د. يوسف داوود


        
<p>أثار استهداف وتفجير جسر كيرتش (Kerch) الواصل بين روسيا وشبه جزيرة القرم، يوم 8 أكتوبر الجاري، موجة من التساؤلات المصحوبة بالريبة والتخوف حول حدود ما يمكن أن يصل إليه الرد الروسي للحيلولة دون تكرار مثل هذا الاستهداف. وفي حين جاء رد الفعل الروسي سريعاً وحاسماً، عن طريق شن هجمات صاروخية بعيدة المدى في العمق الأوكراني، رغم عدم إعلان أوكرانيا صراحةً عن مسؤوليتها عن التفجير، فإن التطور المتسارع للأحداث ينبئ بإمكانية تدهور الموقف واتساع آثاره إلى ما لا يُحمد عقباه. هذا ويتيح استعراض الخطوط الحمراء والمحاذير الروسية في خضم هذه الحرب توقع سيناريوهات رد الفعل الروسي؛ بحيث ترتفع احتمالية اللجوء لسيناريوهات رد الفعل الأعنف كلما تم تجاوز أحد هذه المحاذير أو الخطوط الحمراء.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">خطوط حمراء</span></strong></p>



<p>تتعامل موسكو مع التطورات الجارية في الصراع الأوكراني، وخصوصاً تفجير جسر كيرتش، من زاوية مجموعة من المحاذير الاستراتيجية والخطوط الحمراء التي يعني تجاوزها التأثير السلبي على الاستراتيجية الروسية في الحرب. وتتمثل أهم هذه المحاذير فيما يلي:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- تصوير هجوم القرم بوصفه نقلة نوعية ميدانية:</strong> رغم سلسلة الانتصارات الميدانية الأخيرة للقوات الأوكرانية في شمال شرق البلاد، وبدرجة أقل في محيط مدينة "خرسون"، فإن التفوق النوعي الروسي لا يزال سائداً بشكل ملحوظ من الناحية العملياتية. هذا ويعتبر من أهم المحاذير الروسية تمثيل ضربة جسر القرم باعتبارها نقلة نوعية ميدانية عن طريق إكساب القوات الأوكرانية مزيداً من الجرأة لاستهداف أهداف حيوية أخرى، ومنها – على سبيل المثال – استهداف منشآت نووية روسية أو خط أنابيب "تورك ستريم"، كما أعلن الرئيس الروسي في كلمته التي أعقبت الضربة الروسية. كما أن هذه النقلة النوعية قد تتحقَّق على الصعيد النفسي والمعنوي على اعتبار أن الجسر المستهدَف يُعتبر هدفاً عسكرياً واضحاً لأوكرانيا، في ظل أهميته كمعبر للمعدات العسكرية من روسيا لمسرح العمليات في أوكرانيا، وعجز روسيا بكافة إمكانياتها عن صد هجوم مماثل، وهو ما تحاول روسيا تفاديه بأي ثمن.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- تطور الهجمات الأوكرانية إلى العمق الروسي:</strong> يتمثل الخط الأحمر الثاني للكرملين في قيام أوكرانيا مستقبلاً باستهداف بعض النقاط الحيوية في العمق الروسي؛ ما سيمثل سابقة قد تقلب موازين الحرب وتسرع من وتيرة التصعيد. وتشير التقديرات إلى أن هذا الخط الأحمر بدأ يكتسب أهمية حتى من قبل تفجير جسر Kerch؛ حيث بدأت القيادة العسكرية الروسية، بحسب بعض التقارير، في استشعار الحرج بعد الهزائم المتتالية التي واجهتها القوات الروسية شمال شرق أوكرانيا وقدرت أن أي ضربة في العمق الروسي قد تؤدي إلى هزة معنوية كبيرة، وهو ما يستدعي شن هجوم صاروخي واسع النطاق يستهدف البنية التحتية المدنية والعسكرية. وقد عزز من هذه الفرضية تعيين وزارة الدفاع الروسية، يوم 8 أكتوبر الجاري، الجنرال سيرجي سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا، بما هو معروف عنه أثناء قيادته القوات الروسية في سوريا من ميله لشن ضربات عسكرية جوية موسعة مكنت روسيا من مواجهة القوى المناوئة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- </strong><strong>دخول حلف الناتو على خط المواجهة المباشرة:</strong> تعمل روسيا بلا شك على تفادي دخول الناتو في خط المواجهة المباشرة حال امتداد الحرب لنطاق أكثر اتساعاً، وهي الحالة التي قد تطرأ في حالة مواصلة أوكرانيا تنفيذ تفجيرات واستهدافات من هذا النوع بالصورة التي تستدعي توسيع نطاق العمليات العسكرية، بيد أن هذا الحرص الروسي لا يعتبر غير مشروط؛ حيث يتطلب ذلك نوعاً من التحجيم الأوروبي الأمريكي لهذا النمط من العمليات الأوكرانية، الذي يعتبر الضمانة الأساسية لعدم اتخاذ روسيا منحى تصعيدياً، خاصةً في ظل عدم إمكانية تصور اتخاذ أوكرانيا خطواتٍ تصعيديةً فعليةً دون الحصول على الضوء الأخضر من الغرب.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- ترويج واشنطن للتفجير من زاوية فاعلية الدعم الأمريكي:</strong> بالرغم من عدم تعليق واشنطن على تفجير جسر القرم، فإن بعض المسؤولين الأمريكيين والإعلام الأمريكي يوظف الهجوم لتعزيز صورة واشنطن. وفي هذا الصدد، تحرص موسكو بشدة على ألا يتم توظيف تفجير أوكرانيا للجسر بأنه تطور في قدرات المقاومة الأوكرانية بفضل الدعم الأمريكي المتواصل بالموارد المالية والعتاد. في ذات السياق، تجدر الإشارة إلى أن حجم الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا قد بلغ حتى الآن ما يقرب من 17.5 مليار دولار.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5- التأثير على الثقة بالمؤسسات الروسية:</strong> ربما تشكل الثقة بالمؤسسات الروسية محدداً هاماً في تعامل موسكو مع مآلات ما بعد تفجير جسر القرم، ومن ثم قد تلجأ موسكو إلى أي خيار ممكن يحافظ على صورة هذه المؤسسات ويحول دون تآكل الثقة بها. ولعل هذا ما يفسر مسارعة جهاز الأمن الفيدرالي الروسي "FSB" إلى الإعلان، يوم 12 أكتوبر الجاري، عن القبض على 8 أشخاص مشتبه بهم في الهجوم على جسر القرم، وأوضح الجهاز أنه "حدد ما لا يقل عن 12 مشتبهاً بهم في التحضير للعمل الإرهابي".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">سيناريوهات محتملة</span></strong></p>



<p>تأسيساً على هذه المحاذير الاستراتيجية، يمكن القول إن ثمة سيناريوهات محتملة لحدود رد الفعل الروسي على حادث تفجير جسر القرم، وتتمثل فيما يلي:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- إجراءات الرد العسكرية الحتمية:</strong> وهي إجراءات ضرورية تهدف إلى حفظ ماء وجه الكرملين، وتسهم في استراتيجية الردع الموسعة للحيلولة دون وقوع أي من المحاذير المُشار إليها، وهي تتسم بأنها موجهة ومحسوبة العواقب وتستهدف قطاعات بعينها. وفي هذا السياق، تمثل الضربات الصاروخية الروسية الأخيرة على كييف وغيرها من المدن جزءاً من هذه الإجراءات الحتمية، نظراً لاتسامها بهذا الطابع المحدد عن طريق استهداف قطاعات البنية التحتية للطاقة والاتصالات والمجهود الحربي في أوكرانيا، بغية شل القدرات الأوكرانية عن القيام بهجوم استراتيجي مماثل في المستقبل القريب؛ وذلك دون امتداد أثر الضربة لإصابة القوات المسلحة الأوكرانية بشلل تام، حتى إن امتدَّ أثرها للتسبب في خسائر مدنية كبيرة في المدن الأوكرانية المستهدفة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- المراهنة على الرسائل التحذيرية للغرب:</strong> لا تزال الرسائل التحذيرية تشكل إحدى الأدوات المهمة بالنسبة لموسكو التي ستظل تراهن عليها في مرحلة ما بعد تفجير جسر كيرتش. ويمكن التعاطي مع تعيين الجنرال "سوروفيكين" قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا بحسبانه إحدى الرسائل التحذيرية الروسية؛ فاختيار "سوروفيكين"، بما يمتلكه من خبرات عسكرية، يرسل رسائل حاسمة إلى الداخل والغرب؛ أن الرئيس "بوتين" ما زال يمتلك في حوزته العديد من الخيارات، وأن الأسوأ لم يأتِ بعد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- المواجهة العسكرية المحدودة:</strong> ويختلف هذا النمط عن النمط السابق في كونه متصلاً بمدى زمني أطول من إجراءات الرد العسكري الوقتية؛ إذ تلوح في الأفق إمكانية التصعيد العسكري الروسي، ولكن على نطاق محدود؛ وذلك عن طريق استهداف موسع لقطاعَي الطاقة والطرق الرئيسية، بالإضافة إلى مقرات القيادة العسكرية الرئيسية، بصورة تُصيب القطاع العسكري بشلل شبه تام؛ وذلك عن طريق استخدام مكثف للضربات الصاروخية المتوسطة والبعيدة المدى، أو عن طريق إشراك أطراف ثالثة، مثل بيلاروسيا، في هذه العمليات الانتقامية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>هذا وإن كان هذا السيناريو سيُثير حفيظة الدول الغربية والولايات المتحدة التي تعتبر أكبر داعمي كييف، وتطرح إمكانية تدخلها بصورة مباشرة وإن كان على نطاق محدود، فإن روسيا لن تفضل الوصول إلى هذا السيناريو الذي سيدفع أوكرانيا نفسها إلى اتخاذ قرارات انتحارية تنأى روسيا عن تحمل فاتورتها، في ظل عدم تجاوز أي من الخطوط الحمراء المشار إليها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- التصعيد العسكري الشامل:</strong> إن كان سيناريو التصعيد المحدود غير متبلور بالقدر الكافي نتيجة عدم تجاوز كييف أياً من الخطوط الحمراء المشار إليها، فإن خيار التصعيد العسكري الشامل – وإن كان مطروحاً من الناحية النظرية – يبقى بعيد المنال في ظل المعطيات الحالية نظراً لتطلُّبه تجاوز أوكرانيا أو الغرب أكثر من واحد من هذه المحاذير، وهو ما سيعتبر إعلاناً رسمياً للحرب ضد روسيا. في هذه الحالة، فمن الصعب التنبؤ بخطوات محددة لرد الفعل الروسي وإن كان بلا شك سيتم توظيف قدرات عسكرية غير تقليدية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>الخلاصة: كان من اللازم أن يكون الرد الروسي موجعاً ومحسوباً في الوقت نفسه؛ بحيث تكون كلفته أكبر من مكاسب التفكير فيه مجدداً، وفي الوقت نفسه لا يتسبب في إفقاد أوكرانيا كافة قدراتها الميدانية؛ حيث إن هذه الحالة قد تؤدي إلى قيام أوكرانيا بدورها بردود فعل غير محسوبة نظراً لعدم وجود شيء تبكي عليه؛ ما يسرع من وتيرة انغماس روسيا نفسها في حرب موسعة يخسر فيها الجميع. هذا وإن كان أكثر سيناريوهات الرد الروسي حدةً وتصعيداً غير متبلور بالقدر الكافي في ظل المعطيات الحالية، إلا أن وتيرة تطور الأحداث قد تنبئ بتدهور الوضع بصورة أسرع من التوقعات، وهو ما يمكن استنباطه بمجرد تجاوز أحد المحاذير السابقِ استعراضُها والاستعانة بها كمؤشرات على مدى قابلية الوضع للانفجار.</strong><strong></strong></p>

      

ما حدود الرد الروسي على هجوم جسر القرم؟