إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

يحظى سباق الانتخابات التشريعية، التي أُجريت في جنوب أفريقيا في 29 مايو 2024، باهتمام واسع؛ لكونها تُحدِّد بشكل كبير مستقبل إدارة الرئيس سيريل رامافوزا الذي يسعى إلى ولاية رئاسية ثانية في البلاد، وخاصة مع فقدان حزبه المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم الأغلبية المطلقة التي ضمنت له السيطرة على الحكم طوال العقود الثلاثة الأخيرة منذ صعوده إلى السلطة في عام 1994، خاصةً بعدما تراجعت شعبيته بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، في ضوء إخفاقه في معالجة العديد من الملفات الداخلية الشائكة، بما عزز السخط الشعبي تجاه سياسات الحزب الحاكم.ويُنظَر إلى هذه الانتخابات باعتبارها اختباراً صعباً للحزب الحاكم منذ توليه السلطة وسط تطلُّعات قطاع عريض من المواطنين إلى التغيير على المستوى السياسي وفقاً لما أظهرته بعض استطلاعات الرأي خلال الشهور الماضية، وصحيح&nbsp;أن حزب المؤتمر سيضطر إلى الدخول في مفاوضات لتشكيل ائتلاف حكومي للحفاظ على مكانته في المشهد السياسي، إلا أنه من المستبعد الإطاحة به من السلطة لصالح المعارضة التي تعاني من الانقسام بطبيعة الحال، والتي تظل غير قادرة على الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان.أبعاد رئيسية هناك أبعاد مختلفة تُشكِّل المشهد الانتخابي الراهن في جنوب أفريقيا، وهي الأبعاد التي تعكس ديناميةَ وتعقُّد السياق الراهن على الساحة السياسية في البلاد. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الأبعاد على النحو التالي:1– سياق انتخابي تنافسي: فقد تنافس نحو 70 حزباً سياسياً و11 مرشحاً مستقلاً في سباق الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد، ودُعي إليها نحو 27 مليوناً و790 ألف ناخب مقارنةً بنحو 26 مليوناً و740 ألف ناخب في الانتخابات السابقة عليها في عام 2019، من أجل التصويت لاختيار نحو 400 عضو في الجمعية الوطنية (البرلمان) وتسعة مجالس تشريعية إقليمية مقسمة بين الأقاليم التسعة في البلاد؛ فقد حصل الناخبون على ثلاث بطاقات اقتراع بحيث تُستخدَم بطاقتان لانتخاب الجمعية الوطنية، والثالثة للمجالس التشريعية الإقليمية.2– تراجع نسب المشاركة: فقد رجَّح البعض أن تدفع حالة السخط لدى قطاعات واسعة من المواطنين ضد سياسات الحزب الحاكم، نحو تزايد التوقعات حول انخفاض نسبة المشاركة في العملية التصويتية بالانتخابات التشريعية في البلاد، بالرغم من مناشدات الحزب الحاكم والحكومة والمسؤولين للرأي العام حول أهمية المشاركة في تلك الاستحقاقات؛ وذلك مقارنةً بانتخابات عام 2019 التي شهدت مشاركة نحو 66% من الناخبين المسجلين، وانتخابات عام 2014 التي شارك فيها نحو 73% من إجمالي الناخبين. وفي هذا الصدد، تم الإعلان عن بلوغ نسبة المشاركة بالانتخابات نحو 58.64%.3– معضلة تراجع شعبية الحزب الحاكم: تعرَّض حزب المؤتمر لضغوط قوية خلال الفترة الأخيرة، في الوقت الذي يسعى فيه رامافوزا إلى إعادة بناء سمعة الحزب من خلال معالجة بعض القضايا الداخلية، وعلى رأسها محاربة الفساد؛ إذ أشارت العديد من استطلاعات الرأي إلى تراجع الدعم الشعبي للحزب بسبب شعور الإحباط لدى قطاع واسع من الرأي العام تجاه سياسات الحزب بشأن بعض الملفات الداخلية، مثل ارتفاع معدلات البطالة والجريمة وأزمة الكهرباء وتفشي الفساد.فلدى جنوب أفريقيا واحد من أعلى معدلات البطالة في العالم؛ ما يجعل قطاعاً كبيراً من المواطنين يعتمد على المنح الاجتماعية؛ حيث ارتفعت نسبة البطالة بنحو 10% على مدار العقود الثلاثة الماضية حتى وصلت إلى 32.9% من إجمالي عدد السكان ارتفاعاً من 29.1% قبل أربع سنوات منذ صعود رامافوزا إلى السلطة، وهو مصدر قلق رئيسي بين الناخبين، وتحديداً فئة الشباب، كما حقَّق اقتصاد جنوب أفريقيا نمواً هامشيّاً بنسبة 0.1% في الربع الأخير من عام 2023، كما أدى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى ارتفاع الدين الحكومي، فيما تضرَّرت الشركات بسبب انقطاع التيار الكهربائي المتكرر.4– عودة زوما إلى الساحة السياسية: يحاول الرئيس السابق جاكوب زوما استعادة نفوذه في المشهد السياسي بالبلاد، في محاولة لمنافسة حزبه السابق المؤتمر الوطني الأفريقي؛ وذلك من خلال دعمه حزبه الجديد "رمح الأمة" في الانتخابات التشريعية، خاصةً بعدما رفض القضاءُ ترشحَه للانتخابات بسبب أحكام قضائية سابقة تحول دون ذلك. ويتمتع زوما بنفوذ قوي في مقاطعته كوازولو ناتال، وبعض المناطق الريفية، بما يعكس نفوذه – ولو نسبيّاً – في الداخل، وسط تكهنات باحتمال الضغط على الحزب الحاكم لتشكيل ائتلاف معه في الفترة المقبلة إذا لم يحسم الأغلبية المطلقة.5– إحباط متنامٍ إزاء مستقبل البلاد: فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة أفرو باروميتر أن ثلثي السكان المحليين غير راضين عن كيفية عمل الديمقراطية في بلادهم. وفي دراسة أخرى لقياس الحالة المزاجية بين الشباب، أظهرت أن 75% من المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 18–24 عاماً يشعرون بالتشاؤم بشأن مستقبل البلاد؛ حيث أشاروا إلى أن قضيتَي الفساد والبطالة في مقدمة مخاوفهم.6– تراجع تمثيل الحزب الحاكم: فقد أشارت النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية إلى حصول حزب المؤتمر الوطني على 40.18% من إجمالي أصوات الناخبين، وهو ما يعني فقدان الحزب أغلبيته البرلمانية. ووفقاً لهذه النتائج، فاز الحزب بـ159 مقعداً فقط من أصل 400. وهذا التراجع يعزز تحديات حزب المؤتمر، ويدفعه نحو البحث عن تشكيل حكومة ائتلافية.7– تقديم المعارضة نفسها بديلاً للحزب الحاكم: سعت المعارضة إلى تقديم نفسها بديلاً للحزب الحاكم، واستغلت في ذلك الأزمات التي واجهتها الدولة خلال السنوات الماضية؛ فعلى سبيل المثال، صرَّح جون ستينهويسن زعيم حزب التحالف الديمقراطي، أن هناك طريقاً لانتصار المعارضة، في ظل الإحباط العام لدى قطاع واسع من المواطنين نتيجة التناقضات الصارخة في البلاد التي تعاني ارتفاعاً في معدلات البطالة بينما تُعَد أكثر الدول الأفريقية تقدماً، كما يعيش أكثر من نصف سكانها في الفقر بحسب بيانات البنك الدولي، وهو ما يدفع نحو تصاعد مشاعر الاستياء تجاه الحزب الحاكم، في ظل إخفاقه في معالجة العديد من القضايا الحيوية، مثل ارتفاع معدلات جرائم العنف، وفضائح الفساد الحكومية، وفشل الخدمات الحكومية الأساسية، والانقطاع المستمر للتيار الكهربي، وما يصاحبه من أضرار بالغة للاقتصاد الوطني.التداعيات المحتملةيحمل المشهد الانتخابي في جنوب أفريقيا، الذي يظل منفتحاً على جميع السيناريوهات، العديد من التداعيات المحتملة التي ربما تؤثر على مستقبل المشهد السياسي في البلاد خلال الفترة المقبلة، ويتمثل أبرز تلك التداعيات فيما يلي:1– الاضطرار إلى تشكيل ائتلاف حكومي: تفرض النتائج على الحزب الحاكم التوجه نحو تشكيل حكومة ائتلافية مع بعض الأحزاب السياسية الصغيرة. وفي هذه الحالة سيكون الحزب مضطراً إلى التصرف بسرعة، خاصةً أن الدستور يسمح للأحزاب الائتلافية بفترة زمنية قدرها أسبوعان فقط للتوصل إلى اتفاق في الجمعية الوطنية عقب إعلان النتائج النهائية للانتخابات. وقد أشارت تقارير إلى إمكانية التفاهم بين الحزب الحاكم وبعض الأحزاب، مثل إنكاثا للحرية بقيادة فيلينكوسيني هلابيسا الذي ربما يكون الخيار الأول للحزب الحاكم، باعتباره أقل استعداداً لعرقلة الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها الحزب الحاكم في وقت متأخر؛ وذلك بالرغم من أن هلابيسا قد صرح في وقت سابق بأنه لا يفضل دعم حزب المؤتمر الوطني، بالإضافة إلى بعض الأحزاب الأخرى، مثل حزب الجماعة الإسلامي، والتحالف الوطني، وحزب أكشن إس إي بقيادة هيرمان ماشابا.2– استمرار التباعد بين الحزب الحاكم وقوى المعارضة الرئيسية: يبدو أن العلاقة بين الحزب الحاكم وقوى المعارضة الرئيسية، وخاصة حزب التحالف الديمقراطي وحزب مناضلون من أجل الحرية الاقتصادية، ستستمر على نفس النمط من التباعد، فهناك تباين بين التحالف الديمقراطي، أكبر حزب معارض، والحزب الحاكم؛ بسبب مواقفهما المتباينة تجاه بعض القضايا الداخلية والإقليمية مثل، الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، والأمر ذاته ينطبق على حزب "المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية" اليساري المتطرف.3– تصاعد أدوار أحزاب المعارضة: تسهم نتائج الانتخابات التشريعية وعدم حسم الحزب الحاكم الأغلبية المطلقة، في توسيع هامش الحركة للأحزاب السياسية الصغيرة التي ربما تلعب دوراً أكبر في الساحة السياسية في البلاد؛ فقد تحصل بعض الأحزاب الصغيرة على بعض المناصب الوزارية أو الإدارات الحكومية. ومن المتوقع أن تحكم بعض أحزاب المعارضة عدداً من المقاطعات في البلاد، وربما يشمل ذلك مقاطعة جوتنج المعقل الاقتصادي والسياسي الذي يمثل ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتضم أكثر من ربع سكان البلاد، وهو ما قد يُمثِّل ضربة رمزية للحزب الحاكم بفقد السيطرة على سلطة المقاطعات الرئيسية في البلاد.4– احتمالية اندلاع التوترات السياسية في البلاد: تزداد التخوفات من مرحلة غير مستقرة في المشهد السياسي في جنوب أفريقيا، في حالة عدم الاتفاق بين الحزب الحاكم وشركائه المحتملين، وربما يدفع رفض نتائج الانتخابات من جانب بعض الأطراف أيضاً إلى الدعوة للاحتجاجات في المدن والشوارع من أجل إظهار القوة التي تعزز مكانة بعض الأحزاب في المشهد السياسي، بما قد يؤدي إلى اندلاع المزيد من أعمال العنف التي ربما تسهم في تعقيد السياق العام هناك، وانعكاسات ذلك السلبية على انعدام الاستقرار بالبلاد.5- تزايد الجدل حول مستقبل الرئيس "رامافوزا":&nbsp;أفضت النتائج التشريعية إلى تزايد الجدل حول مستقبل الرئيس "رامافوزا"؛ ولذا حاولت قيادات الحزب قطع الطريق على أي دعوات لتنحية رامافوزا". وفي هذا الصدد، قال الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم "فيكيلي مبالولا" في جنوب أفريقيا، يوم 2 يونيو 2024، إن الحزب لن ينظر في أي مطالب من شركاء الائتلاف المحتملين بتنحي الرئيس "رامافوزا" عن زعامة الحزب، مشدداً على أن "رامافوزا" سيبقى زعيماً للحزب، وأي مطالب من الآخرين باستقالته من أجل المضي قدماً في المحادثات تعتبر "محظورة". ويأتي ذلك رداً على مطالب حزب "أومكونتو وي سيزوي" الذي يتزعمه الرئيس السابق "جاكوب زوما"، برحيل "رامافوزا" بصفته زعيم الحزب الحاكم حتى يدخل في محادثات ائتلافية مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي.إجمالاً، بالرغم من تنامي مشاعر الاستياء لدى قطاع واسع من المواطنين تجاه حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بما انعكس على نتائج الانتخابات وخسارة الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية، وترجيح وجود شريك له في الحكم خلال السنوات الخمس المقبلة؛ فإن ذلك لا ينفي تزايد فرص استمرار حزب المؤتمر الوطني بصفته أكبر حزب في البرلمان، وإعادة انتخاب زعيمه سيريل رامافوزا رئيساً للبلاد مرة أخرى. ومع ذلك، تتزايد المخاوف من أن يؤدي عدم وجود أغلبية واضحة إلى تعقد عملية انتخاب رئيس الجمهورية، لا سيما أنه ليس هناك ما يشير في الوقت الراهن إلى حسم الحزب الحاكم اختيار شريكه المحتمل في الحكومة الائتلافية المقبلة. وتبدو المرحلة المقبلة مثقلة بالعديد من التحديات التي ستواجه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي على الصعيد الداخلي حال استمراره في السلطة، بما يتطلب تبني سياسات جديدة مغايرة للنهج السابق الذي أثبت فشله في معالجة العديد من القضايا والملفات الداخلية؛ من أجل استعادة ثقة الرأي العام بالحزب أملاً في كسب المزيد من الشعبية التي سوف تنعكس على قدرته على تعزيز نفوذه السياسي في السنوات المقبلة.

دلالات المشهد الانتخابي في جنوب أفريقيا