د. محمود زكريا

تشهد غينيا بيساو الواقعة في إطار إقليم غرب أفريقيا تصاعداً في حالة عدم الاستقرار الداخلي في الدولة خلال الآونة الأخيرة، ولعل آخر مظاهر ذلك قيام بعثة الوساطة التابعة لتجمع "إيكواس" بمغادرة البلاد في مطلع مارس 2025، وذلك بعد تهديدات بالطرد من الرئيس "عمر سيسوكو إمبالو"، علماً بأن وفد هذه البعثة قد تم إرساله لمحاولة إيجاد حل للأزمة السياسية القائمة في البلاد بين الرئيس وأحزاب المعارضة السياسية بشأن موعد إجراء الانتخابات، وذلك بعد صدور قرار المحكمة العليا الذي يقضي بأن فترة رئاسة الرئيس "إمبالو" تنتهي رسمياً في سبتمبر 2025، وهو الأمر الذي رفضته المعارضة السياسية في الدولة؛ حيث تمسكت بتخلي الرئيس عن رئاسة الدولة في 27 فبراير 2025، غير أن الرئيس قد حدد 30 نوفمبر 2025 موعداً لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الدولة. 	دوافع محفزة ثمة جملة من الدوافع المحفزة لتصاعد وتيرة الخلافات بين الرئيس والمعارضة السياسية في غينيا بيساو خلال الآونة الأخيرة، وتتمثل هذه الدوافع فيما يلي: 1- تمديد المحكمة العليا فترة بقاء الرئيس في منصبه: حيث قامت المحكمة العليا في 5 فبراير 2025 بإصدار حكم يقضي بانتهاء فترة ولاية الرئيس "إمبالو" رسمياً في 4 سبتمبر 2025، كما قضى بوجوب شغل الرئيس منصب الرئاسة حتى يتم تنصيب الرئيس القادم بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقد استنكرت أحزاب المعارضة والمجتمع المدني قرار المحكمة، مؤكدين أنها ليست مستقلة سياسياً؛ إذ زعموا أن فترة ولاية الرئيس يجب أن تنتهي في 27 فبراير 2025، وهو ما يتزامن مع الذكرى السنوية الخامسة لتنصيبه رئيساً، بيد أن المحكمة العليا ترى أن فترة ولايته الرئاسية لم تبدأ فعلياً إلا في سبتمبر 2020 وذلك عندما حسم قرار المحكمة الانتصار الانتخابي للرئيس بشكل نهائي في الانتخابات التي أُجريت في عام 2019. ومن الجدير بالذكر أن الرئيس كان قد حصل على نحو (54%) من أصوات الناخبين في هذه الانتخابات، إلا أن&nbsp;زعيم المعارضة السياسية ورئيس الوزراء الأسبق "دومينغوس سيموس بيريرا" رفض الاعتراف بنتائجها.2- تأجيل الرئيس إجراء العمليات الانتخابية في البلاد: تجلى ذلك من خلال إعلان الرئيس "إمبالو" في أواخر فبراير 2025 تأجيل إجراء الانتخابات على المستويين الرئاسي والتشريعي في الدولة إلى 30 نوفمبر 2025، والأمر ذاته بالنسبة للانتخابات البرلمانية فقد قام الرئيس بالفعل بتأجيل الانتخابات التشريعية التي كان من المقرر إجراؤها في نوفمبر 2024 لأسباب لوجستية ومالية، علماً بأن الرئيس كان قد حل البرلمان "المجلس الوطني الشعبي" الذي تسيطر عليه المعارضة السياسية في ديسمبر 2023، إذ تمكن تحالف "منصة التحالف الشامل" (PAI) بقيادة "الحزب الأفريقي من أجل استقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر" من الحصول على غالبية المقاعد، حيث حصل على (54) مقعداً من أصل (102) مقعد. ومن الجدير بالذكر أنه قد سبق للرئيس القيام بحل البرلمان في مايو 2022 وذلك بعدما رفض البرلمان رفع حصانة بعض الأعضاء. 3- تمسك المعارضة السياسية برحيل الرئيس وإجراء الانتخابات: حيث طالبت المعارضة بضرورة مغادرة الرئيس "إمبالو" بعد انتهاء مدة الولاية الرئاسية له والمحددة دستورياً بخمس سنوات في 27 فبراير 2025، والقيام بعقد انتخابات رئاسية في موعدها لاختيار رئيس الدولة، على أن يتم تنصيب رئيس انتقالي في الدولة لحين تنظيم الانتخابات، ولعل هذا ما أكده رئيس "الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر" (PAIGC) "دومينغوس سيمويس بيريرا"؛ حيث طالب بضرورة رحيل الرئيس "إمبالو" المنتهية ولايته عن الحكم، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة في غضون (90) يوماً وفقاً لدستور البلاد، مع تأكيد رفض إجراء هذه الانتخابات في 30 نوفمبر 2025 وفقاً لما أعلنه رئيس الدولة، كما أشار إلى ضرورة قيام البرلمان بتعيين أعضاء اللجنة الوطنية للانتخابات وانتخاب رئيس المحكمة الدستورية المنتهية ولايته.4- تأكيد المعارضة غياب شرعية المؤسسات المعنية بإجراء الانتخابات: تجلى ذلك من خلال انتهاء ولاية رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات وأعضاء الأمانة التنفيذية في أبريل 2022، وهو الوضع الذي استمر بسبب رغبة الحكومة في ممارسة بعض السيطرة على اللجنة المعنية بتنظيم الانتخابات والإشراف عليها؛ حيث قامت الحكومة بتغيير رئاسة اللجنة إلى نائب الرئيس الحالي "أدجا ساتو كامارا بينتو"، ومن جانب آخر أصبحت المحكمة العليا في البلاد عاجزة عن أداء مهمتها الانتخابية منذ الاستقالة القسرية لرئيس المحكمة العليا "خوسيه بيدرو سامبو" في نوفمبر 2023.كما أن نحو (6) من أصل (12) قاضياً في المحكمة يخضعون لإجراءات تأديبية بدأها نائب الرئيس السابق القاضي "ليما أندريه"، وهؤلاء القضاة لا يستطيعون مزاولة مهامهم، وهذا يعني أن المحكمة لا تملك النصاب القانوني المكون من سبعة قضاة المطلوبين للجلوس والتداول بشأن المسائل المعروضة عليها، حيث تتولى مهمة مراجعة وإثبات أهلية المرشحين السياسيين والتحقق من النتائج النهائية للانتخابات وإعلانها، وهي مسؤولة أيضاً عن تسوية النزاعات الانتخابية، ولمعالجة هذا الخلل أنشأ رئيس المحكمة المؤقت لجنة فنية خاصة مسؤولة عن عملية التحقق من الترشيحات، مع الأخذ في الاعتبار أن إنشاء هذه اللجنة يتعارض مع القوانين التي تحكم تنظيم المحكمة وعملها. تداعيات محتملةثمة جملة من التداعيات المحتملة جراء تصاعد وتيرة الأزمة السياسية في غينيا بيساو بين الرئيس والمعارضة السياسية خلال الآونة الأخيرة، وتتمثل هذه التداعيات فيما يلي:1- تصاعد الاحتجاجات المعارضة للرئيس: يدعم ذلك تأكيد رئيس الوزراء السابق وأحد زعماء المعارضة السياسية في البلاد "نونو نابيام" أن الاحتجاجات أمر لا مفر منه حتى استعادة النظام الدستوري، وقد حدثت بالفعل احتجاجات مناوئة للرئيس "إمبالو" في الخارج من قِبل مجتمعات المغتربين، وذلك على نحو تلك التي وقعت في عاصمة البرتغال "لشبونة"، والتي تم من خلالها المطالبة برحيل الرئيس واحترام الدستور والديمقراطية، ومن المتوقع أن يمتد نطاق هذه التظاهرات إلى الداخل خلال الآونة المقبلة ولا سيما في ضوء رفض الرئيس "إمبالو" للمعارضة السياسة؛ حيث وصفها بأنها "غير كفء"، كما تحرك الرئيس نحو منع مختلف الكيانات السياسية التابعة للمعارضة من الحصول على أي سلطة اتخاذ القرار.2- تعقيد العلاقة بين النظام وتكتل إيكواس: يعزز من ذلك قيام بعثة الوساطة التابعة لتجمع "إيكواس" بمغادرة الدولة في مطلع مارس 2023، متهمة الرئيس "إمبالو" بالتهديد بطرد وفد البعثة الذي يقوده الدبلوماسي النيجيري "باغودو هيرس"؛ حيث يرى الرئيس أن الوفد انتهك التفويض الممنوح له من خلال لقاء شخصيات معارضة، في حين تنفي البعثة ذلك، علماً بأنه قد تم إرسال الوفد من قِبل التجمع إلى جانب مكتب الأمم المتحدة لغرب أفريقيا والساحل (UNOWAS) خلال الفترة (21-28) فبراير 2025. وتمكن الوفد بالفعل من لقاء الرئيس "إمبالو" وغيره من السياسيين وجماعات المجتمع المدني لمحاولة التوصل إلى إجماع سياسي بشأن موعد إجراء الانتخابات المقبلة، كما استطاع إعداد مسودة اتفاق بشأن خارطة طريق للانتخابات في عام 2025، وتم تقديمها إلى أصحاب المصلحة للموافقة عليها. 3- سعي الرئيس لكسب مزيد من الدعم الخارجي: يدعم ذلك حرص الرئيس "إمبالو" على دعم فرص بقائه في السلطة السياسية عبر استهداف مزيد من التأييد من قِبل القوى الخارجية المؤيدة له وعلى رأسها روسيا؛ حيث قام الرئيس "إمبالو" بأول زيارة دولة إلى روسيا في 26 فبراير 2025، والتي أكد من خلالها الجانب الغيني أن "موسكو" تعد بمثابة شريك استراتيجي لغينيا، كما ناقش الطرفان آفاق التعاون المشترك في مختلف المجالات ولا سيما الاستكشاف الجيولوجي والموارد المعدنية والبنية التحتية والطاقة والزراعة ومصايد الأسماك، فضلاً عن دعم التنسيق البيني فيما يخص القضايا الدولية والإقليمية الرئيسية. 4- تنامي فرص الاضطرابات الداخلية في الدولة: يعزز من ذلك تهديد وزير الداخلية "بوتشي كاندي" بالتعامل بحزم مع أي تظاهرات أو احتجاجات شعبية مزمعة في الدولة جراء الأزمة السياسية القائمة، وكذلك تأكيد وزير الدولة للنظام العام "خوسيه كارلوس ماسيدو مونتيرو" أن قوات الأمن لن تتسامح مع أي عمل يهدف إلى الإخلال بالنظام العام في البلاد، ويضاف إلى ما سبق وجود ميراث تاريخي من عدم الاستقرار في الدولة منذ حصولها على الاستقلال عن الاحتلال البرتغالي في عام 1974، حيث تُعد "غينيا بيساو" واحدة من أكثر الدول عرضة للانقلابات العسكرية؛ إذ تم تسجيل أربعة انقلابات عسكرية ناجحة، ولعل آخرها ذلك الذي حدث في عام 2012، فضلاً عن وجود نحو (17) محاولة انقلابية أخرى في الدولة، لعل آخرها تلك التي جرت في نوفمبر 2023، والتي سبقتها محاولة أخرى في فبراير 2022. وختاماً، يمكن القول إن الأزمة السياسة التي تشهدها غينيا بيساو خلال الآونة الأخيرة تعكس واقع الإشكاليات القائمة والمستمرة في العلاقة بين الرئيس "إمبالو" والمعارضة السياسية في الدولة، والمرتبطة بالأساس بتمسك الأخيرة بانتهاء الولاية الرئاسية للرئيس، وضرورة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في البلاد، وتطرح الرؤية المستقبلية استمرار تصاعد حالة عدم الاستقرار الداخلي في الدولة، لا سيما في ضوء رفض المعارضة السياسية القاطع لقرار الرئيس بتأجيل إجراء الانتخابات إلى أواخر العام الجاري من جانب، وانسداد سبل التسوية السلمية عبر وساطة تجمع "إيكواس" من جانب آخر، وهو ما قد يفتح معه المجال أمام تنامي احتمالات حدوث الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية خلال الآونة المقبلة كأداة من قِبل المعارضة السياسية لممارسة الضغط على الرئيس للتخلي عن الحكم.

ما مآلات الأزمة السياسية في غينيا بيساو؟