ويتوقع الخبراء الروس أن قدوم رئيس يساري قد يُصبح نقطة تحول في العلاقات الثنائية بين البلدين، وتعزيز النفوذ الروسي في أمريكا الوسطى؛ فعلى الرغم من ارتباطها الضعيف نسبياً بروسيا، تتمتع جواتيمالا بجغرافيا استراتيجية، وهي الدولة الأكثر كثافة سكانية في أمريكا الوسطى، وتظل أكبر مستورد إقليمي للأسمدة لروسيا، وهو ما يُعد أمراً بالغ الأهمية لاقتصادها المحلي في هذه المرحلة.

7- التحول في موقف جواتيمالا من الحرب الأوكرانية: ويُمكن القول إن الاهتمام المتزايد من قِبل صناع القرار السياسي ومجتمع الخبراء في روسيا بتوطيد العلاقات مع جواتيمالا يُعتبر أمراً مُثيراً للدهشة؛ ذلك لأنه قبل انتخاب "أريفالو"، كانت البلاد واحدة من أقوى الجهات الفاعلة المناهضة لروسيا في المنطقة، وهو ما أبرزه وزير الخارجية السابق لجواتيمالا "ماريو بوكارو" الذي اتهم روسيا علناً بالعدوان المسلح ضد أوكرانيا عام 2023، كما ألغت السلطات المحلية الجنسية الجواتيمالية ورحَّلت ديمتري كودرياكوف، وهو مواطن روسي، وإيرينا ليتفينيوك، وهي مواطنة من بيلاروسيا، من البلاد بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الأفراد.

علاوة على ذلك، في عام 2022، خلال أول زيارة على الإطلاق لرئيس جواتيمالي إلى أوكرانيا، أدان الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" ورئيس جواتيمالا آنذاك، "أليخاندرو جياماتي فالا"، ما وصفوها بـ"الحرب العدوانية غير القانونية التي شنتها روسيا على أوكرانيا". وشدد "زيلينسكي" أيضاً على أن المشاكل الاقتصادية التي تواجهها العديد من دول أمريكا اللاتينية، فضلاً عن محدودية الوصول إلى السلع الأساسية والسلع من أوكرانيا، كانت نتيجة مباشرة للعملية العسكرية الروسية. وفي المقابل، أعرب زعيم جواتيمالا عن دعمه الكامل للرئيس "زيلينسكي" والقوات المسلحة الأوكرانية وشعب أوكرانيا في حربهم العادلة ضد العدوان الأجنبي.

ويرى الخُبراء الروس أيضاً إلى أن إمكانية مواصلة تطوير العلاقات الثنائية مع جواتيمالا مُتاحة، ولكن لم يتم استغلالها بالكامل؛ فعلى سبيل المثال، على الرغم من صغر حجم الاقتصاد المحلي، من حيث التجارة الثنائية، يزعم البعض أن العلاقات الروسية الجواتيمالية من الممكن أن يُنظر إليها على أنها أكثر قيمة من العلاقات مع الأرجنتين على سبيل المثال. ويُستدل على ذلك بحجم التجارة والاستثمارات وحقيقة أن كمية الصادرات الروسية إلى جواتيمالا (المعادن والكيماويات والأسمدة المعدنية والأدوية) أكبر بخمس مرات من الواردات من البلاد. واعتباراً من عام 2023، تجاوزت استثمارات روسيا في جواتيمالا استثماراتها في الأرجنتين بأكثر من 120 مليون دولار.

8- محاولة روسيا تجاوز تأثير العقوبات الغربية في العلاقات مع جواتيمالا: نظراً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على الحكومة ومحدودية الوصول إلى المواد الأساسية والسلع الأساسية من الدول الغربية، لم تتمكن روسيا من الاستفادة من الميزة التنافسية التي تتمتع بها جواتيمالا في قطاعها الزراعي. على سبيل المثال، يذكر المحللون الروس أن جواتيمالا (واحدة من أكبر منتجي الموز في العالم) ويمكن استخدامها مصدراً للتنويع بالنسبة إلى روسيا، التي يحتكر سوقَها، بحكم الأمر الواقع، المنتجون من الإكوادور التي تشهد موسكو تدهوراً في العلاقات السياسية معها.

كما يقترح الخبراء الروس استخدام التعليم والروابط العلمية في الطب والهندسة والزراعة وإنتاج الإمدادات الطبية والأدوية كنقطة انطلاق للحوار مع جواتيمالا. ويمكن متابعة تنفيذ هذا المقترح من خلال فرع الجامعة الروسية الحكومية للعلوم الإنسانية (RSUH) ومقرها جواتيمالا.

وتشير التقديرات إلى أنه بالرغم من صعوبة توقع أي انفراج دبلوماسي سياسي بين روسيا وجواتيمالا في المستقبل القريب، فإن بعض التطورات الخارجية مثل الأزمة السياسية بين كيتو وموسكو، أو توسع البريكس، أو تطبيع العلاقات بين جواتيمالا والصين، يمكن أن تخلق أرضاً خصبة لتغييرات محددة في العلاقات الثنائية بين البلدين.

تحديات قائمة

ختاماً، رغم مُحاولة بعض المسؤولين الروس إظهار بعض المنتديات الدولية مثل "منتدى سانت بطرسبرج"، و"المؤتمر البرلماني الدولي 2023"، على أنهما نجاح لا جدال فيه بالنسبة إلى موسكو، وعلامة دالة على أن روسيا قادرة بسهولة على كسر الضغوط الخارجية المفروضة عليها من قبل الدول الغربية، فإن ثمة مصادر مُحافظة للغاية اتخذت نهجاً أكثر حذراً. فمثلاً، في الوقت الذي اعترف فيه الخبراء المحافظون بالفعل بأن دور الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية آخذ في التناقص، فإن هذا لا يرجع إلى الوجود الروسي المتنامي أيضاً، بل يرتبط بشكل أساسي بقوة الصين المتنامية بسرعة؛ فبكين على الرغم من كونها حليفة لروسيا بشكل علني، فإنها تهدف إلى تحقيق مصالحها بدلاً من تقاسم المصالح مع روسيا في هذه المنطقة. واقترح خبراء آخرون أن "أصحاب الهيمنة على البيئة السياسية في أمريكا اللاتينية" لديهم علاقات وتعاطف واضح مع الولايات المتحدة، كما أنهم يشكلون جبهة تهدف لحماية "مصالح واشنطن." علاوة على ذلك، حذر بعض الخبراء الروس من أنه باستثناء فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا، فإن الغالبية المطلقة من دول المنطقة تنظر بشكل سلبي (بدرجة متفاوتة) إلى ما تسمى "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، تشكل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا عاملاً مقيداً لتطور العلاقات بين موسكو وعدد من دول أمريكا اللاتينية.

المصدر:

· Sergey Sukhankin, Russia Seeks to Strengthen Political Ties with Latin America in Struggle for Influence in Global South (Part One), The Jamestown Foundation, February 12, 2024, accessible at: https://jamestown.org/program/russia-seeks-to-strengthen-political-ties-with-latin-america-in-struggle-for-influence-in-global-south-part-one/

· Sergey Sukhankin, Russia Seeks to Strengthen Political Ties with Latin America in Struggle for Influence in Global South (Part TWO), The Jamestown Foundation, February 13, 2024, accessible at: https://jamestown.org/program/russia-seeks-to-strengthen-political-ties-with-latin-america-in-struggle-for-influence-in-global-south-part-two/

هل تنجح روسيا في تشكيل علاقات وثيقة مع أمريكا اللاتينية؟