د. يوسف داوود

قبل أيام من حل البرلمان الفرنسي، اعتمد البرلمان بشكل نهائي، بموجب تصويت يوم 5 يونيو 2024، قانوناً اقترحه الرئيس ماكرون وحكومته لتعزيز صمود الحياة السياسية في فرنسا ضد التدخلات الأجنبية؛ حيث تم تمرير القانون بواقع 171 صوتاً مؤيداً في مقابل 25 صوتاً معارضاً. وبعد اعتماد القانون، تم إصدار بيان صحفي من رعاته الرئيسيين: النائب "ساشا هولي"، والنائب "توماس جاسيلود"، والنائب "كونستانس لو جريب" لتأكيد أن اعتماد هذا القانون يوفر الأدوات الفعالة لأجهزة الاستخبارات الفرنسية لمجابهة محاولات التدخل الخارجي المتزايد في الحياة السياسية الفرنسية.مضامين رئيسيةتضمَّن القانون مجموعة من المواد لتحديد المنخرطين في عمليات التدخل الخارجي وطريقة التورط وأدوات المجابهة والعقوبات الرادعة؛ وذلك على النحو التالي:1– التوسع في تعريف الأفراد والكيانات المنخرطة في أفعال التدخل: يُعرِّف القانونُ نطاقَ القائمين بأفعال التدخل بأنهم أي "شخص طبيعي" أو "شخص اعتباري" يقوم – إما "بأمر أو بناءً على طلب أو تحت توجيه أو سيطرة مدير أجنبي" – بتنفيذ نشاط تدخل. ومن ثم يمكن أن تكون الجهات الفاعلة إما أفراداً أو شركات، أو جمعيات، أو منظمات غير حكومية، أو مؤسسات، بل يمكن أيضاً أن تكون دولاً، أو سلطات محلية، أو سلطات إدارية. وبالنسبة إلى الدول، فقد استثنى القانون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من تعريف الكيانات الأجنبية الممكن تورطها في أعمال التدخل.2– تقديم تعريف واسع لفعل "التدخل الخارجي": يُعرِّف نص القانون فعل التدخل الخارجي بأنه "إجراء واحد أو أكثر" يهدف إلى "التأثير على قرار عام"، مثل "محتوى قانون أو قانون تنظيمي"، بل أيضاً على "قرار فردي عام"، وعلى نطاق أوسع على السياسات العامة للدولة.3– محاولة تحديد طبيعة اتصالات الجهات الخارجية مع المسؤولين: حدَّد النص أن طريقة التدخل الخارجي تنطوي على الدخول في "اتصالات مباشرة" مع قائمة محددة من المسؤولين، أو قيام الكيان الأجنبي بإجراء أي اتصال يستهدف الجمهور، أو جمع أموال أو دفع أموال دون غرض تجاري واضح وصريح. وقد فصَّل القانون هؤلاء المسؤولين بأنهم من الممكن أن يكونوا عضواً في الحكومة أو وزيراً، أو برلمانياً أو متعاوناً مع مجموعة برلمانية، أو أحد وكلاء الجمعية الوطنية، أو رؤساء سابقين، أو أعضاء سابقين في الحكومة، أو برلمانيين سابقين خلال مدة 5 سنوات لما بعد انتهاء ولايتهم.4– طرح أدوات تنفيذية جديدة لمكافحة التدخل الأجنبي: تنص بعض مواد القانون على الأدوات التنفيذية التي تكفل الحد من هذا التدخل، وعلى رأسها إنشاء سجل وطني لرصد النشاط المشتبه في كونه نفوذاً أجنبياً، وتجميد الأصول المالية المشتبه بها، وتعزيز هذا الرصد عن طريق إطلاق برمجيات تجريبية تعتمد على تحليل الخوارزميات، وهي الخوارزميات المستخدمة حالياً في أنشطة مكافحة الإرهاب ورصد الكيانات المتطرفة منذ 2015. هذا وينص القانون على توسيع نطاق استخدام هذه الخوارزميات بصورة تجريبية لمدة 4 سنوات لتشمل أنشطة التدخل الخارجي، ثم يعاد تقييم مدى الحاجة إلى الاستمرار في العمل بها.5– إلزام الجهات المختلفة بالإخطار الرسمي عن أي تفاعلات مع كيان أجنبي: يُلزِم القانونُ كلَّ شخص أو كيان يتصرَّف نيابةً عن كيان أجنبي، أن يعلن "للهيئة العامة للشفافية في الحياة العامة&nbsp;HATVP" عن الآتي: هويته عندما يكون شخصاً طبيعياً، أو الهوية القانونية عندما يكون شخصاً اعتبارياً، واسم وعنوان كل كيان أجنبي يعمل نيابةً عنه، ومحتوى الاتفاقية أو طبيعة العلاقة بينهما، وعدد العاملين في تنفيذ الأنشطة، وإن أمكن حجم الأعمال الناتج عن هذه الأنشطة خلال العام السابق.6– النص على عقوبة عدم الإخطار خلال المُهَل المحددة بالقانون: يمكن للهيئة العامة للشفافية أن تقرر غرامة قدرها 1000 يورو عن كل يوم تأخير عن مُهَل الإخطار المحددة بالقانون، ويمكنها إجراء فحوصات مستندية وموقعية للأفراد والكيانات المُشتبَه في تورطهم بأنشطة التدخل الخارجي. وفي حالة ثبوت الانتهاك، يمكن لـلهيئة معاقبة مرتكب الجريمة بالسجن لمدة ثلاث سنوات وغرامة قدرها 45000 يورو.دلالات رئيسيةلم يأتِ تمرير هذا القانون من فراغ، بل أحاطت به مجموعة من السياقات التي تنبَّه إليها ماكرون وحكومته؛ لذلك تمثلت أهم دوافع اعتماد هذا القانون وتبعات اعتماده على الداخل الفرنسي في المحاور التالية:1– مواجهة تصاعد مظاهر عدم الاستقرار الداخلي: أثارت العديد من الحوادث والعلامات ضجة في فرنسا وسط شبهات بوجود تلاعب أجنبي، مثل رش نجمة داود على الجدران في منطقة باريس، والأيادي الحمراء المرسومة على النصب التذكاري للمحرقة في باريس، و"التوابيت الزائفة" الموضوعة تحت برج إيفل؛ حيث رجَّحت جهات حكومية فرنسية أن موسكو تقف وراء أعمال زعزعة الاستقرار هذه، عن طريق تأجيج مشاعر مسلمي ويهود فرنسا على خلفية الأزمة في غزة، بما يسهم في زيادة معدلات العنف وضرب الاستقرار المجتمعي.2– الرغبة في تحجيم أي تأثير خارجي في المشهد السياسي الفرنسي: رغبت فرنسا في تمرير هذا القانون لتحجيم احتمالات التدخلات الخارجية والتأثير في الاستحقاقات الانتخابية الكبرى، وفي القلب منها انتخابات البرلمان الأوروبي التي عُقِدت من يوم 6 يونيو إلى 9 يونيو 2024، والتي شارك فيها مواطنو دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين لاختيار 720 عضواً في البرلمان الأوروبي. وبإصدار هذا القانون، هدفت فرنسا إلى تحقيق أمرين: أولهما تحجيم تصدير ممثلين فرنسيين في البرلمان الأوروبي من ذوي التوجهات غير المواتية في الأزمة الأوكرانية والأزمة في غزة، وثانيهما توجيه رسالة إلى الدول الأوروبية الأخرى لتحذو حذوها لتحقيق الغرض نفسه.3– محاولة تعزيز التوافق بين الولايات المتحدة وفرنسا: استهدفت فرنسا من تمرير القانون في هذا التوقيت إضفاء زخم عليه في ظل زيارة الرئيس الأمريكي بايدن إلى فرنسا يوم 8 يونيو 2024؛ حيث قام الجانبان بتضمين إشارات حول هدف ومغزى القانون في البيان المشترك الصادر عنهما. وينص الجزء المتعلق بهذا الموضوع على اعتزام الولايات المتحدة وفرنسا التعاون في بناء قدرة الدول الشريكة على الصمود أمام التلاعب بالمعلومات عن طريق الكيانات الأجنبية في الأبعاد الرئيسية للحياة العامة، وهي: الاستراتيجيات والسياسات الوطنية، وهياكل ومؤسسات الحوكمة، والقدرات البشرية والتقنية، والمجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة والأوساط الأكاديمية، والمشاركة المتعددة الأطراف.كما نص البيان على أن فرنسا والولايات المتحدة تعتزمان العمل معاً على تفعيل الإجراءات ذات الصلة من خلال الآليات المتعددة الأطراف الجديدة والقائمة، مثل آلية الاستجابة السريعة لمجموعة السبع، وبالتنسيق مع شركاء آخرين ومنظمات متشابهة الفكر.4– تأييد واسع للقانون من قِبَل قوى سياسية مختلفة: حظي مشروع القانون بدعم تيار الوسط واليمين الوسطي واليمين المتطرف؛ فبالإضافة إلى دعمه من قِبل الائتلاف البرلماني الحكومي بقيادة حزب "النهضة Renaissance"، دعمه أيضاً المستقلون من مجموعة الحريات، ومجموعات أقاليم ما وراء البحار، وحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، بالرغم من تنديد بعض نوابه، مثل "كيفين فيفر"، بطابعه غير الشامل. أما من الناحية الأخرى، فقد انقسم تيار اليسار إلى ثلاثة أقسام؛ حيث أيده الاشتراكيون، وامتنع العضو الوحيد في البيئة عن التصويت، بينما صوَّت النواب الشيوعيون ضد القانون.5– انتقاد بعض النواب للتوسع في استخدام الخوارزميات: انتقد كذلك بعض النواب ما تضمنه القانون من توسع في استخدام برامج الحوسبة والبيانات الضخمة لرصد وتحديد الأنشطة المشتبَه في تورطها بأنشطة التدخل الخارجي؛ فقد انتقدت النائبة "أوريليان سانتول" اليسارية من حزب فرنسا الأبية القانون، واصفةً إياه بأنه عديم الفاعلية، وليس ذلك فقط، بل إنه خطير كذلك على مبادئ الجمهورية الفرنسية؛ حيث يمكن استخدامه ذريعةً لتقليص مساحة الحريات العامة بشكل كبير.الخلاصة: يعد قانون مكافحة التدخلات الأجنبية الفرنسي حلقة جديدة من حلقات محاولة إحكام الجبهة الداخلية ضد محاولات زعزعتها، في ظل حرب روسية أوكرانية ممتدة وغير مُرجَّح حسمُها سريعاً، وفي ظل أزمة متفجرة في غزة أشعلت فتيل التوتر بين يهود وعرب فرنسا. وإذا كان هدف القانون في الأساس هو تعزيز القدرة على الصمود الداخلي في المجتمع الفرنسي، فإنه سعى إلى الاستفادة من انعقاد انتخابات البرلمان الأوروبي وزيارة الرئيس الأمريكي لإضافة زخم على نطاق وسرعة انتشاره وتنفيذه؛ وذلك بالرغم من اصطدامه ببعض المعارضة الداخلية من أنصار الحريات العامة.&nbsp;

ما دلالات اعتماد قانون مكافحة التدخلات الأجنبية في فرنسا؟