د. يوسف داوود

منذ وصولها إلى الحكم، حرصت رئيسة وزراء إيطاليا "جورجيا ميلوني" على إثبات ولائها للولايات المتحدة الأمريكية وعلاقاتها العابرة للأطلنطي؛ وذلك اعتقاداً منها بأن دعم واشنطن يمنحها الوضعية الإقليمية والدولية المرغوب فيها، بل أيضاً سيُمكِّنها من تحييد معارضيها على المستوى الداخلي، وسلب تيارات اليسار أصولها السياسية الرئيسية المتمثلة في الانفتاح على العولمة ومناوأة السياسات المحافظة التي تتوافق مع الأفكار التقدمية لإدارة بايدن الديمقراطية. مع ذلك، يشير واقع الممارسة العملية إلى أن مظاهر التحديات الداخلية والخارجية تتزايد في إيطاليا، وأن التماسك المرغوب على المستويين الداخلي والخارجي يخضع لمجموعة من الضغوط والتحديات التي من شأنها وضع رهان "ميلوني" على المحك. هذا ويوضح استعراض التحديات الداخلية والخارجية الماثلة أمام حكومة "ميلوني" الصعوبات التي تعاني منها إيطاليا في الوقت الراهن، ومدى قدرتها على تجاوزها على المديين المنظور وغير المنظور.مشكلات الداخلتتمثل أهم التحديات الداخلية التي تواجه حكومة "ميلوني" في مجموعة من عناصر المقاومة لمشروعها السياسي، سواء كانت ظرفية تتعلق بضغوط خارجية، أو هيكلية تتعلق بجوهر التحالف السياسي الحاكم:1– نمو اقتصادي متباطئ وارتفاع معدلات الدين: يعد النمو الاقتصادي الضعيف والتحديات التي تفرضها الديون الضخمة للبلاد من المشاكل الرئيسية التي تواجه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بعد عامها الأول في السلطة، وهي ذكرى تميزت بإعلان مفاجئ عن ترك شريكها منذ فترة طويلة. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تباطؤاً في التعافي الاقتصادي من جائحة كوفيد–19، مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4% في الربع الثاني. ويتوقع المحللون أن يكون النمو الإيطالي من أدنى المعدلات في منطقة اليورو خلال عام 2024. هذا، ويفرض هذا الوضع المتعثر قيوداً على ميلوني أمام الوفاء بوعودها لخفض الضرائب ويجعل ديون إيطاليا، التي تعادل 140% من الناتج الوطني، عرضةً لعمليات البيع في السوق بفوائد أعلى.2– تهديد توجه "سالفيني" نحو اليمين المتطرف: في محاولة للخروج عن عباءة "ميلوني"، اتجه ماتيو سالفيني نائب رئيسة الوزراء وزعيم حزب "الرابطة" إلى أقصى اليمين بشأن قضايا مثل الجريمة والعلاقات مع بروكسل، وإن كان هذا التحول لم يحرك استطلاعات الرأي في اتجاهه بعد. وتسبب توجه سالفيني نحو اليمين في استياء داخل صفوف حزبه ويسبب مشكلة لميلوني في سعيها لتقديم حكومتها باعتبارها شريكاً موثوقاً به في أوروبا وخارجها. وبناءً على هذه التوجهات الجديدة، قد يعاني اليمين الإيطالي مستقبلياً من مشكلة تماسك حقيقية، يحمل فيها سالفيني راية الجبهة الأكثر تطرفاً والمعادية للاتحاد الأوروبي، بينما تقود ميلوني الجهود المبذولة لسد الفجوة بين التيار المحافظ الوسطي وبين المتشددين.3– خسارة الائتلاف اليميني للانتخابات في سردينيا: في الانتخابات التي عُقدت بجزيرة سردينيا في فبراير 2024، أظهرت النتائج أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني منيت بأول انتكاسة انتخابية كبيرة لها منذ توليها منصبها في عام 2022، مع خسارة كتلتها اليمينية السلطة في جزيرة سردينيا بالبحر المتوسط. هذا وقد فازت أليساندرا تود، عضوة حركة 5 نجوم ذات الميول اليسارية والمدعومة من الحزب الديمقراطي، بنسبة 45.4% من الأصوات في الانتخابات متفوقة على باولو ترزو المرشح الذي اختارته ميلوني، والذي حصل على 45% من الأصوات.4– تخوف من تراجع شعبية حزب "إخوة إيطاليا" في الانتخابات المقبلة: كانت للانتخابات في جزيرة سردينيا دلالات أبعد من مجرد هزيمة مؤقتة لتحالف اليمين؛ حيث تعتبر هذه المرة هي الأولى التي يتمكن فيها يسار الوسط من الفوز بمنطقة منذ عام 2015؛ ما أعطى دفعة لأحزاب المعارضة قبل أربعة انتخابات إقليمية أخرى مقررة في عام 2024 وانتخابات البرلمان الأوروبي المقرر إجراؤها على مستوى البلاد في يونيو. وبالرغم من فوز كتلة رئيسة الوزراء، بما في ذلك حزبها "إخوة إيطاليا" و"الرابطة" و"فورزا إيطاليا"، بجميع الانتخابات الإقليمية الأربعة التي أجريت في عام 2023، وسيطرتها على 14 منطقة من مناطق إيطاليا العشرين، فإن استطلاعات الرأي الحديثة تؤشر على أن اليمين يفقد جزءاً معتبراً من شعبيته.5– الدخول في صدامات لتنفيذ الأجندة المجتمعية للحكومة: لا تزال حكومة ميلوني تعاني من شد وجذب على الصعيد المجتمعي نتيجة مواقفها الصارمة إزاء حقوق المثليين واستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وغيرها من القضايا التقدمية؛ ففي غضون أسابيع قليلة من توليها السلطة، تخلت حكومة جورجيا ميلوني عن ادعاء الاعتدال الداخلي وأظهرت طابعها المحافظ من خلال فتح معارك ثقافية حول حقوق المثليين، وتقدم التكنولوجيات الجديدة. وقد بدأت هذه المعركة ضد التوجهات التقدمية عندما أصدرت حكومة ميلوني تعليمات إلى مجلس مدينة ميلانو بالتوقف عن تسجيل أطفال الأزواج المثليين، مستشهدة بأمر المحكمة الصادر في ديسمبر 2022 عن المحكمة العليا الإيطالية الذي ألزم الأسر بالحصول على موافقة على مثل هذه التسجيلات من قبل المحاكم.ضغوط خارجيةتتزامن التحديات الداخلية مع مجموعة من التحديات الخارجية التي تواجهها إيطاليا في علاقاتها الإقليمية والدولية، والتي يتمثل أهمها في الآتي:1– أولوية قضية الهجرة على المستوى الأوروبي: لا تزال قضية الهجرة تشكل أولوية وتحدياً على أجندة السياسة الأوروبية لجورجيا ميلوني. ويرجع جزء من استمرار هذا التحدي إلى سقف التعهدات المرتفع الذي قطعته ميلوني على إيطاليا في الأيام الأولى لتوليها المهمة؛ وذلك عندما أعلنت عزمها معالجة تدفقات الهجرة عبر الحدود الإيطالية، ملوحةً بخطة إيطالية مستقبلية لدعم تطوير بلدان المغادرة والعبور، وهي الخطة التي لا يزال جوهرها غير واضح.2– معضلة توسيع المجال الحيوي الخارجي لإيطاليا: صاحب خطط "ميلوني" الطامحة لعلاج مشكلات الهجرة من المنبع، صياغة ما يعرف باسم "مفهوم البحر الأبيض المتوسط الأوسع" وشيوعه في التفكير الجيوسياسي الإيطالي، بما يشمله ذلك من توسيع مجالات اهتمام السياسة الخارجية الإيطالية لتشمل منطقة شمال أفريقيا بالكامل ومنطقة الساحل الأفريقي. وقد تبنت ميلوني هذه الفكرة، مؤكدة أن إيطاليا يجب أن تفي بالمهمة التي أوكلتها إليها الجغرافيا، وهي أن تصبح جسراً أوروبياً إلى شواطئ الجنوب. وفي ظل تبلور هذه المفاهيم، تجد ميلوني نفسها أمام تحديات الوفاء بالتزامات كبيرة تجاه القارة الأفريقية في ظل واقع إقليمي ودولي معقد تحتدم فيه المنافسة الأمريكية الصينية علي مناطق النفوذ في القارة السمراء.3– إشكالية الحفاظ على تماسك مجموعة السبع: بالرغم من أن "ميلوني" فاجأت نظراءها الأوروبيين مراراً وتكراراً بتحالفها مع المعسكر الغربي ومصالحه بشكل كامل، فإن إيطاليا تبدأ رئاستها لمجموعة السبع بمواجهة مهمة شاقة تتمثل في الحفاظ على وحدة هذه المجموعة، وسط تصاعد التوترات والتحديات. ومن المرجح أن تركز قمة المجموعة التي ستُعقد في يونيو على استجابات مجموعة السبع للصراعات المستمرة في أوكرانيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى السياسات تجاه أفريقيا والهجرة، والتعاون المتعدد الأطراف في مجال الذكاء الاصطناعي.على صعيد الأزمة الأوكرانية، ورغم أن الدعم الغربي لأوكرانيا كان قوياً بوجه عام على مدى العامين الماضيين منذ بداية الحرب، فإن التصدعات ظهرت على مدى الشهرين الماضيين؛ حيث يعاني الاتحاد الأوروبي من أجل الاتفاق على حجم المساعدات العسكرية المقرر إرسالها إلى كييف. وما زال الكونجرس الأمريكي يعاني من الشلل فيما يتصل بهذا الأمر. أما اتصالاً بالحرب في غزة، فيسعى أعضاء مجموعة السبع للتوصل إلى مواقف مشتركة بشأن استجاباتهم للصراع ودعمهم لكل من الفلسطينيين وإسرائيل. وكانت هذه الانقسامات واضحة في الأمم المتحدة؛ حيث صوتت فرنسا لصالح قرار يدعو إلى هدنة إنسانية في الصراع في 26 أكتوبر 2023 وعارضته الولايات المتحدة، وامتنعت الدول الأعضاء الأخرى في مجموعة السبع عن التصويت.4– استمرار الخلافات مع عواصم أوروبية هامة: لا تعني المواقف المتقاربة التي اتخذتها رئيسة الوزراء الإيطالية إزاء الاتحاد الأوروبي وقضاياه أن هذا التوافق يمتد بشكل تلقائي إلى علاقات إيطاليا الثنائية بالدول الأعضاء بالاتحاد. فعلى سبيل المثال، نظراً إلى تاريخ التنافس بين روما وباريس، لم يكن من المفاجئ أن يشهد العام الماضي نوبات خلاف بين ميلوني وإيمانويل ماكرون حول موضوعات الهجرة والسياسات المالية الأوروبية، كما لوحظ هذا التوتر أيضاً في علاقات إيطاليا مع ألمانيا في أواخر سبتمبر 2023 عندما كتبت ميلوني إلى المستشار أولاف شولتز معربة عن "دهشتها" لدعم حكومته بعض المنظمات غير الحكومية التي تجري عمليات بحث وإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط.الخلاصة: إن كانت حكومة "ميلوني" في إيطاليا تعاني من تحديات متنامية علي الصعيدين الداخلي والخارجي، إلا أن انقسام المعارضة داخلياً ساعدها على إحكام قبضتها على السلطة وإبقاء حزبها على رأس استطلاعات الرأي، مع ما يقرب من 30% من تأييد الناخبين، كما لا يزال حزبها يهيمن على حليفيه في الائتلاف: حزب الرابطة وحزب فورزا إيطاليا، اللذين تظل مجموع نقاطهما أقل من 20% في استطلاعات الرأي نفسها. ومن ثم، تؤشر هذه العوامل على استمرار تماسك السياسات الإيطالية في المجال الخارجي أيضاً، حتى إن كان عدم الوضوح يعتبر التحدي المزمن الأكبر على هذه الأجندة.

تزايد التحديات أمام حكومة ميلوني في إيطاليا