نشرت وكالة "رويترز" تقريراً تداولته العديد من الوسائل الإعلامية المختلفة حول العالم عن انعقاد لقاء استخباراتي سرّاً في سنغافورة؛ فقد نقلت الوكالة عن خمسة مصادر أن مسؤولين بارزين من نحو 20 وكالة استخبارات كبرى في العالم، عقدوا لقاءً سريّاً على هامش منتدى "حوار شانجريلا" الأمني في سنغافورة، في الأول من يونيو الجاري، وهو الخبر الذي أثار الكثير من التساؤلات حول أهدافه وأطرافه ودلالاته.

تراجع السرية

حمل كشف وكالة "رويترز" عن انعقاد اللقاء الاستخباراتي السري في سنغافورة تساؤلات وتكهُّنات حول طبيعة هذا اللقاء وأهدافه، وهو ما يستدعي عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– فشل الحفاظ على سرية انعقاد اللقاء: تُعقد هذه الاجتماعات سرّاً في مكان منفصل بجانب القمة الأمنية، منذ سنوات عدة، ولم يتم الكشف عن هذه الاجتماعات من قبل. وإذا لم يكن تسريب خبر اللقاء مقصوداً من مُجمل أطرافه؛ للإعلان عن الانعقاد بشكل غير رسمي، فإن ذلك قد يعني فشل تلك الأجهزة الاستخباراتية في الحفاظ على سرية انعقاد اجتماعها، خاصةً أن "رويترز" استندت إلى خمسة مصادر، وهو عدد ليس بالقليل.

وفضلاً عمَّا يشير إليه الخبر من قدرة الوكالة على اختراق مساحات سرية، أو العلم بانعقاد اجتماعات سرية على مستوى عالٍ، فإن تصريح خمسة أشخاص على صلة مباشرة أو غير مباشرة بالاجتماع، للوكالة بانعقاده؛ مؤشر على فشل الحفاظ على سرية الاجتماع، وعلى أن هناك عدة أشخاصًا من الوفود الرسمية أو المنظمين، يمكن أن يكونوا مصادر لتسريبات استخباراتية لمثل تلك اللقاءات، رغم أنها تُعقَد على مستوى عالٍ من السرية؛ نظراً إلى طبيعة أطرافها وموضوعاتها.

2– وقوف بعض الأجهزة غير المدعوة وراء التسريب: تشير قدرة وكالة "رويترز" على الكشف عن انعقاد اللقاء الاستخباراتي البارز في سنغافورة، إلى احتمالية أن تكون أجهزة استخباراتية أخرى غير مدعوة لتلك الاجتماعات، على علم بانعقاد تلك اللقاءات من قبل الكشف الصحفي عنها، بل قد تكون على علم بما هو أكثر من مجرد الانعقاد، مثل الأطراف، وأجندة النقاش، ومحاوره. وقد تكون بعض أجهزة الاستخبارات من خارج الدول المدعوة للاجتماع مسؤولة عن تسريب خبر الانعقاد، في خطوة تستهدف المكايدة وإرسال إشارة إلى الاختراق الاستخباراتي وإلى قوة تلك الأجهزة. ويُشار في هذا الصدد إلى احتمالية أن تكون الاستخبارات الروسية التي غابت عن هذا الاجتماع، لعبت دوراً في تسريبه للإعلام.

3– احتمالات التسريب المقصود لخبر انعقاد الاجتماع من أطرافه: ثمة احتمالٌ أن يكون تسريب خبر انعقاد اللقاء لم يكن من سبيل الاختراق الصحفي أو الصدفة، وأنه مقصود لأسباب استخباراتية، وأن الكشف عنه بشكل غير رسمي جرى بآلية واعية ومقصودة من جانب أطراف اللقاء أو بعضها لإيصال رسائل سياسية واستخباراتية معينة. ولعل أبرز ما طُرح في هذا الصدد هو تأكيد استمرار التواصل الاستخباراتي بين الصين والولايات المتحدة رغم التوترات السياسية، أو تأكيد الأهمية الأمنية والاستخباراتية لحوار "شانجريلا"، وثقل المنتدى باعتباره منصة ليست لتحاور المسؤولين الأمنيين والعسكريين فقط، بل أيضاً الاستخباراتيين، وغير ذلك من الأسباب المحتملة.

4– اقتصار حضور اللقاء على أقل من نصف حضور منتدى شانجريلا: وفقاً لما هو منشور، فإن اللقاء الاستخباراتي انعقد بحضور مسؤولين بارزين من نحو 20 وكالة استخبارات كبرى في العالم، في حين أن "حوار شانجريلا" الأمني في سنغافورة الذي انعقد على هامشه اللقاء الاستخباراتي، عُقِد بحضور مسؤولين عسكريين وأمنيين وباحثين من نحو 49 دولة؛ ما يعني أن توجيه الدعوة لحضور اللقاء كان مقتصراً على دول دون أخرى، أو اقتصار وفود بعض الدول على وزراء الدفاع والمسؤولين العسكريين دون قادة أجهزة الاستخبارات، أو أن بعض الدول اعتذرت عن عدم تلبية الدعوة. ووفق ما ذكرته تقارير إعلامية، فإن من بين الدول التي شارك ممثلون لأجهزة استخباراتها في هذا اللقاء، الولايات المتحدة والصين والهند.

5– غياب روسيا عن اللقاء الاستخباراتي: أشارت تقارير إعلامية، نقلاً عن مصادر مطلعة، إلى أنه لم يحضر اللقاء – الذي جمع مسؤولي الاستخبارات بنحو 20 دولة – أي ممثل لروسيا، رغم مشاركة دول كبرى ومهمة أخرى مثل الولايات المتحدة والصين والهند، وهو ما يرتبط بالانطباعات عن "حوار شانجريلا" من أنه حوار يغلب عليه السيطرة الغربية؛ حيث يُنظَر إليه على أنه منصة تهيمن عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون. ويرتبط غياب روسيا عن حضور اللقاء الاستخباراتي بغيابها أساساً عن "حوار شانجريلا"؛ الأمر الذي حرمها من المشاركة في تبادل الرؤى والنقاش مع رؤساء عدد من أكبر أجهزة الاستخبارات في العالم؛ وذلك رغم أن الحرب الروسية الأوكرانية تُعَد من القضايا الرئيسية على طاولة المنتدى خلال النسختَين الحالية والسابقة.

6– عدم حضور الطرفَين المباشرَين للصراع الأوكراني: في الوقت الذي تُعَد فيه الحرب الروسية الأوكرانية أبرز القضايا على الساحة العالمية منذ اندلاعها في فبراير من العام الماضي، وكانت قضية رئيسية في نقاشات "حوار شانجريلا" في نسختَي العامَين الحالي والسابق، كما كانت كذلك من القضايا الرئيسية في الحوار بين رؤساء ومسؤولي أجهزة الاستخبارات العشرين على هامش المؤتمر؛ فإن المُلاحَظ أن الحوار بين مسؤولي أجهزة الاستخبارات حول الحرب الأوكرانية جاء في ظل غياب طرفَي الحرب المباشرَين؛ فرغم حضور الولايات المتحدة والصين ودول أوروبية، فإن التقارير المنشورة أشارت إلى أنه لم يحضر الحوارَ الاستخباراتي ممثلٌ عن روسيا. ورغم حضور فولوديمير إتش هافريلوف نائب وزير الدفاع الأوكراني حوار شانجريلا، فإنه ذكَر أنه لم يحضر اجتماع أجهزة الاستخبارات.

7– تزايد دور سنغافورة باعتبارها حلقة وصل بين مسؤولي الاستخبارات: تقوم الحكومة السنغافورية المنظِّمة لحوار شانجريلا بدور رئيسي في تنظيم تلك اللقاءات بين المسؤولين الاستخباراتيين وتسهيل عقدها؛ الأمر الذي يصب في صالح الحكومة السنغافورية، وفي صالح "شانجريلا" حواراً ومنصةً أمنيةً ودفاعيةً عالميةً بارزةً، ويزيد من أهميته الأمنية والاستخباراتية. وقد أشار متحدث باسم وزارة الدفاع السنغافورية إلى أنه أثناء حضور حوار شانجريلا الأمني، ينتهز المشاركون – ومنهم مسؤولون كبار من وكالات الاستخبارات – الفرصة للاجتماع مع نظرائهم، موضحاً أن "وزارة الدفاع في سنغافورة ربما تسهل بعض هذه الاجتماعات الثنائية أو المتعددة الأطراف"، خاصةً أن المشاركين يعتبرون أن مثل هذه اللقاءات التي تُعقَد على هامش الحوار مفيدة. كما يفيد مثل هذا اللقاء الحكومة السنغافورية المنسقة له، ويُضاعِف أهمية "حوار شانجريلا" الذي ينعقد اللقاء على هامشه.

8– إجراء حوار بين أجهزة الاستخبارات رغم التوترات: يمكن أن يوفر مثل هذه اللقاء الاستخباراتي فرصة لأجهزة الاستخبارات من الدول الحاضرة، كي تقوم بالتحاور والنقاش وتبادل الرؤى رغم الصعوبات التي قد تعوق التواصل بين المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين، خاصةً أن أجهزة الاستخبارات تحرص على التواصل فيما بينها معظم الأوقات ومهما كانت الصعوبات والمشكلات والتوترات المعيقة للتواصل الدبلوماسي والعسكري بين تلك الدول. وينتهز مسؤولو الاستخبارات فرص انعقاد مثل تلك اللقاءات والتجمعات الدولية للحديث مع نظرائهم من الدول الأخرى.

9– استكشاف المنظور الاستخباراتي للقضايا العالمية: يساعد الحوار بين مسؤولي أجهزة الاستخبارات المختلفة على هامش "حوار شانجريلا"، الأطراف الحاضرة بدرجةٍ ما على أن يستكشف بعضهم رؤى بعض، وكذلك مواقفهم من القضايا الإقليمية والعالمية، وتوجهاتهم، ومحددات العمل من منظور الأجهزة الاستخباراتية. ورغم أن الدولة يحكمها بوجه عام موقف محدد تجاه قضية معينة، فإن إجراء لقاءات على مستويات مختلفة يساعد على استكشاف المنظورات المتنوعة لهذا الموقف، وهو ما يفسر أهمية عقد لقاء بين ممثلي الأجهزة الاستخباراتية، وعدم الاقتصار على منظور وزارات الدفاع أو المسؤولين السياسيين رغم اتفاق جميع هؤلاء الأطراف في الرؤية النهائية المعبرة عن الدولة.

أجندة النقاش

يمكن فهم أجندة النقاش في الحوار الاستخباراتي الموازي بشانجريلا وطبيعته في ضوء خريطة الحضور ومحاور النقاش في "حوار شانجريلا" بوجه عام؛ وذلك على النحو التالي:

1– انعكاس خريطة الحضور الموسعة على طبيعة النقاشات: يتسم اللقاء المنعقد بين قادة أجهزة الاستخبارات على هامش "حوار شانجريلا" بسمتين رئيسيتين تنعكسان على طبيعة النقاشات المطروحة ومضامينها: السمة الأولى هي اتساع أعداد المشاركين التي بلغت – وفق ما هو منشور – نحو 20 دولة، وهو عدد كبير قد يصعب معه عقد اجتماع تنظيمي، وإجراء مباحثات استخباراتية بأجندة عمل ومخرجات محددة، بل الوقوف عند إجراء نقاشات موسعة بين الحضور.

أما السمة الثانية فترتبط بتنوع خريطة المشاركين الذين لا تجمعهم كلهم تحالفات سياسية أو استخباراتية؛ ما يعني أن هذا اللقاء لا يمكن أن يساهم في صياغة سياسات استخباراتية مشتركة أو تنسيق استخباراتي، بل لا يعدو أن يكون آليةً فقط لإجراء حوار مباشر بين مختلف الأطراف، ويمكن أن يساعد على فهم مواقف ونوايا الأطراف الأخرى على نحو أكثر دقةً.

2– ارتباط محاور النقاش بالقضايا الرئيسية لمنتدى شانجريلا: ترتبط أجندة النقاش بين رؤساء أجهزة الاستخبارات على هامش "حوار شانجريلا"، إلى حدٍ كبير، بأبرز القضايا الأمنية في العالم، التي عادةً ما تُعبِّر عنها أجندة الحوار وكلمات المتحدثين الرسميين فيه، والتي من المرجح أن تنعكس بدرجة كبيرة على الحوار بين رؤساء الاستخبارات. ومن بين القضايا التي تناولها "حوار شانجريلا"، من المرجح أن تكون قضايا مثل الحرب الأوكرانية، والتوترات في منطقة الهندوباسيفيك، وأزمة تايوان، من القضايا الرئيسية محل النقاش في الحوار الاستخباراتي الموازي.

3– تحاور المسؤولين الاستخباراتيين الأمريكيين مع الصينيين: في ظل توتر العلاقات الأمريكية الصينية، رفضت بكين دعوة أمريكية لعقد لقاء بين وزيرَي دفاع البلدين على هامش "حوار شانجريلا"، مشيرةً على لسان متحدثة رسمية إلى أن "الولايات المتحدة تعرف بوضوح سبب وجود صعوبات حاليّاً في التواصل العسكري" بين البلدين. ولكن رغم ذلك، تُمثِّل القنوات الاستخباراتية وسيلةً مهمةً للتواصل بين البلدين حول القضايا المشتركة، مثلما هو الحال في زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى بكين، للقاء نظرائه الصينيين، في مايو الماضي.

ويُمثِّل عقد لقاء بين مسؤولي الأجهزة الاستخباراتية العالمية على هامش "حوار شانجريلا"، فرصة لإجراء حوار استخباراتي بين بكين وواشنطن في ظل تعثُّر إجراء لقاء بين المسؤولين العسكريين؛ حيث تشير التقارير إلى حضور الصين هذا اللقاء، وإلى حضور الولايات المتحدة أيضاً ممثلةً في مديرة جهاز الاستخبارات الوطنية "أفريل هاينز". وتتوافق مشاركة المسؤولين الاستخباراتيين في اللقاء العام، واحتمالات عقد لقاءات ثنائية بينهما على هامش الحوار، مع كلمة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بمؤتمر شانجريلا، التي قال فيها إن بلاده تعتقد أن خطوط اتصال مفتوحة مع الصين أمر ضروري، ولا سيما بين مسؤولي الجيش والدفاع في البلدين، وأنه كلما تحدَّث المسؤولون الأمنيون للبلدين بعضهم مع بعض أكثر، أمكن الطرفَين تجنُّبُ سوء الفهم وسوء التقدير الذي قد يؤدي إلى أزمة أو نزاع.

حوار مُوَازٍ

ختاماً، وفق ما ذكرته التقارير الإعلامية، وما كشفته وكالة "رويترز" نقلاً عن مصادر عدة، فإن لقاء مسؤولي الاستخبارات على هامش "حوار شانجريلا"، مطلع يونيو الجاري، لم يَكُن الأول من نوعه؛ حيث ينعقد هذا اللقاء دوريّاً على هامش انعقاد المنتدى منذ عدة سنوات؛ بحيث أصبح أشبه بـ"لقاء ظل" أو "حوار استخباراتي مُوَازٍ" لأعمال "حوار شانجريلا" الأمني الأوسع العلني. وإن إجراء نقاشات سنوية بين مسؤولي أجهزة الاستخبارات العالمية والآسيوية في "شانجريلا" بسنغافورة أصبح بمنزلة نمط مستمر مرتبط باحتضان المدينة الحوار الأمني المهم واستضافتها وزراء الدفاع والمسؤولين العسكريين المدعوين للمنتدى.

ما دلالات الإعلان عن اجتماع مسؤولين استخباراتيين في سنغافورة؟