إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

بعد جهود حثيثة شاركت فيها قوى إقليمية ودولية عدة، تم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، دخل حيز التنفيذ في الساعات الأولى من يوم 27 نوفمبر 2024. ويتضمن الاتفاق 13 بنداً تشمل ترتيبات أمنية عديدة تم التوافق عليها بين إسرائيل ولبنان وحزب الله، برعاية أطراف عديدة من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.ورغم الترحيب الواسع بالتوصل إلى هذا الاتفاق، فإن ذلك لا ينفي أنه يواجه عقبات عديدة، نتيجة تباين تفسيرات كل طرف للبنود التي يشتمل عليها، وهو ما يعني في النهاية أن هذا الاتفاق ما زال هشاً إلى أن يُثبت الطرفان (إسرائيل، وحزب الله) إمكانية الاستناد إليه للوصول إلى هدنة طويلة الأجل، على غرار ما حدث بعد حرب 2006، وربما التعويل عليه في الوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود البرية، مثلما حدث بالنسبة للحدود البحرية.عوامل دافعةتأتي عملية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان مدفوعة بعوامل عديدة، يتمثل أبرزها فيما يلي:1- سعي إسرائيل للتفرغ لإدارة التصعيد مع إيران: جاء التوصل إلى الاتفاق قبل نحو شهرين من وصول الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، حيث يُتوقع أن يمنح الأولوية ضمن ملفات السياسة الخارجية لإدارة التصعيد مع إيران. وهو ما يعني أن التوصل للاتفاق جاء مدفوعاً برغبة إسرائيل في التفرغ أيضاً لإدارة الصراع المباشر مع إيران، حيث كان لافتاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" قال بالتوازي مع الإعلان عن الوصول إلى الاتفاق، إن أحد أهدافه يتمثل في التركيز على التهديد الإيراني.ويعني ذلك أن إسرائيل سوف تسعى خلال المرحلة القادمة لاتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية ضد إيران، سواء بسبب الدعم الذي تقدمه الأخيرة للمليشيات الموالية لها في دول الأزمات، أو بسبب وصول الأنشطة النووية الإيرانية إلى مستوى غير مسبوق يساهم في اقتراب إيران من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.فقد كشف التقرير الأخير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 19 نوفمبر 2024، أن كمية اليورانيوم التي قامت إيران بتخصيبها بنسب مختلفة وصلت إلى 6604.4 كلجم، بما يعادل 32 مرة ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كلجم). ومن هنا، يُتوقع أن تواصل إسرائيل عمليات استهداف البرنامج النووي من الداخل، بالتوازي مع شن ضربات عسكرية ضد المواقع التابعة لإيران والمليشيات الموالية لها في كل من سوريا والعراق واليمن.2- تطلع تل أبيب إلى مضاعفة الضغوط على حماس: ربما تسعى إسرائيل في مرحلة ما بعد الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان إلى ممارسة ضغوط أكبر على حركة حماس من أجل التوصل إلى اتفاق يتيح إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. وفي رؤية تل أبيب، فإن أحد الانعكاسات المباشرة لهذا الاتفاق يتعلق بـ"تفكيك وحدة الساحات"، وهو المبدأ الذي سبق أن تبناه الأمين العام السابق لحزب الله "حسن نصر الله" الذي اغتيل برفقة نائب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري "عباس نيلفروشان" في 27 سبتمبر 2024. وهنا، فإن هذا التفكيك يمكن أن يضاعف الضغوط التي تتعرض لها حماس من أجل الاستجابة إلى الجهود التي قد تتجدد خلال المرحلة القادمة من أجل الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة على غرار اتفاق لبنان.3- تنامي حاجة طرفي الصراع إلى وقف التصعيد العسكري: كان كل من إسرائيل وحزب الله بحاجة إلى تقليص المخاطر المترتبة على الصراع المستمر، حيث ترغب إسرائيل في تخفيف العبء العسكري على جبهات متعددة، وربما يتطلع حزب الله إلى إعادة تنظيم قواته بعد تكبده خسائر، خاصةً في وقت يعاني فيه الطرفان من تحديات عسكرية داخلية، حيث إن الهجمات المستمرة على إسرائيل قد تؤدي إلى استنزاف الموارد العسكرية وزيادة الخسائر البشرية، وهو ما كانت إسرائيل تسعى لتجنبه عبر التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.ومن جهة أخرى، فإن حزب الله كان يسعى إلى تجنب التصعيد العسكري واسع النطاق الذي قد يؤدي إلى صراع طويل الأمد مع إسرائيل، حيث تتصاعد احتمالات وقوع المزيد من الخسائر البشرية الكبيرة سواء في صفوف مقاتليه أو المدنيين اللبنانيين في الجنوب. كما أنه مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية، كان حزب الله بحاجة إلى فرصة لإعادة ترتيب قواته وتجميع صفوفه بشكل أفضل، لتجنب تدمير بنية قواته العسكرية الموزعة في لبنان وسوريا.4- تصاعد الضغوط الدولية للتوصل إلى اتفاق: كانت الضغوط الدولية والإقليمية حاسمة في دفع الأطراف نحو التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، حيث كانت الولايات المتحدة وفرنسا، باعتبارهما من الأطراف الدولية الرئيسية في هذا السياق، في مقدمة اللاعبين الذين دفعوا من أجل التوصل إلى اتفاق. إذ تسعى الولايات المتحدة إلى تهدئة التصعيد في المنطقة بسبب أولوياتها في مواجهة إيران ونفوذها المتنامي في المنطقة. أما فرنسا، فتعتبر استقرار لبنان جزءاً من استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا ترغب في رؤية المنطقة تغرق في مزيد من الفوضى، بما يؤثر سلباً على مصالحها الاستراتيجية.تحديات ماثلةثمة مجموعة من التحديات الماثلة أمام وقف إطلاق النار في لبنان، ويتضح أبرزها عبر ما يلي:1- تبني أطراف الصراع تفسيرات متباينة للاتفاق: تتبنى حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" تفسيراً يتباين إلى حد ما عن التفسير الذي أعلن عنه حزب الله، حيث سعى كل طرف إلى تمرير رسائل داخلية في المقام الأول لتبرير أسباب إقدامه على إبرام الاتفاق في هذا التوقيت، وتأثيره على مصالحه وحساباته. إذ اعتبر "نتنياهو" أن الاتفاق جاء في توقيت مواتٍ بالنسبة لإسرائيل لاعتبارات تخص ضرورة منح الجيش فرصة لالتقاط الأنفاس بعد مرور أكثر من عام على اندلاع المواجهات المسلحة في قطاع غزة ثم لبنان، بداية من 7 أكتوبر 2023، فضلاً عن تحقيق إسرائيل القسم الأكبر من أهدافها الخاصة بتفكيك البنية العسكرية لحزب الله في الجنوب.لكن حزب الله من جهته يرى أن الاتفاق الجديد لم يتضمن جديداً فيما يتعلق بتطبيق القرار 1701 الذي تم تضمينه أيضاً في اتفاق عام 2006، فضلاً عن أن الجيش اللبناني، وليس أي طرف آخر، هو المنوط بتنفيذ الترتيبات الأمنية التي يتضمنها الاتفاق، على عكس ما كانت تطمح إسرائيل، التي كانت تسعى -ضمن شروطها الأولية- إلى المشاركة في تنفيذ تلك الترتيبات. من هنا، لا يمكن استبعاد أن يتعرض الاتفاق لاختبارات صعبة في المرحلة القادمة، أهمها أن إسرائيل منحت لنفسها حرية التحرك من أجل منع حزب الله من إعادة إنشاء بنيته العسكرية، في حين أن حزب الله منح لنفسه الحق في الدفاع عن النفس في حالة "تعرض لبنان" لهجوم إسرائيلي.2- استمرار التصعيد الإسرائيلي مع حزب الله في سوريا: قد يستمر التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله على جبهات أخرى، على غرار الجبهة السورية. ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن حزب الله ما زال نشطاً على الجبهة السورية، على نحو لا تستبعد معه إسرائيل أن يواصل حلفاء حزب الله محاولات مده بالدعم العسكري عبر سوريا خلال المرحلة القادمة. لذلك، كان لافتاً بالتوازي مع الإعلان عن الاتفاق قيام إسرائيل باستهداف المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان، وتوجيه تحذير مباشر إلى الرئيس السوري "بشار الأسد" من عواقب الموقف الذي يمكن أن يتبناه فيما يتعلق بتسهيل عمليات تقديم الدعم إلى حزب الله، إذ أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" أن الرئيس السوري "يلعب بالنار"، محذراً إياه من عواقب تمرير السلاح إلى حزب الله عبر أراضيه.وعليه، فإن استمرار التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله في سوريا يمثل تحدياً كبيراً لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، حيث إنه إذا استمر حزب الله في تلقي الدعم العسكري عبر سوريا، فقد تشعر إسرائيل بالتهديد ما قد يدفعها إلى استئناف الهجمات ضد المعابر الحدودية أو المواقع العسكرية التابعة لحزب الله، وهو ما يضر بالهدنة ويعطل تنفيذ الاتفاق.3- غموض الدور المفترض للحكومة اللبنانية في الاتفاق: يتضمن الاتفاق بنوداً خاصة بتفكيك المنشآت غير القانونية المعنية بعملية إنتاج الأسلحة والمواد المتعلقة بها، والبنى العسكرية غير الرسمية، فضلاً عن الإشراف على عمليات بيع وشراء وتوريد الأسلحة أو المواد المتعلقة بها إلى لبنان، بالتوازي مع نشر قوات الجيش اللبناني في الجنوب وبمحاذاة الحدود مع إسرائيل. وهنا، لم تتضح بعد مدى إمكانية اضطلاع الحكومة اللبنانية بالمهمة الأولى، خاصةً أن ذلك قد يساهم في اندلاع أزمة مستحكمة مع حزب الله، الذي ما زال ينتظر رد فعل الحكومة والمدى الذي سوف تصل إليه عملية تنفيذ الاتفاق خلال المرحلة القادمة.4- استمرار تعقيدات المشهد السياسي الداخلي في لبنان: لم تتضح بعد تداعيات اتفاق وقف إطلاق النار على الأزمة السياسية في لبنان. فقد حاولت قوى سياسية لبنانية خلال الفترة الماضية استغلال انشغال حزب الله بإدارة التصعيد العسكري مع إسرائيل، إلى جانب الخسائر العسكرية والسياسية التي تعرض لها، لدفع ترشيح قائد الجيش "العماد جوزيف عون" لرئاسة الجمهورية. ومع ذلك، تشير الرسائل الأخيرة الصادرة عن حزب الله، ومن خلفه إيران، إلى تمسكهما بفصل التطورات الميدانية عن موقفهما من الأزمة السياسية. ويبدو أن حزب الله لن يدعم أي مرشح للرئاسة إلا إذا كان ذلك ينسجم مع حساباته السياسية في المرحلة المقبلة.لذا يمكن أن يؤثر موقف حزب الله المتشدد في الداخل اللبناني على استمرار الاتفاق، خاصةً إذا ارتبط ذلك بالصراع السياسي الداخلي، مثل قضية انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان، حيث إن حزب الله قد يصبح أقل مرونة في تطبيق بنوده مثل الالتزام بالهدنة أو تقييد نشاطاته العسكرية، مما يهدد استمرارية الهدنة. إضافةً إلى ذلك، إذا كانت إيران تمارس نفوذاً في هذا السياق، فقد تزداد الضغوط على حزب الله لتكييف مواقفه بما يتماشى مع حساباته السياسية في المستقبل، وهو ما قد يخلق تصدعات في تنفيذ الاتفاق.ثغرات قائمةفي ضوء ذلك، يمكن القول إن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان قد لا يمثل نهاية للصراع العسكري بين إسرائيل وحزب الله، خاصةً أنه يعاني من "ثغرات" عديدة. فبالإضافة إلى احتمال استمرار الصراع في سوريا وربما في دول أخرى، يظل الاتفاق ذاته مهدداً بالانهيار بسبب التباين في الحسابات السياسية والعسكرية للطرفين، فضلاً عن تعقد العديد من الملفات الإقليمية، من بينها التصعيد المتوقع بين إسرائيل وإيران بعد إتمام الاتفاق في لبنان، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على مستقبل هذا الاتفاق.

ماذا بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان؟