نهلة عبد المنعم 

فرضت الظروف الجيوسياسية تقارباً بين طالبان ومحيطها الإقليمي، على الرغم من التحفظات التي سبق أن صاغتها بعض الحكومات إزاء التوجهات الأيديولوجية للحركة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، قررت الحكومة الروسية توجيه دعوة رسمية لقيادات حركة طالبان من أجل حضور منتدى (روسيا–العالم الإسلامي) المقرر عقده من 14 إلى 19 مايو المقبل في قازان بغرب البلاد. وأثارت الدعوة جدلاً في الداخل الروسي؛ لكون الحركة محظورة في البلاد، ولكن سيُسمَح لعناصرها بحضور المنتدى.ورداً على التساؤلات التي أُثيرت حول هذه الدعوة، صرح الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان "زامير كابولوف" بأن بلاده "ملتزمة بالتعاون مع حركة طالبان من أجل مكافحة الإرهاب، ولا يوجد شيء آخر يمكن إضافته في الوقت الحالي"؛ ما يعني أن الدوافع الأمنية لا تزال تلعب دوراً هاماً في توسيع دوائر العلاقات بين الحركة ودول الجوار، وبالأخص روسيا والصين والهند. ومن المرجح أن تشهد المرحلة المقبلة مزيداً من التقارب بين طالبان ومحيطها الإقليمي على وقع التخوفات المتنامية من تزايد النشاط الإرهابي بالمنطقة وسط تصاعد نفوذ داعش.مصالح محفزةتحتاج حركة طالبان إلى تعزيز علاقاتها مع محيطها الإقليمي. وفي الوقت ذاته، تتطلع الدول الإقليمية الكبرى إلى تحقيق العديد من الأهداف التي تحافظ على مصالحها في المنطقة، ومن ثم تتمثل أبرز دوافع الدول الموجودة في محيط أفغانستان لتعزيز علاقتها مع طالبان، فيما يلي:1– منع تحول أفغانستان إلى منصة لتوجيه هجمات ضد الجوار: تتسم أفغانستان بطبيعة جغرافية وعرة جعلت تضاريسها مخبأ لقادة الجماعات الإرهابية على مدار السنوات الماضية، وموقعاً استراتيجياً لمعسكرات تدريب المتطرفين على حمل السلاح وتصنيع المتفجرات. ومع تراجع القدرات الأمنية للقوات المسؤولة عن حماية أفغانستان، تتخوف الحكومات الإقليمية من تحول البلاد إلى مركز تأهيل على العمليات الموجهة ضدهم.وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا السبب كان عاملاً هاماً ارتكزت عليه الولايات المتحدة الأمريكية عند صياغة اتفاقية انسحاب قواتها العسكرية وحلفائها من البلاد في فبراير 2020، إذ اشترطت واشنطن، ضمن بنود الاتفاقية عدم تحول أفغانستان إل معسكر يهدد مصالحها، وكان ذلك شرطاً أساسياً لإتمام خروجها ولا تزال تستخدمه أداةً لتهديد طالبان&nbsp;من أجل الالتزام بتقويض التطرف العنيف الذي قد يقود إلى هجمات ضدها. وفي ضوء عدم وجود اتفاقية رسمية بين طالبان ودول الجوار حول هذا الأمر، فإن المساعي الحثيثة للحكومات مستمرة للحيلولة دون حدوث ذلك.2– تطلع حكومات المنطقة إلى السيطرة على نشاط تنظيم داعش: بات فرع تنظيم داعش المعروف باسم "ولاية خراسان" من أبرز فروع التنظيم، ومن ثم يُشكل خطراً كبيراً على حكومات المنطقة، وبالأخص مع اعتناقه أيديولوجيات عنيفة تجاه سياسات الكثير من الدول المجاورة، وتعد رؤيته العدائية لروسيا من أبرز المحركات التي قد تدفع باتجاه مزيد من التطور في العلاقات بين طالبان وموسكو.وتأتي العملية التي نفذها "داعش خراسان" في كروكوس سيتي ضمن أبرز المتغيرات في هذا الإطار؛ إذ أكد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، في 4 أبريل الجاري، أن بلاده لن تكون مركزاً لهجمات التكفيريين، وأن السلطات ستبذل قصارى جهدها لضمان تحقيق الأمن. وفيما يخص الخطاب الداعشي الذي يُروجه التنظيم لشحذ همم العناصر ضد روسيا حول توجيهها ضربات عسكرية ضد المدنيين في الشام، لفت "بوتين" إلى أن النهج الروسي تجاه السياسات الخارجية لا يؤدي إلى أن تكون بلاده هدفاً للجماعات التكفيرية.فيما يحمل التنظيم عداءً مباشراً للهند والصين، ويروج لإساءة حكومتيهما للمسلمين. ومن جانبها، حرصت الهند على التقارب الدبلوماسي مع طالبان عقب سيطرتها على الحكم في أغسطس 2021 على الرغم من رفضها السابق للتعامل مع الحركة، معللةً هذا التغير برغبتها في الحفاظ على الأمن والاستقرار عبر دعم الروابط مع الحركة. ولكن نظراً إلى المصالح الاقتصادية للصين في المنطقة وعلاقاتها التنافسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أقامت روابط مع طالبان قبل وصولها إلى الحكم.3– المخاوف المتبادلة بين طالبان وإيران إزاء تزايد التطرف: تبقى علاقة طالبان وإيران فيما يخص السيطرة على الجماعات الإرهابية، وبالأخص داعش، من أبرز الملفات الشائكة في هذا الإطار؛ إذ يدعو التنظيم باستمرار، عبر دورياته الإعلامية، إلى توجيه الهجمات الدامية إلى إيران باعتبار أن عقيدة الحكم لديها مخالفة للشريعة. ويعد هجوم كرمان الذي نفذه التنظيم في 3 يناير الفائت، وراح ضحيته العشرات، من أعنف الأمثلة القريبة في هذا الشأن؛ وذلك بجانب الرؤى الحركية للتنظيم حول المنافسة التي يعتبرها قائمة بين أنشطته وممارسات الميليشيات الموالية لطهران في الشرق الأوسط، ومن ثم فإن دوافع الحكومة الإيرانية لاستمرار التعاون مع طالبان تبدو قوية على الرغم من الخلافات الدائرة بين الطرفين حول ملف المياه.ومن جهة أخرى، تتخوف طالبان من أن يسمح استمرار نشاط داعش ضد الشيعة في أفغانستان بتطوير إيران جماعات مسلحة موالية لها في الداخل تحت ستار الدفاع عن طوائفها وفقاً لسياستها الخارجية المعهودة، فيما تخشى الدول&nbsp;الكبرى من أن تؤثر خلافات طهران وكابول على جهود مكافحة الإرهاب، ومن ثم فإن تقويض نشاط "داعش خراسان" يرتكز على مصالح مشتركة للجهات المعنية بوجه عام.4– الرغبة في تقويض تمدد الإرهاب عبر دول آسيا الوسطى: تحتاج دول آسيا الوسطى إلى تقويض الإرهاب على أراضيها، وهو ما تسعى إليه الدول الكبرى، وبالأخص بعد توجيه اتهامات لأربعة عناصر من طاجيكستان بالتورط في هجمات موسكو الأخيرة، فيما تتصاعد المخاوف من استثمار هجرة الكثير من عناصر المنطقة للانضمام إلى تنظيم داعش في سوريا والعراق؛ إذ لفت المتحدث باسم داعش "أبو حذيفة الأنصاري"، في الإصدار المعنون بـ(واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ) المنشور في 28 مارس الفائت، إلى أن قيادات التنظيم "تُثمن أدوار العناصر في المنطقة، وغيرتهم على الدين رغم عدم إجادتهم اللغة العربية"، مطالباً أبواقه الإعلامية بتكثيف جهودهم من أجل ترجمة رسائل التنظيم لهم.كما توجد بعض المخاوف من استغلال التراجع الاقتصادي وانخفاض مستوى المعيشة لدى بعض دول المنطقة في تعزيز الانضمام إلى الجماعات الإرهابية. وفي ضوء السعي لتطوير أدوار طالبان في تقويض التطرف بالمنطقة، أعلنت كازاخستان في ديسمبر الفائت إزالة الحركة من قائمتها للجماعات الإرهابية، وصرَّحت وزارة الخارجية الروسية في أكتوبر الفائت بأن طالبان لديها دور مهم في خفض نشاط داعش والقاعدة في آسيا الوسطى.5– الحفاظ على المصالح الاقتصادية ودعم الاستثمارات: تمتلك حكومات المنطقة مصالح اقتصادية واسعة تسعى إلى الحفاظ عليها وتأمينها، مثل مبادرة الحزام والطريق التي تجتهد الصين لتعزيز نجاحها، بجانب تأمين ممر واخان الذي أعلنت طالبان اكتماله في يناير 2024 للربط بين أفغانستان والصين، كما تهدف الكثير من الحكومات إلى الاستفادة من مناجم المعادن الثمينة بالبلاد. وتحتاج طالبان إلى مزيد من الاستثمارات عبر محيطها الإقليمي لمواجهة العقوبات الاقتصادية التي تفرضها عليها حكومة الولايات المتحدة وتجاوز التأثيرات الاقتصادية لانعزالها عن الغرب بجانب التبعات التي فرضتها الكوارث الطبيعية التي مُنيت بها البلاد مؤخراً.6– الحيلولة دون استفحال تجارة المخدرات في المنطقة: استغلت حركة طالبان لسنوات زراعة نبات الخشخاش من أجل الاتجار في المخدرات لتمويل أنشطتها، ولكن أضحت الحركة أداة يُعول عليها إقليمياً لمنع استفحال هذه التجارة في المنطقة عقب سيطرتها على السلطة، وتحوُّلها من حركة سرية إلى سلطة حاكمة. ومن ثم أعلنت الحركة في أبريل 2024 حظر زراعة النباتات المُخدرة والاتجار بها. وعلى الرغم من ذلك لا تزال بعض التقارير الأممية تشكك في جدية التزام طالبان بحظر زراعة المخدرات.تحديات معرقلةعلى قدر احتياج دول المنطقة إلى تعزيز الشراكة الإقليمية فيما بينها، توجد بعض العوامل التي قد يؤثر عدم ضبطها على مستوى التعاون المُستهدف. وتتمثل أبرز هذه العوامل فيما يلي:على مستوى التعاون المُستهدف. وتتمثل أبرز هذه العوامل فيما يلي:1– النقد العقائدي من تنظيمَي القاعدة وداعش لطالبان: دأب تنظيم القاعدة، خلال المقاطع المصورة التي بثها زعيمه السابق "أيمن الظواهري" قبل إعلان مقتله في أغسطس 2022، على توجيه انتقادات فقهية لسعي طالبان إلى ترميم علاقاتها بالدول الإقليمية الكبرى التي كان "الظواهري" يرى أنها تحمل ميولاً عدائيةً للمسلمين، كما انتقد التنظيم سعي الحركة للانضمام إلى الأمم المتحدة، وهو انتقاد مشابه لما يروجه تنظيم داعش عبر أدواته الإعلامية. وتكمن خطورة تلك الخطابات في احتمالات تأثيرها على مضطربي الهوية، وزيادة فرص انضمامهم إلى الجماعات الإرهابية في المنطقة؛ ما قد ينعكس سلباً على الجهود الحثيثة للتعاون مع طالبان من أجل مكافحة الإرهاب.2– صعوبة حفاظ حركة طالبان على تماسكها الداخلي: تعتمد سيطرة طالبان على مقاليد الحكم، بنسبة كبيرة، على مدى حفاظها على تماسك الصفوف الداخلية وانتماء عناصرها إلى رؤى الحركة وقياداتها، وهو ما يمثل تحدياً إزاء علاقتها بالدول التي لطالما هاجمت سياستها الداخلية/ لا سيما الهند. ومن ثم فإن نجاح الروابط الإقليمية المُبتغاة سيحتاج إلى جهود مضاعفة من قبل قيادات طالبان لتكييف تلك البرجماتية فقهياً؛ حتى لا تميل عناصرها باتجاه التنظيمات الأخرى.3– عجز طالبان عن بناء قدرات أمنية قوية بأفغانستان: لا تزال الحركة تحتاج إلى فترة من الوقت لتستطيع بناء أنظمة دفاعية متطورة تليق بالحفاظ على أمن الدولة وليس التنظيم السري. ويظهر تأثير هذا المتغير في الاتهامات التي تُثيرها باكستان حول عدم قدرة طالبان على ضبط أمن الحدود؛ ما يؤثر على ارتفاع نسب الهجمات الإرهابية لدى إسلام أباد؛ وذلك بجانب إشكاليات متعددة تؤثر على علاقة البلدين، كما أن حادثتَي موسكو وطهران تَشيِان بالتأثيرات ذاتها.4– الخلافات السياسية المعقدة بين بعض دول المنطقة: تحتاج الحكومات المعنية إلى معالجة التوترات السياسية، لا سيما بين طالبان وباكستان من جهة، وبين طالبان وإيران من جهة أخرى، فضلاً عن النزاعات الحدودية بين أكثر من دولة من دول المنطقة لتعزيز أطر التعاون الأمني والاستخباري بما يحقق المصالح المرتبطة بمواجهة الإرهاب.5– التخوفات المرتبطة باحتمال استنساخ نموذج طالبان: ثمة تخوفات مرتبطة بإمكانية استنساخ نموذج طالبان. ويؤثر هذا المتغير على علاقات بعض الدول الإقليمية بطالبان، وبالأخص الدول التي تشتمل حدودها على جماعات تكفيرية تسعى إلى منازعة السلطة؛ لذلك تفضل بعض الأنظمة عدم الانخراط في علاقات رسمية مع طالبان خشية تعزيز الصورة الذهنية عن القدرات الممكنة لتحول الجماعات المتطرفة إلى قوى حاكمة مُعترف بها.فرصة سانحةوختاماً، يُمكن القول إن الدوافع الأمنية وتقويض أنشطة الجماعات الإرهابية، باتا من المحركات الأساسية لضبط علاقة طالبان بمحيطها الإقليمي، سعياً نحو تهدئة الأوضاع، وللحفاظ على استقرار المنطقة. ومن المرجح أن تجتهد طالبان لاستغلال الفرصة السانحة لتعويض عزلتها السياسية التي فرضتها عليها الدول الغربية/ ومحاولة تعضيد الملفات الاقتصادية لتطوير مواردها والحيلولة دون تفاقم أزماتها المالية، بيد أن هذه الجهود من المحتمل أن&nbsp;تصطدم بضعف القدرات الأمنية لطالبان إزاء مواجهة الجماعات المتطرفة المنتشرة بالمخابئ الجبلية والطبيعة الجغرافية الوعرة وسط استغلال البنية العقائدية المضطربة لدى نسبة لا بأس بها من مواطني المنطقة.

كيف سيحكم التطرف علاقات طالبان بمحيطها الإقليمي؟