كرم سعيد

صادقت اللجنة القانونية في البرلمان التركي، في 9 نوفمبر 2024، على مشروع قانون "التجسس التأثيري" لمكافحة التدخلات الاستخباراتية الأجنبية. وينص القانون الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في مايو 2024 على فرض عقوبات مشددة تصل إلى السجن لعدة سنوات على كل من يثبت تورطه في جمع معلومات لصالح جهات خارجية أو تنظيمات ذات مصالح استراتيجية. وجاء القانون -وفقاً لمراقبين- كرد فعل على تمدد شبكات التجسس في الداخل التركي، والتي تم توقيف عدد واسع منها خلال الآونة الأخيرة. كما تزامن مع تصاعد التوترات المحلية والإقليمية، وتزايد مخاوف تركيا من ارتداداتها السلبية على مصالحها.أسباب عديدةيتضمن القانون الذي يهدف -في رؤية حزب العدالة والتنمية- إلى حماية الأمن القومي وتعزيز استقرار البلاد، ومكافحة التدخلات من جانب الاستخبارات الأجنبية، "مواد وقائية" تهدف إلى تعزيز قدرات التحقيق والملاحقة القضائية بشكل فعّال، بما يتماشى مع التحديات الأمنية الحديثة، ومنها الجرائم الإلكترونية. ويمكن القول إن إصدار قانون للتجسس ارتبط بمجموعة من الضغوط الحاكمة، التي يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- تنامي شبكات التجسس في الداخل: شهدت تركيا خلال الأشهر الأخيرة توقيف عدد واسع من شبكات التجسس تعمل داخل الأراضي التركية، كان آخرها في 3 سبتمبر 2024، حيث تمكنت الاستخبارات التركية من تفكيك شبكة مالية تعمل لمصلحة الموساد، ويقودها شخص من كوسوفو. كما تم توقيف 7 أشخاص في مارس 2024 بتهمة العمل لمصلحة الموساد، وسبقها تفكيك خلية في يناير 2024، مكونة من نحو 45 شخصاً تم توقيف 33 منهم، وتضمنت الأنشطة التي كانوا يقومون بها التجسس على رعايا أجانب داخل تركيا لمصلحة الموساد.وتسعى أنقرة إلى تحييد أنشطة التجسس الأجنبية على أراضيها، خصوصاً بعد الكشف في 20 فبراير 2024 عن نجاح جهاز الاستخبارات التركي في تفكيك شبكة تجسس فرنسية على الأراضي التركية، مكونة من 3 سوريين، وكانت تعمل على إعداد وثائق مناهضة لتركيا فيما يخص المعاملة السيئة للاجئين على أراضيها، وكشف سياسات أنقرة المتعلقة بالهجرة لأجهزة المخابرات الأجنبية.2- تزايد التخوفات من التجسس السيبراني: تصاعدت المخاوف في تركيا من قيام بعض أجهزة الاستخبارات بتجنيد عناصر لاختراق الأنظمة الإلكترونية داخل مؤسساتها، وهو ما ظهر في توقيف السلطات التركية في مطلع أغسطس 2024 شبكة تجسس سيبراني اتخذت من تركيا نقطة انطلاق للاستيلاء على بيانات آلاف الأشخاص في العديد من دول العالم، بما في ذلك تركيا.وقامت هذه الشبكة باختراق حواسيب الشركات والمؤسسات التركية، بالإضافة إلى اختراق أنظمة البريد الإلكتروني لشخصيات تركية، الأمر الذي أدى إلى سرقة بيانات عشرات الآلاف من المواطنين، ومشاركتها مع كل من يطلبها بما في ذلك التنظيمات المسلحة. ووصل التوتر التركي إلى الذروة من التجسس السيبراني بعد تفجيرات أجهزة البيجر في مناطق مختلفة من لبنان في 17 سبتمبر 2024. وهنا، يمكن تفسير إعلان تركيا، في 19 سبتمبر 2024، عزمها إنشاء جهاز مستقل للأمن السيبراني بهدف حماية مؤسساتها من الاختراقات والهجمات الرقمية.3- تفاقم نشاط التنظيمات المسلحة والعصابات المنظمة: يرتبط قانون التجسس الذي مرره البرلمان التركي مؤخراً بمحاولات بعض التنظيمات المسلحة والعصابات المنظمة اختراق الداخل التركي، بما يوفر بيئة مواتية لتنفيذ عمليات نوعية. وتواجه تركيا في الآونة الأخيرة شبكات موالية لتنظيمات عصابية تقوم بعمليات تجسس على بيانات المواطنين بهدف ابتزازهم. ويُشار في هذا الصدد إلى أن تركيا أوقفت في أكتوبر 2024، 9 أشخاص ينتمون لتشكيل مسلح سرقوا بيانات من معهد تكنولوجي، وتم بيعها لجماعات إرهابية وتشكيلات عصابية.4- تصاعد عمليات حزب العمال الكردستاني: تبدي تركيا شكوكاً في قيام حزب العمال الكردستاني بالتجسس على الكيانات والمنظمات التركية من خلال اضطلاع العناصر الموالية للحزب بجمع معلوماتها الاستخبارية، وخاصةً رؤساء البلديات التركية من الأكراد. وهنا، يمكن تفسير اعتقال أجهزة الأمن التركية، في 25 أكتوبر 2024، نحو 176 شخصاً يُشتبه في انتمائهم للحزب، بالإضافة إلى عزل رؤساء ثلاث بلديات من الأكراد في 3 نوفمبر 2024.ويُشار في هذا الصدد إلى أن هذه الإجراءات جاءت بعد الإعلان في 24 أكتوبر 2024 عن تورط حزب العمال الكردستاني في الهجوم الذي استهدف شركة صناعات الطيران والفضاء التركية "توساش" في العاصمة أنقرة، وأدى إلى مقتل 5 أشخاص وإصابة 22.تبعات محتملةتستند اتجاهات عديدة إلى أن قانون مكافحة التجسس الجديد في تركيا يمكن أن يسفر عن مجموعة من التداعيات المتباينة، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:1- تقليص مخاطر أنشطة التجسس: وفقاً للعديد من الاتجاهات، فإن قانون التجسس الجديد يمكن أن يلعب دوراً معتبراً في تقييد الأنشطة التجسسية للدول الأجنبية والجماعات المناهضة للحكومة داخل الأراضي التركية، لا سيما وأنه بحسب بنود القانون، سيواجه من "يُجري أبحاثاً عن المواطنين الأتراك أو المؤسسات والمنظمات أو المقيمين الأجانب في تركيا لصالح جهات خارجية أو تنظيمات، عقوبة بالسجن تتراوح بين 3 و7 سنوات". كما تضمن القانون عقوبة السجن لمدة تتراوح بين 8 و12 سنة في حال ارتكاب جريمة التجسس خلال فترة الحرب أو تحضيرات للحرب، ما قد يعرض القدرات الحربية أو التحركات العسكرية للخطر.ونص القانون أيضاً على عقوبة مضاعفة بحق من يتورط في جرائم التجسس من العاملين في الوحدات الاستراتيجية والمرافق الخاصة والعامة التي تتمتع بأهمية أمنية ووطنية. وفي ضوء ذلك، فإن هذه الإجراءات يمكن أن تُقلص من التأثيرات السلبية للأنشطة التجسسية في الداخل التركي، وهو احتمال يبدو مرجحاً في ظل تغليظ العقوبات التي تكشف عن أن أنقرة تتجه نحو اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة خلال المرحلة القادمة على المستويات المختلفة لمكافحة أنشطة التجسس.2- تراجع الصورة الذهنية لتركيا: تكشف مجمل الانتقادات التي وُجهت لقانون التجسس التركي عن احتمالية تراجع الصورة الذهنية لتركيا، فضلاً عن تراجع موقعها في المجال الحقوقي على مستوى الداخل والخارج، ويؤشر إلى ذلك الاعتراضات الشديدة من جانب أحزاب المعارضة والمنظمات المدنية. فعلى سبيل المثال، رأت "جمعية الصحفيين الأتراك" أن القانون، الذي يُحاكي قوانين مشابهة في روسيا وجورجيا، يمثل تهديداً خطيراً للحريات الأساسية.وبالتوازي مع ذلك، ندد الاتحاد الأوروبي بالقانون، كونه يُشكل تهديداً خطيراً للحريات العامة وحقوق الأفراد. وسبق أن اعتبرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" أن مشروع قانون التجسس في تركيا يمكن أن يُشكل تهديداً لعمل المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، بالإضافة إلى كونه يمنح الحكومة سلطة اعتبار "الجهات الفاعلة في المجتمع المدني جواسيس أو أعداء للدولة".3- تصاعد التوتر مع قوى المعارضة: يُرجح أن يسهم قانون التجسس الذي مرره حزب العدالة والتنمية داخل البرلمان في زيادة الاستقطاب السياسي في الداخل بين الحكومة والخصوم المحليين، وتجلى ذلك في إدانة حزب الشعب الجمهوري المعارض مواد القانون، ووصفها بالفضفاضة، فضلاً عن أنها تؤسس، وفقاً لرؤيته، لخلق مناخ من الخوف، وتزيد من رقابة الدولة. وتكشف انتقادات حزب الشعب الجمهوري عن أن أحزاب المعارضة التركية ستتجه مرة أخرى إلى التصعيد مع حكومة العدالة والتنمية والرئيس "رجب طيب أردوغان".رسائل للخصوموختاماً، يمكن القول إن ثمة أهدافاً عديدة تسعى تركيا إلى تحقيقها عبر توسيع نطاق عقوبات جرائم التجسس على أراضيها، ويتمثل أبرزها في توجيه رسائل للخصوم الإقليميين مفادها أن تركيا لن تسمح بتوظيف أراضيها لتصفية حسابات إقليمية. كما يستهدف القانون، في جانب معتبر منه، التضييق على نشاط وتحركات الخصوم التقليديين في الداخل التركي، وخاصةً الأكراد والتنظيمات المسلحة.

ما التداعيات المحتملة للمصادقة على قانون للتجسس في تركيا؟