إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية


        




<p>لطالما كانت الفوضى وعدم الاستقرار أرضاً خصبة للجريمة المنظمة والشبكات الإجرامية التي نشطت أكثر في دول أوروبا الشرقية، إلا أن الصراع في أوكرانيا قد مَثَّلَ فرصة ذهبية لجماعات الجريمة المنظمة. وبالرغم من أن أوكرانيا تضع ملف مكافحة الفساد والجريمة المنظمة على رأس أولوياتها منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1991، فإنها لا تزال مصنفة ضمن أسوأ دول العالم في الفساد والجريمة المنظمة؛ فحتى قبل العملية العسكرية الروسية الشاملة في العام الماضي، صنَّفت المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (GITOC) أوكرانيا في المرتبة الـ34 من بين 193 دولة بمؤشر الجريمة المنظمة في عام 2021؛ هذا بجانب استمرار تحقيقها نتائج سيئة وبشكل ملحوظ في تصورات الفساد؛ فوفقاً لتقرير عام 2021 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلَّت أوكرانيا المرتبة الـ122 من بين 180 دولة؛ الأمر الذي يُشير إلى استمرار مظاهر الفساد والجريمة المُنظَّمة بالبلاد، خاصةً في ضوء انشغال كييف بحربها الخارجية مع موسكو، ومن ثم فإن هناك المزيد من الفرص لتنامي أنشطة جماعات الجريمة المنظمة على أراضيها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">مظاهر النشاط</span></strong></p>



<p>نتيجةً لحالة عدم الاستقرار الأمني التي سبَّبتها الحرب في أوكرانيا، تمَّت إتاحة الفرصة أمام جماعات الجريمة المنظمة لممارسة أنشطتها بطرق مختلفة، ويمكن رصد أبرز هذه الأنشطة على النحو التالي:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تصاعد عمليات تهريب البشر:</strong> كانت الحرب ملاذاً جديداً لأفراد عصابات عمليات تهريب البشر؛ حيث تُقدِّر منظمة الأمم المتحدة أن هناك نحو 5 ملايين لاجئ أوكراني حتى الآن يعيشون في مناطق حمائية مؤقتة في أوروبا؛ الأمر الذي يتيح فرصة لهذه العصابات من أجل استغلال هؤلاء الملايين في أنشطتهم غير المشروعة؛ وذلك تحت مظلة مساعدتهم في تهريبهم إلى مناطق أكثر أماناً واستقراراً؛ إذ إن من المحتمل وقوع نحو 100 ألف ضحية لعمليات التهجير. إضافةً إلى ذلك، هناك سوق أخرى لتهريب المجندين من أوكرانيا؛ فقد سبق أن تم القبض على ما لا يقل عن 8 آلاف شخص، وهم يحاولون مغادرة البلاد هرباً من التجنيد. ولكن مع ذلك، ليس حجم التهجير البشري، حتى الآن، بالسوء الذي يمكن أن يكون عليه إذا استمرَّت الحرب أكثر.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>بجانب ذلك، فإن هناك الملايين من الأوكرانيين والروس الذين لا يزالون يعانون من الفقر المدقع نتيجةً للحرب وتداعياتها الاقتصادية؛ فهم في حاجة ماسة إلى المال والغذاء والضروريات الأساسية الأخرى، ومن ثم قد يلجأ بعضهم إلى العمل غير الرسمي للبقاء على قيد الحياة؛ ما يجعلهم عرضة للاستغلال من قبل المتاجرين بالبشر.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تغيير أنشطة الاتجار بالمخدرات: </strong>بالرغم من كون أوكرانيا قبل الحرب مركزاً لعبور مجموعة واسعة من المخدرات، بما في ذلك الهيروين من أفغانستان، والكوكايين من أمريكا اللاتينية، فإن الحصار العسكري الروسي عقب العملية العسكرية، قد أدى إلى نقص الإمدادات منها، خاصة بعد أن هرب العديد من قاعدة المستهلكين الأثرياء في السوق، وهو ما تسبب في انخفاض أسعارها بنسبة 25%، وفقاً لإحصائيات المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (GITOC). ولكن من ناحية أخرى، سرعان ما انتعشت المخدرات الاصطناعية، وارتفعت الجرائم الجنائية المسجلة المتعلقة بتوزيع المخدرات بنحو 16% خلال عام 2022 مقارنةً بعام 2021.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– ازدياد جرائم غسيل الأموال:</strong> أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن موسكو عززت الروابط مع المجرمين المنظمين؛ حيث طُلب من رجال العصابات الروس الذين يعملون خارج البلاد، إيداع حصة من أرباحهم فيما تسمى "الحسابات السوداء"، التي يمكن للجواسيس الروس الوصول إليها لتغطية تكاليف عملهم، كما تم تجنيد المجرمين للعمل عملاء استخبارات في الكرملين، ولا سيما للمساعدة في الحصول على أشباه الموصلات المحظورة التي تشتد الحاجة إليها من أجل الحرب. هذا وقد أشار تقرير صادر عن المعهد الإقليمي لأبحاث الجريمة والعدالة التابع للأمم المتحدة إلى حادثة اتهام مسؤولي وزارة العدل الأوكرانية فرداً أوكرانياً بمساعدة شركة روسية في غسل الأموال باستخدام شركة قبرصية، وتسجيل حساباتها في بنك خاص في أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– ملاذ لتخطي العقوبات الغربية:</strong> اتصالاً بالنقطة السابقة، فإنه بعد قرار الغرب تجميد الكثير من احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية والأصول المالية الأخرى، ذكرت بعض التقارير الغربية أن المجرمين الروس لجؤوا إلى العملات المشفرة للمساعدة في جمع الأموال والتهرب من العقوبات، كما استخدمت موسكو مجموعات القرصنة الإجرامية للمساعدة في شن هجمات إلكترونية على أهداف أوكرانية وغربية. والجدير بالذكر أن الحكومة الروسية اتخذت خطوات في الأشهر الأخيرة لإضفاء الطابع المؤسسي على هذه الأنشطة غير القانونية بين الشركات الروسية؛ فمثلاً في مارس الماضي، شرَّع الكرملين مسألة "الواردات الموازية"؛ ما سمح للشركات الروسية باستيراد السلع إلى البلاد باستخدام العملات المشفرة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– انتعاش تجارة الأسلحة غير المشروعة في أوكرانيا: </strong>قبل الحرب، كان لدى أوكرانيا (7–9) ملايين سلاح ناري قانوني، وربما كان هناك العديد من الأسلحة غير المشروعة أيضاً. أما الآن، فقد أصبحت البلاد مليئة بالأسلحة؛ إذ يشير التاريخ إلى أن الحروب تغذي تجارة الأسلحة؛ لذلك حذر الأمين العام للإنتربول "يورجن شتوك" من احتمال حدوث زيادة في عمليات نقل الأسلحة الصغيرة، وهو ما دفع أحد المسؤولين بمكتب التحقيقات الوطني الفنلندي إلى التحذير من تهريب أسلحة غربية متجهة إلى أوكرانيا إلى فنلندا والسويد والدنمارك وهولندا؛ الأمر الذي قد عكس مخاوف عديدة أعربت عنها أيضاً السلطات الأوروبية؛ وذلك بشأن ضعف أوكرانيا أمام مواجهة الجريمة المنظمة وتداعياتها على القارة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>6– ازدهار السوق السوداء للإمدادات الطبية والأدوية:</strong> على عكس احتمال إغراق السوق السوداء بالأسلحة والذخائر، فإن من اللافت للانتباه حدوث ازدهار في السوق السوداء للإمدادات الطبية والأدوية منذ بداية مارس 2022، خاصةً أن نقص الإمدادات الطبية يُشكِّل خطراً على تقديم خدمات العلاج، مثل العلاجات المقدمة لمتعاطي المخدرات؛ فبدون الحصول على الأدوية الأساسية، يمكن للمواطنين الأوكرانيين الذين بقوا في البلاد، وأولئك الذين فروا إلى دول مجاورة، أن ينتكسوا ويستأنفوا استخدام المخدرات غير المشروعة من أي مصادر يمكنهم العثور عليها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>7– نقل الأنشطة الإجرامية إلى مناطق أخرى:</strong> وفقاً لتقرير المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (GITOC)، بدأت بعض العصابات تبحث عن طرق للخروج من البلاد؛ وذلك عقب اندلاع الحرب مباشرةً؛ إذ انتقل بعض زعماء الجريمة الأوكرانيين إلى دول مجاورة مثل تركيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، بينما بحثت جهات إجرامية رفيعة المستوى عن "نقاط ضعف"، وهي الأماكن التي يمكنهم إعادة توجيه عملياتهم الإجرامية إليها؛ لتجنُّبها الصراع كلياً.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تداعيات النشاط</span></strong></p>



<p>مما لا شك فيه أن لأنشطة عصابات الجريمة المنظمة مجموعة من التداعيات على أوكرانيا بوجه خاص، والمنطقة بوجه عام، ومنها:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– انقطاع قنوات التعاون بين جماعات الجريمة المنظمة في روسيا وأوكرانيا:</strong> إن الحرب التي استمرَّت لمدة تجاوزت عاماً، جعلت التعاون بين جماعات الجريمة المنظمة الروسية والأوكرانية شبه مستحيل، ولم تَعُد العلاقات طويلة الأمد قابلة للاستمرار في ظل تعقيدات الحرب؛ فعند اندلاع الحرب، ورد أن المخابرات الأوكرانية طلبت من جماعات الجريمة المحلية الكشف عن المجرمين الروس الذين أرسلوا لزعزعة استقرار أوكرانيا من الداخل، وبالفعل في غضون بضعة أشهر، تم القبض على معظم الفاعلين الإجراميين الروس أو طُردوا من البلاد، حتى إن بعضهم قرَّر القتال لصالح أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– منح جماعات المافيا نفوذاً سياسياً أكبر:</strong> نتيجةً لبروتوكولات التجنيد الإجباري الأوكرانية لجميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاماً، شهدت سلطات إنفاذ القانون إعادة تركيز جهودها على محاربة أعدائها على الجبهة الشرقية، بدلاً من محاربة أعدائها في الظل، وهذا يشمل الضباط القادرين على العمل الذين تم نشرهم لخدمة الخطوط الأمامية، والمحققين المعينين بوحدات الاستخبارات، وهو ما قد يقلل سياسات المقاومة التي تواجهها جماعات الجريمة المنظمة الأوكرانية، ويمكن أن تُمكِّنها من التوسع إذا تُركت دون رادع.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ففي ظل استمرار الغياب الأمني والقانوني على الأراضي الأوكرانية، تتمتع الجماعات الشبيهة بالمافيا في أوكرانيا بنفوذ سياسي واسع النطاق؛ حيث يقال إنها تتمتع بإمكانية الوصول إلى مستويات متعددة داخل الدولة. ففي منطقة دونباس، على سبيل المثال، شاركت العديد من الجماعات الإجرامية على نطاق واسع في كل من التعبئة السياسية وتمويل الحملات الانتخابية، ويقال أيضاً إن ضم شبه جزيرة القرم حدث جزئياً بسبب جماعات المافيا التي استفادت من العلاقات التجارية الخارجية للتدخل في شبه الجزيرة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>هذا ويعتبر التأثير على الدولة من قبل الجهات الإجرامية مشكلة منتشرة في أوكرانيا؛ حيث أشارت بعض التقارير إلى أن السنوات الماضية، وقبل اندلاع الحرب، شهدت قيام الجهات الفاعلة التابعة للدولة بتوفير الحماية للجماعات الإجرامية؛ وذلك من خلال دمج بعضها في مناصب رفيعة المستوى بالدولة، حتى تعمل على التأثير على العملية الديمقراطية بمستويات مختلفة، مثل شراء الأصوات أثناء الانتخابات، ودعم وتمويل بعض الأحزاب والمرشحين.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– التوسع في عمليات تهريب الأسلحة:</strong> انعكاساً لزيادة أنشطة الجماعات المنظمة غير المشروعة في تهريب الأسلحة من أوكرانيا وإليها، سيكون من مصلحة الحكومة الروسية تخفيف فاعلية المساعدات العسكرية الغربية عن طريق استخدام الجماعات المُهرِّبة للأسلحة بطرق غير مشروعة أداةً لتنفيذ سياساتها على الأراضي الأوكرانية؛ وذلك بتهريب العديد من الأسلحة من أوكرانيا إلى أوروبا. ومن جانب آخر، سبق أن اتهم المسؤولون الأوكرانيون روسيا أيضاً بتهريب الأسلحة إلى أوكرانيا من منطقة ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوفا، في محاولة لتسليح الحلفاء المحليين، وكذلك استخدام المهربين ليجلبوا عبر جورجيا أسلحة وتكنولوجيا عسكرية تحظرها العقوبات على الجيش الروسي؛ وذلك من أجل استخدامها ضد القوات الأوكرانية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– استمرار تنامي جرائم تهريب المخدرات:</strong> من المتوقع ارتفاع عدد عمليات تهريب المخدرات إلى أوروبا عبر أفغانستان ودول آسيا الوسطى وروسيا؛ وذلك بسبب تخفيف موسكو القيود على هذه الأنشطة؛ فتاريخياً كان لبعض الدوائر السياسية والأمنية في آسيا الوسطى تورط مباشر في شبكات تهريب المخدرات، وغالباً ما كانت تعمل بشكل وثيق مع الجماعات الإجرامية الروسية، خاصةً أن إغراق أوروبا بالمخدرات يغذي مظاهر الأنشطة الإجرامية في الدول الأوروبية؛ وذلك على غرار قلق واشنطن بشأن تهريب المخدرات الصينية إلى الولايات المتحدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– التلاعب بمشاريع إعادة الإعمار في أوكرانيا:</strong> ربما تشكل عملية إعادة الإعمار مدخلاً لتعزيز أنشطة الجماعات الإجرامية داخل أوكرانيا خلال السنوات القادمة؛ ففي الشهر الماضي، قدَّر البنك الدولي تكلفة إعادة بناء أوكرانيا، بمبلغ 411 مليار دولار، بما في ذلك 92 مليار دولار للنقل و69 مليار دولار للإسكان، بيد أنه ليس من المُستبعَد أن تنهب عصابات المافيا مثل هذه المشاريع الكبيرة الحجم، من خلال التلاعب بأنظمة المشتريات العامة وأنظمة العطاءات للوصول إلى الأراضي والإعانات والتراخيص.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>خلاصة القول: إن الدور الذي ستلعبه الجريمة المنظمة في أوكرانيا بعد الحرب يظل غير واضح بصورة كاملة، بيد أنه من المنطقي أن الحرب ستخلق فرصاً لأفراد العصابات والمتعاونين معهم؛ وذلك في ضوء استغلال هذه العصابات ظروف الحرب في تنويع وتوسيع نطاق أنشطتهم الإجرامية، خاصةً أن كييف منشغلة في مقاومة جبهتها الشرقية؛ وذلك على حساب جبهتها الداخلية التي لطالما وضعت – منذ استقلالها في بداية تسعينيات القرن الماضي – ملف مواجهة الفساد وتضييق نطاق أعمال هذه الجماعات على رأس أولوياتها.</strong></p>

      

كيف أثر الصراع الأوكراني على أنشطة جماعات الجريمة المنظمة؟