د. محمد عباس ناجي

رغم تزايد الحديث عن تصاعد مستوى التعاون العسكري بين إيران وروسيا خلال المرحلة القادمة، في إطار سياسة مقايضة تقوم إيران بمقتضاها بمد موسكو بصواريخ باليستية مقابل قيام الأخيرة بمد طهران بمقاتلات "سوخوي 35" فضلاً عن قرب التوقيع على اتفاقية التعاون الاستراتيجي، إلا أن ذلك لم يمنع تجدد الانتقادات الإيرانية للسياسة الروسية في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، ولا سيما إزاء أزمة إقليم ناجورنو كاراباخ.إذ استدعت وزارة الخارجية الإيرانية، في 2 سبتمبر 2024، السفير الروسي لدى طهران "أليكسي ديدوف"، للاحتجاج على تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف"، وأكد فيها حرص بلاده على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي سبق أن تم إبرامه في 9 نوفمبر 2020 بين الرئيسين الروسي "فلاديمير بوتين" والآذري "إلهام علييف" ورئيس الوزراء الأرميني "نيكول باشينيان"، وكان يقضي باستئناف خطوط النقل بين الجزء الرئيسي من أذربيجان وناختشيفان عبر ممر زانجزور، وهو ما لا يتوافق مع مصالح إيران التي لم تكن طرفاً في الاتفاق، وتعتبر أن ذلك معناه انقطاع حدودها مع أرمينيا ومحاصرتها من جانب تركيا وأذربيجان من ناحية القوقاز.اعتبارات عديدةيمكن تفسير أسباب تجدد الانتقادات الإيرانية للدور الروسي في القوقاز، وتحديداً في أزمة إقليم ناجورنو كاراباخ، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:1- تحذير اتجاهات إيرانية من سياسة "بزشكيان" تجاه روسيا: منذ وصوله إلى منصبه رئيساً للجمهورية في إيران، سعى الرئيس الإيراني الجديد "مسعود بزشكيان" إلى التركيز على تطوير العلاقات مع روسيا على اعتبار أنها قوة دولية رئيسية دائماً ما وقفت، في رؤيته، بجانب إيران في مواجهة الأزمات والعقوبات التي تعرضت لها من جانب الدول الغربية، خاصةً بعد تعثر الاتفاق النووي عقب انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" منه في 8 مايو 2018، ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية بدايةً من 7 أغسطس من العام نفسه.وهنا، فإن إعادة فتح هذا الملف الخلافي مع روسيا ربما يعود إلى رغبة أطراف عديدة داخل إيران في توجيه تحذيرات من تداعيات رفع مستوى العلاقات الثنائية مع روسيا، التي سبق – وفقاً لرؤية هذه الأطراف – أن تبنت سياسات لم تتوافق مع مصالح وحسابات إيران، خاصةً أنها استخدمت هذه العلاقات في إدارة صراعها مع الدول الغربية.2- محاولة من جانب "بزشكيان" لتعزيز الانفتاح على الغرب: ربما تكون هذه الخطوة التي اتخذتها إيران مرتبطة بالجهود التي يبذلها الرئيس "بزشكيان" نفسه من أجل فتح قنوات تواصل مع الدول الغربية، وتجديد المفاوضات حول الاتفاق النووي، بهدف رفع القسم الأكبر من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، التي تسببت في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الأخيرة.وبمعنى آخر، فإن هذه الخطوة ربما تكون إشارة من جانب حكومة "بزشكيان" نفسها إلى الدول الغربية تفيد بأن أولوياتها تتمثل في تطوير التعاون مع تلك الدول، وأن هناك حدوداً لتوسيع نطاق العلاقات الثنائية مع روسيا، مرتبطة بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا التعاون بين إيران والدول الغربية.وفي هذا الصدد، كان لافتاً أن بعض الاتجاهات داخل إيران بدأت تؤكد أن تجديد المفاوضات مع الدول الغربية من أجل الوصول إلى صفقة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي، أو تساهم في إبرام اتفاق جديد، لن يحدث في ظل الدعم العسكري الذي تقدمه إيران إلى روسيا لمساعدتها في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، باعتبار أن هذا الملف يحظى باهتمام خاص من جانب الدول الغربية، ويمثل استمراره عقبة يمكن أن تحول دون تجديد هذه المفاوضات أو الوصول إلى هذا الاتفاق.3- ممارسة ضغوط على موسكو في ملف التسليح: لا يمكن استبعاد أن يكون استدعاء السفير الروسي للاحتجاج على الموقف الروسي من ملف ناجورنو كاراباخ، مرتبطاً باستياء إيراني من عزوف روسيا عن تأكيد إمكانية إبرام صفقة عسكرية لتسليم طهران مقاتلات "سوخوي 35"؛ إذ بدا أن هذه الصفقة تحديداً تحظى باهتمام خاص من جانب إيران، بعد أن كشف التصعيد العسكري مع إسرائيل الذي جرى خلال الفترة الماضية أن إيران تعاني من ثغرة حادة في هذا السياق تحديداً.لكن اللافت أنه رغم إلحاح إيران في هذا الصدد، لم يصدر تأكيد رسمي من جانب روسيا يفيد بأنها ستمضي في هذا المسار مع إيران، حتى بعد الزيارة التي قام بها سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي "سيرجي شويجو" إلى طهران، في 5 أغسطس 2024، وبعد نحو أسبوع من اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية" في 31 يوليو 2024، الذي دفع إيران إلى التهديد بتوجيه ضربة عسكرية "عقابية لإسرائيل، باعتبار أن ذلك "واجب عليها".إذ ترى موسكو أنه رغم اهتمامها بالاستعانة بالتكنولوجيا الإيرانية في مجال الطائرات من دون طيار والصواريخ الباليستية في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، فإن إقدامها على خطوة تسليم إيران مقاتلات "سوخوي 35" في هذا التوقيت الحرج الذي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، في ظل استمرار الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة وما يرتبط بها من تصعيد عسكري على جبهات إقليمية متعددة بما فيها إيران، كل ذلك من شأنه أن يرفع مستوى التوتر في علاقاتها مع الدول الغربية إلى مستوى غير مسبوق، فضلاً عن أنه سيدفع إسرائيل نفسها إلى تبني خطوات تصعيدية مضادة في أوكرانيا، بعد أن عزفت عن تقديم دعم عسكري نوعي للأخيرة، حتى في ظل الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية عليها؛ للحفاظ على تفاهماتها مع روسيا في سوريا.وربما أثار هذا العزوف الروسي عن تأكيد إبرام هذه الصفقة استياءً لدى طهران، التي اعتبرت أن ذلك يمثل مؤشراً إضافياً على أن موسكو تستغل العلاقات معها في إدارة التصعيد مع الدول الغربية، على نحو قد يكون دفعها إلى تبني هذا الخطوة التصعيدية بإعادة تأجيج الملف الخلافي مع روسيا حول إقليم ناجورنو كاراباخ.4- تزايد القلق من التنسيق الروسي–التركي في سوريا: تراقب إيران بدقة التحركات التي تقوم بها روسيا من أجل إعادة تطبيع العلاقات بين تركيا والحكومة السورية، في ظل رغبة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في "طي صفحة" الخلافات العالقة بين الطرفين بسبب الموقف الذي تبنته أنقرة من الصراع المسلح في سوريا منذ عام 2011؛ حيث دعمت قوى المعارضة وسعت إلى إسقاط النظام السوري.ورغم أن إيران لا تعارض تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، فإنها تعارض أن يتم ذلك بعيداً عنها، أو عبر وساطة منفردة تقوم بها موسكو، التي يمكن أن يكون هدفها في هذا الصدد هو استبعاد طهران من عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية بين أنقرة ودمشق، في سياق السياسة التي تتبناها في سوريا وتقوم في الأساس على تحجيم نفوذ إيران على الأرض، بعد انتهاء الصراع المسلح لصالح نظام الرئيس السوري "بشار الأسد"، وهو ما ترد عليه طهران بالعمل على تعزيز نفوذها داخل سوريا على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.إدارة الخلافاترغم ذلك، لا يبدو أن إيران سوف تذهب بعيداً في تأجيج الخلافات مع روسيا، على الأقل في المرحلة الحالية؛ إذ إن الدولتين مقبلتان على توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي التي سوف تمتد إلى 20 عاماً، كما أن إيران سوف يكون لديها طموح متواصل بأن ترفع روسيا من مستوى تعاونها العسكري معها خلال المرحلة القادمة لسد الثغرة الناجمة عن افتقادها القوة الجوية اللازمة لإدارة التصعيد العسكري مع إسرائيل، الذي قد يتطور خلال المرحلة القادمة ليصل إلى مرحلة الحرب المباشرة.فضلاً عن ذلك، فإن سعي إيران إلى تجديد المفاوضات مع الغرب سوف يزيد من أهمية الحفاظ على علاقات قوية مع روسيا، باعتبار أن الأخيرة تمثل ظهيراً دولياً تستطيع طهران الاستناد إليه، في بعض المراحل، لمواجهة الضغوط والعقوبات الغربية وتعزيز موقعها التفاوضي أمام هذه الدول.

ما أسباب تجدد الانتقادات الإيرانية للسياسة الروسية في القوقاز؟