د. يوسف داوود


        
<p><strong>خلال فترات الأزمات، تدخل الدول والتجمعات السياسية والاقتصادية في مرحلة مراجعات لديناميكيات عملها وسلسلة تحالفاتها، بل ربما لسبب وجودها وماهيتها. ومما لا شك فيه، أن الاتحاد الأوروبي يمر حالياً بمنعطف خطير فيما يتعلق بقدرته على مواجهة تحديات الوقت الراهن؛ فالظروف الدولية والتفاعلات الاقتصادية العالمية لم تَعُد كما كانت عليه عام 1993، عندما دخلت اتفاقية ماستريخت المؤسسة للاتحاد حيز النفاذ. وقد نتج عن الصدمات المتعاقبة ارتفاع الأصوات المنادية بضرورة إصلاح الاتحاد الأوروبي، خاصةً من قبل التيارات التقدمية التي أصبحت دعوات الإصلاح لديها مرادفة لتوسيع عضوية الاتحاد وتعزيز صلاحياته، مع وجود اتجاهات أخرى تنادي بإصلاح الاتحاد دون توسيعه.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">مبادرات إصلاحية</span></strong></p>



<p>تصاعدت خلال السنوات الأخيرة المطالب بإصلاح الاتحاد الأوروبي في ضوء الأزمات والإشكاليات العديدة التي باتت تواجهها الدول الأوروبية. وتبلورت هذه المطالب في عدد من المبادرات والمشاريع المتمثلة فيما يلي:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– مبادرة الرئيس ماكرون لإنشاء "جماعة أوروبية جديدة":</strong> أثناء انعقاد مؤتمر "مستقبل أوروبا" في مايو 2022 في مدينة ستراسبورج بفرنسا، أشار الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إلى تطلع الدول الأوروبية إلى إيجاد "جماعة سياسية أوروبية جديدة". وبينما لم يُوضِّح الرئيس الفرنسي ماهية هذه الجماعة السياسة أو الخطوات اللازمة لتحقيقها، فإن بعض المحللين رجَّحوا أنه يقصد إعادة إحياء مقترح "فرنسوا ميتران" بإنشاء "كونفدرالية أوروبية" بحيث يتم إعادة التفكير في القارة الأوروبية من حيث الأهداف السياسية المشتركة التي قد تتعدَّى جغرافياً الدول الأعضاء بالاتحاد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– مشروع إصلاح المفوضية الأوروبية لمنطقة "شنجن": </strong>يتناول هذا المشروع في الأساس حرية حركة الأفراد داخل النطاق الحالي للاتحاد الأوروبي – أي لا يهدف إلى توسيع الاتحاد – وهو مشروع مدفوع من قبل كلٍّ من فرنسا وألمانيا عن طريق المفوضية الأوروبية لفرض بعض قيود الحركة على الحدود بشكل لا يُعِيق حرية حركة التجارة، بل يستهدف بصورة رئيسية تهديدات الإرهاب وحركة النزوح من بيلاروسيا إلى الحدود البولندية والليتوانية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– دعوة إيطاليا إلى إصلاح الإطار التعاقدي:</strong> ضمن كلمته أمام البرلمان الأوروبي في مايو 2022، دعا رئيس الوزراء الإيطالي "ماريو دراجي" دول الاتحاد إلى مراجعة الإطار التعاقدي العام للاتحاد؛ لتمكينه من الاستجابة للتحديات الراهنة، وقد قصد بالتحديد إدخال بعض التعديلات لتعزيز "سياسة الأمن والدفاع المشتركة"، التي وفقاً للقواعد الحالية يكون صنع القرار فيها ضمن الصلاحيات الحصرية لدول الاتحاد لا ضمن صلاحيات الاتحاد نفسه على مستوى مؤسساته، بالإضافة إلى تعديل قاعدة "الإجماع" في اتخاذ القرارات التي وصفها بأنها قد عفا عليها الزمن.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– مطالبة المستشار الألماني بإصلاح جذري للاتحاد الأوروبي:</strong> في أحدث دعوات الإصلاح، شدد المستشار الألماني "أولاف شولتز"، في نهاية شهر أغسطس 2022، على ضرورة توسيع الاتحاد الأوروبي، لكن مع إجراء تغييرات وإصلاحات جذرية في بروكسل بالتوازي مع ذلك، فضلاً عن تأكيده ضرورة عدم تأدية ذلك إلى زيادة عدد النواب بالبرلمان الأوروبي عن الـ751 عضوًا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">دوافع رئيسية</span></strong></p>



<p>ترتبط أطروحات إصلاح الاتحاد الأوروبي المتصاعدة بعدد من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تأثيرات الحرب الأوكرانية على أوروبا:</strong> تفرض الحرب الروسية الأوكرانية حقائق جيوسياسية جديدة على القارة الأوروبية، وتضع الأوروبيين في موضع شك في مدى جدوى مشروعهم الاندماجي؛ فقد وضعت الحرب مسألة "الأمن" الأوروبي على رأس أولويات دول الاتحاد، وعاد يراود فكر الساسة الأوروبيين كيفية تحقيق الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية، وعلى رأسها ضمان أمن واستقلال دولهم. هذا وقد بدأت عدد من الدول تستشعر أن مسألة انفتاح الحدود، وإن كانت مفيدة لتحقيق الرفاهية الاقتصادية، فإن تدفقات اللاجئين الأوكرانيين باتت تشكل أزمة كبيرة على اتساع القارة من الناحية الأمنية، وهو ما جعل الاتحاد يراجع سياسته المُنصبَّة على دول الجوار الجغرافي الأوكراني فحسب.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار القتال وعدم قدرة أي طرف على الحسم، أثبتت أن سياسة المساعدات الإنسانية والمالية والعسكرية التي يُقدِّمها الاتحاد لكييف لم تَعُد كافيةً لإثبات نجاعة "الدعم على حساب الانخراط المباشر"، وأنه رغم عدم عضوية أوكرانيا في الاتحاد، فإنها تمثل "درساً وعبرةً" لعدم قدرة الاتحاد على حسم التهديدات الوجودية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– صعود تيارات اليمين الشعبوي:</strong> أدَّت الأزمات المتتالية للاتحاد إلى صعود التيارات الشعبوية، سواء عن طريق وصولها إلى الحكم (المجر وصربيا)، أو تمدُّد نفوذها في المعارضة (فرنسا وألمانيا)، فضلاً عن انبعاث الحركات القومية والنزعات الهوياتية. وفي مقابل التيارات المتشككة في هذا الاندماج وصعود قوتها، فإن داعمي الاتحاد اتجهوا إلى سياسة المراجعة ودعوات الإصلاح بغية احتواء هذا النهج المتصاعد سواء داخلياً في كل دولة أو على مستوى الاتحاد نفسه.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– التداعيات الناجمة عن جائحة كورونا:</strong> أظهرت جائحة كورونا أن حرية انتقال الأفراد بين دول الاتحاد لم تُترجَم إلى نقل إمكانات مجابهة الجائحة بصورة فعَّالة أثناء وصول أعداد الوفيات إلى الذروة؛ فرغبةً منها في حصر انتشار الوباء، فضَّلت الدول الأكثر نجاحاً في مواجهة الجائحة "ألمانيا مثلاً"، تشديد قيود الحركة على مساعدة الدول الأكثر تضرراً (مثل إيطاليا وفرنسا) من منطق الشراكة والمصير الأوروبي المشترك. هذا وقد أثارت هذه الخيارات الشكوك حول وجود إيمان حقيقي بالمشروع الأوروبي من الناحية الوجدانية والعقائدية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– التحوُّلات الجارية في النظام الدولي:</strong> لا تنفصل دعوات إصلاح الاتحاد الأوروبي في الفترة الأخيرة عن التحولات الجارية في شكل وتركيبة النظام الدولي؛ حيث باتت القيادة الأمريكية المنفردة للنظام موضع شكوك كبيرة في ظل الأزمات التي تعاني منها الولايات المتحدة، وتصاعد نفوذ القوى المناوئة لواشنطن، على غرار الصين وروسيا. وفي سياق كهذا، تحاول الدول الأوروبية القائدة، وخاصةً ألمانيا وفرنسا، إعادة تأكيد مكانة الاتحاد الأوروبي في النظام الدولي، والحفاظ على المصالح الأوروبية في عالم يتغير بوتيرة متسارعة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">عقبات موضوعية</span></strong></p>



<p>إن احتماليات نجاح مشروعات ودعوات إصلاح الاتحاد الأوروبي السالفة الذكر – خاصة الأكثر طموحاً – سيكون من الصعب ترجمتها على أرض الواقع في الفترة الحالية أو في المستقبل القريب؛ حيث تقف عدد من العقبات الموضوعية حائلاً أمام تنفيذها بسلاسة على أقل تقدير، وأهم هذه العوامل:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– اختلاف القدرات بين دول أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية:</strong> إن دعوات توسُّع الاتحاد – التي تأتى في القلب من دعوات الإصلاح – تخصُّ في الأساس دول أوروبا الشرقية وجنوب أوروبا غير الأعضاء بالاتحاد. ولكن بالنظر إلى الوضع الاقتصادي والقوة السياسية لهذه الدول، يتضح بجلاء وجود فجوة في القدرات والإمكانات بين هذه الدول ودول أوروبا الغربية؛ حيث إنه رغم مساهمة هذا التوسيع في زيادة العمق الاستراتيجي للدول الكبرى بالاتحاد (فرنسا وألمانيا)، وتمكينها من الدفاع عن نفسها عسكرياً بصورة أكثر سلاسة، فإن فاتورة هذا التوسيع ستقع على عاتقها هي أيضاً بالنظر إلى وضع الدول المقرر ضمها، ولعل أهمها دول شرق أوروبا (أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا)، ودول غرب البلقان (ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا).</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تحقيق الاتساق بين الوثائق الحاكمة لعمل الاتحاد:</strong> للاتحاد الأوروبي إرث كبير من الاتفاقيات والقواعد الداخلية المنظمة لعمله، التي يقوم عليها جزء كبير من عمل المفوضية الأوروبية، ويأتي على رأسها اتفاق لشبونة الذي دخل حيِّز النفاذ عام 2009، وقواعد كوبنهاجن لقبول الأعضاء الجدد، واتفاقية أسلوب عمل الاتحاد الأوروبي. في ذات السياق، فإن دعوات الإصلاح والتوسيع من المقرر أن ينتج عنها مجموعة من الوثائق المُلزِمة وغير المُلزِمة التي لا يترتَّب عليها التزامات جديدة فقط، بل مراجعة شاملة للنسق القانوني والقواعدي الذي يقوم عليه الاتحاد، وما يترتب عن ذلك أيضاً من مراجعة شاملة للهياكل البيروقراطية للمؤسسات الأوروبية الحالية، وهو أمر بالغ التعقيد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– ترتيب أولويات مواجهة التحديات: </strong>إن كان الهدف الرئيسي من دعوات الإصلاح والتوسيع يتمثَّل في تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي، من الناحية الاستراتيجية، في الدفاع عن أمنه، فضلاً عن وضع أهداف سياسية مشتركة، فإنه لا يمكن إغفال أن الاتحاد الأوروبي يعاني بشدة من مشكلات اقتصادية آنيَّة قد تلقي بأي محاولات طموحة للإصلاح في مهب الريح. ووفقاً لآخر استطلاعات للرأي، يرى مواطنو عدد من الدول الأوروبية أن أكبر المشكلات الحالية التي يعاني منها الاتحاد هي التفاوتات الاجتماعية (36%)، والبطالة (32%)، تليهما قضايا الهجرة والأمن الداخلي (31%)، وهو ما يُشكِّل ضغطاً على قادة الدول الأوروبية، ويُلزِمهم بمراجعة مقترحات التوسيع في ظل وجود عدد كبير من الأزمات الجوهرية العالقة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ورغم الصعوبات العملية التي تواجه مشروعات توسيع الاتحاد الأوروبي، فإن هناك مقترحات تنادي بتطبيق ما يُسمَّى "الاندماج المتمايز Differentiated Integration"، وهو مصطلح يعني إمكانية ضم دول جديدة إلى الاتحاد لكن مع احتفاظها – أو وضعها – في مستوى أقل من الاندماج؛ وذلك على غرار النموذج البريطاني قبل خروجه من الاتحاد؛ فبناءً على هذا المبدأ، قد تشارك دول في وضع سياسات الاتحاد، بل في الانخراط في تنفيذها، لكن دون التمتُّع بوضع الدولة العضو بما يحمله أيضاً من مسؤوليات جِسَام. هذا وإن كان التكامل المتمايز يوفر من الناحية النظرية مجالًا للمناورة لتوسيع البناء الأوروبي مع المساهمة في تعميقه، فإنه يحمل في طياته اعترافاً ضمنياً بعدم إمكانية تحقيق التكامل الأوروبي كما حلم به الآباء المؤسسون، وأن اختلاف الظروف والإمكانات المادية من شأنه تعطيل توسيع الاتحاد، بل النخر في عظام الاتحاد الموجود بالفعل.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>خلاصة القول أنه بالرغم من الطابع المُلِح لأطروحات الإصلاح المتعددة للاتحاد الأوروبي في ظل التعقيدات الراهنة والأزمات المتعددة التي تواجهها الدول الأوروبية، فإن هذه الأطروحات تواجه إشكالات عديدة، لا سيما أنه لا يوجد اتفاق واضح بين الدول الأعضاء حول كيفية إصلاح الاتحاد الأوروبي، كما أن الأزمات التي تواجهها الدول الأوروبية – على غرار الأزمة الأوكرانية والاستجابة لها – سبَّبت تباينات وخلافات عميقة بين هذه الدول.</p>

      

هل يمكن أن تنجح مشروعات إصلاح الاتحاد الأوروبي؟