في السابق، كانت القضايا البيئية والاجتماعية مسؤولية حصرية تتحملها الحكومات بمفردها، غير أنه مع تعاظم أهمية دور القطاع الخاص في الاقتصاد العالمي، أضحى يتشارك هو كذلك بعض الأعباء المتفاقمة، خاصةً في ظل تنامي التحديات التي يواجهها العالم من حروب وأزمات لاجئين وتفشي أوبئة وتغير مناخ واضطرابات اجتماعية؛ إذ بات لزاماً على كل مؤسسة النهوض بدورها في سبيل مجابهة التحديات العالمية.

وانطلاقاً من حتمية مكافحة التغير المناخي، الذي بات يهدد حياة الكوكب بأسره، أضحى القطاع الخاص يقوم بدور رئيسي في مكافحة تداعيات وآثار التغير المناخي، ويساهم في خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر، مع الحكومات جنباً إلى جنب، بيد أن ثمة جهوداً حثيثةً من قبل الحكومات والمنظمات الدولية لجذب القطاع الخاص وتعظيم دوره في مجال مكافحة التغير المناخي؛ حيث تتلقى الكثير من الشركات الخاصة منحاً من الحكومات بغية إشراكها في العمل المناخي، إلا أن ذلك الدور لا يزال بحاجة إلى تعزيز.

أدوار صاعدة

في ظل المساعي العالمية لمجابهة التغير المناخي، ونظراً إلى كون الأعمال التجارية مسؤولة عن الغالبية العظمى من الانبعاثات؛ حيث تنتج نحو 100 شركة فقط أكثر من 70% من انبعاثات الاحتباس الحراري؛ فإن القطاع الخاص يتحمل المسؤولية الأساسية عن اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من آثار أنشطته على المناخ ومعالجتها، لا مجرد مجابهة تأثيرات التغير المناخي عليه. وفي هذا الصدد، فإن هناك أدواراً حاسمةً يتحمَّلها القطاع الخاص حول العالم، ومنها ما يأتي:

1– دور جديد للقطاع الخاص في مواجهة التغير المناخي: على مدار العامين الماضيين، شهد العالم تحولاً واضحاً في الأدوار والتوقعات المرجوة من القطاع الخاص، فيما أدرك قادة الأعمال أن خلق القيمة على المدى الطويل، يتم تحقيقه من خلال خدمة مصالح الكوكب، والقوى العاملة، والعملاء، والمجتمعات. ومن هذا المنطلق، تصدرت قضية التغير المناخي جدول أعمال مجالس إدارات الشركات؛ نظراً إلى استيعاب الشركات من القطاع الخاص مخاطر الاحتباس الحراري، وكذلك استجابةً للضغوط التنظيمية الدولية في سبيل مواجهة ذلك التهديد، والدفع الحثيث نحو الإبلاغ عن جهود القطاع الخاص في مكافحته، والتحفيز المستمر نحو تقديم يد العون للأفراد المتضررين من تبعات التغير المناخ، وخاصة أولئك الذين يواجهون ظروفاً مناخيةً قاسيةً تُعرِّض حياتهم للخطر.

2– إشارة اتفاقية باريس إلى دور الجهات الفاعلة غير الحكومية: أشارت اتفاقية باريس لعام 2015 إلى دور الجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك القطاع الخاص، باعتبارها جزءاً أساسيّاً من الحل العالمي لمكافحة التغير المناخي. وإن كانت اتفاقية باريس لم تقدم إرشادات ملموسة للشركات حول كيفية التعامل مع تغير المناخ، فإن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قدمت إرشادات من جانبها للمؤسسات المتعددة الجنسيات، أشبه بمبادئ توجيهية، تعمل إطاراً داعماً في هذا الصدد.

وقد مثلت هذه المبادئ التوجيهية الأداة الأكثر شمولاً، كما شكلت إجماعاً دولياً على مسؤولية الشركات فيما يتعلق بتأثير ممارساتها وأنشطتها التجارية على تغير المناخ، بما يفرض على الشركات مسؤولية اجتماعية للمساهمة في التنمية المستدامة، والسعي إلى تخفيف الآثار السلبية المرتبطة بعملياتها أو منتجاتها أو خدماتها على المناخ.

3– فرض بعض القوانين الملزمة للشركات للحد من آثار التغير المناخي: في بعض الدول، يتطلَّب الأمر من الشركات الكبرى نشر خطط طريق توضح من خلالها كيفية تعاملها مع آثار التغير المناخي، وسُبلها في التصدي لتبعاته، ومن تلك الدول فرنسا؛ حيث تطلب قانون واجب اليقظة الفرنسي لعام 2017 من الشركات الكبيرة أن تنشر خطة تحدد من خلالها الآثار البيئية والتأثيرات على حقوق الإنسان لسلاسل التوريد الخاصة بها، وتقديم معلومات حول كيفية معالجة هذه الآثار. ووفقاً لتقرير حول تنفيذ القانون نُشر في فبراير 2019، فإن العديد من الشركات غطت خلال فترة تنفيذ القانون مخاطر محددة لا جميع المخاطر. وعليه فإنه في مارس 2019، تم رفع الدعوى الأولى ضد شركة لم تُعالِج بقدر كافٍ تغير المناخ في خطة واجب اليقظة أمام محكمة فرنسية.

4– تصاعد الدور في مكافحة تغير المناخ في آسيا والمحيط الهادئ: يجلب بنك التنمية الآسيوي موارد وأفكاراً جديدة لمكافحة تغير المناخ، من خلال عملياته في القطاع الخاص؛ حيث يلعب بنك التنمية الآسيوي دوراً رئيسيّاً في تمويل مشاريع القطاع الخاص الرائدة في مجال المناخ، التي تدعم بدورها المجالات الأساسية المرتبطة بالمناخ، كالأعمال الزراعية والطاقة المتجددة والبنية التحتية والقطاعات الاجتماعية؛ وذلك انطلاقاً من كون تمويل المناخ جزءاً من استراتيجية بنك التنمية الآسيوي لعام 2030.

ومن تلك المشاريع التي تمولها برامج التمويل المختلط، الرامية إلى تحقيق خفض في الانبعاثات بأكثر من 18 مليون طن من الكربون كل عام، تلك المتعلقة بالأعمال الزراعية المستدامة؛ وذلك على اعتبار أن نحو 34% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تأتي من قِبل نظام الغذاء العالمي. ومن الشركات التي سعت للمساهمة في ذلك النوع من الاستثمارات بالتعاون مع بنك التنمية الآسيوي، شركة (Saikexing) التي قامت في عام 2016، بأول استثمار لها في مجال التخفيف من حدة تغير المناخ مع مزارع ألبان في الصين، كما استثمرت الشركة في مشروع للغاز الحيوي لتحويل النفايات الحيوانية إلى طاقة، وهو عبارة عن خزانات كبيرة يتم فيها إنتاج الغاز الحيوي عبر تحلل المادة العضوية كالسماد الطبيعي.

وفي عام 2017، استثمرت شركة (Hasfarm)– وهي شركة تزرع الزهور والخضراوات في صوبات عالية التقنية في فيتنام – بتمويل من بنك التنمية الآسيوي، في زراعة 500 هكتار من الأراضي الأكثر مقاومةً للمناخ، فضلاً عن تقديم بنك التنمية الآسيوي تمويلات طويلة الأجل في مشاريع البنية التحتية الخضراء في مجال النقل، وتقديمه منحة مساعدة فنية تزيد عن مليوني دولار، تم تمويلها من قِبل مرفق البيئة العالمية؛ للمساعدة في تعزيز قدرة مشغلي الحافلات على تحسين اختيار وإدارة وتشغيل الحافلات الخضراء. ويذكر في هذا الصدد أنالمؤسسات المالية الدولية تزود بنك التنمية الآسيوي بتمويلات تدعم قدرته على تمويل مشاريع البنية التحتية الخضراء الأصغر.

5– المشاركة في قيادة الاستثمارات الخضراء في أفريقيا: يمتلك القطاع الخاص في أفريقيا قدرة على جلب موارد إضافية هائلة إلى البلدان الأفريقية لمساعدتها على تحقيق أهدافها الوطنية للحد من الانبعاثات والتكيف مع آثار تغير المناخ. وفي إطار ذلك، تتلقى شركات القطاع الخاص في أفريقيا تمويلات من قبل مؤسسات تمويل دولية، كوكالة التنمية الألمانية التي تحرص على تقديم تمويل لدعم الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتعزيز التعاون مع الشركات المحلية، بغية توليد فرص عمل في سلاسل القيمة الرئيسية، من شأنها المساهمة في اقتصاد أكثر اخضراراً في مجالات البيئة، كالمياه وإدارة الطاقة والنفايات.

كذلك تلعب الموارد من القطاع الخاص الدولي، بما في ذلك ممولو التنمية المتعددو الأطراف، كبنك التنمية الأفريقي، دوراً في دعم مشاركة القطاع الخاص المحلي لسد الفجوة في تدفقات تمويل المناخ إلى أفريقيا، التي كانت حتى وقت قريب تهيمن عليها جهات فاعلة بعيد عن القطاع الخاص. وقد أطلق بنك التنمية الأفريقي في إطار ذلك، برامج للتخفيف من المخاطر والحواجز التي تحول دون مشاركة القطاع الخاص في تمويل المناخ والنمو الأخضر في أفريقيا.

6– إتاحة الإمارات فرصاً لتعزيز دور القطاع الخاص في العمل المناخي: تحرص دولة الإمارات، في إطار استضافتها مؤتمر كوب 28، على إطلاق مبادرات أكثر إيجابيةً وطموحاً، وتعزيز المشاركة مع جميع الأطراف ذات الصلة، في سبيل إيجاد حلول لمواجهة تحديات المناخ. وعلى خلفية ذلك، انضم أكثر من ألف مدير تنفيذي في القطاع الخاص وأعضاء غرفة دبي إلى المسار الرامي إلى خفض الانبعاثات العالمية بمقدار النصف بحلول عام 2030، والوصول إلى الصفر بحلول عام 2050.

وفي ذلك السياق، دعت الدولة الإماراتية المزيد من المؤسسات إلى مواصلة جهودها الحثيثة ورفع طموحاتها والتزامها بإزالة الكربون واعتماد تدابير صديقة للبيئة لمكافحة تغير المناخ، حتى تتمكن من القيام بدور فاعل ومشارك في الطريق إلى COP28 وما بعده، وهو ما يعد فرصة مهمة لجميع أصحاب المصلحة المحليين والجهات الفاعلة غير الحكومية لمعرفة المزيد عن الأدوار القيادية للمناخ، بما في ذلك المبادرات المناخية الدولية، بالإضافة إلى تحالف الإمارات للعمل المناخي.

تحركات حكومية

في الوقت الراهن، وبالنظر إلى إمكانات الشركات من القطاع الخاص، فإن الحكومات تحتاج إلى تعزيز دور القطاع الخاص وتعزيز إمكاناته ودفعه نحو مزيد من الاندماج ضمن الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي؛ وذلك من خلال ما يأتي:

1– تحفيز القطاع الخاص للمساهمة في مكافحة التغير المناخي: لتعزيز مساهمة القطاع الخاص في معالجة تغير المناخ، تحتاج الحكومات إلى خلق حوافز واضحة ومناسبة لتشجيع القطاع الخاص على تنمية دوره وزيادة التزامه بمتطلبات المناخ. ويمكن أن يتحقق ذلك بشكل أكثر فاعليةً من خلال إطلاق صفقة عالمية تحدد التزامات خفض الانبعاثات الواجبة على القطاع الخاص، وهو ما من شأنه أن يخلق مزيداً من الوضوح بشأن سعر الكربون في المستقبل، كما يمكن أن يسهم تحديد طبيعة الحوافز السياسية المعتمدة لتحقيق تخفيضات الانبعاثات خلال تلك الصفقة، في تحديد حجم وطبيعة مشاركة القطاع الخاص في مكافحة التغير المناخي بصورة أكثر وضوحاً.

2– توسيع مشاركة القطاع الخاص في المبادرات والمنتديات الدولية: تستطيع الحكومات تعزيز مشاركة القطاع الخاص على نطاق واسع في مجموعة من المبادرات والمنتديات الدولية، التي يمكن أن يُفتح من خلالها الباب أمام النقاشات ووضع المقترحات الخاصة بتسريع استثمارات القطاع الخاص والابتكار في مكافحة تغير المناخ، وتوسيع فرص التعاون بين مؤسسات القطاع الخاص عالمياً، والتوسع كذلك في تقديم المنح والتمويل لتلك المؤسسات؛ لتحفيزها على القيام بمزيد من الاستثمارات الداعمة لمكافحة التغير المناخي.

3– إنشاء إطار سياسي داعم لمشاركة القطاع الخاص: على المستوى الوطني، فإن إنشاء إطار سياسي واضح، يعد متطلباً مهمّاً من أجل خلق بيئة مواتية لمشاركة القطاع الخاص؛ فإذا تمكنت الحكومات من توضيح الاتجاه المستقبلي للسياسة والقرارات الرئيسية التي سيتم اتخاذها، مثل التي ستُتَّخذ بشأن مصادر الطاقة وتطوير البنية التحتية، فإن ذلك من شأنه أن يمنح قطاع الأعمال ثقة أكبر للقيام بالاستثمارات المنخفضة الكربون المطلوبة، واضعاً في اعتباره أن تطوير السياسة المستقبلية سيكون متسقاً مع عائد إيجابي على استثماراته.

4– توفير المزيد من دراسات الجدوى في العمل المناخي: تحتاج الحكومات دراسة جدوى الأسواق التي تتيح للقطاع الخاص القيام بجهود واضحة وذات آثار ملموسة في العمل المناخي وفي الوقت ذاته أكثر ربحيةً، بيد أن بعض البلدان قد بدأت بالفعل تقوم بذلك، على الرغم من أن معظمها – خاصة في دول العالم النامي – لا يزال في مرحلة مبكرة؛ إذ لا يزال هناك حاجة ملحة لانتهاج استراتيجيات نمو منخفضة الكربون ومقاومة للتهديدات المناخية، عبر تعزيز التشاور والشراكة مع القطاع الخاص في تطوير تلك الاستراتيجيات، بما يساعد في زيادة جدوى وملاءمة السوق للسياسات المقترحة، ومن ثم تسهيل مشاركة أكبر للقطاع الخاص في تحقيق نمو منخفض الكربون، وتحسين استدامة وتوسيع نطاق الاستثمارات الخضراء.

5– دعم رجال الأعمال في التغلب على عوائق الاستثمار: تحتاج الحكومات إلى طمأنة شركات القطاع الخاص بشأن إمكانية التغلب على عوائق الاستثمار في الطاقة النظيفة والمشاريع الخضراء بصفة عامة، عبر تقديم المساعدة المباشرة لرجال الأعمال في تحديد العوائق أمام الاستثمار وسبل التغلب عليه، التي تحول دون تحقيق النمو المنخفض الكربون، كعدم الحصول على التمويل الكافي والمطلوب، وارتفاع تكاليف ممارسة الأعمال التجارية، وما إلى ذلك. ومن ثم، فَهْم ومعالجة الحواجز أمام مشاركة القطاع الخاص في القضايا البيئية، وتعزيز الأعمال التجارية السليمة، وإيجاد حلول عملية لمواجهة تلك العوائق، وتبني نهج شامل يتضمن دعم وتمكين شركات القطاع الخاص من القيام بدور محوري في مكافحة التغير المناخي.

إجمالاً، يتمتع القطاع الخاص بدور هام في معالجة تغير المناخ ودعم النمو المنخفض الكربون عالمياً، وتعمل الشركات بالفعل بنشاط في أن تصبح جزءاً من الجهود العالمية الساعية إلى مكافحة التغير المناخي وخفض انبعاثات الغاز الحراري، غير أن ذلك الدور لا يزال طور التطوير؛ إذ لا يزال من الممكن تنميته وتعزيزه، من خلال وضع صانعي السياسات القواعد الرئيسية التي من شأنها أن تزيد مساهمة القطاع الخاص في العمل المناخي، كإطلاق استراتيجيات رئيسية، وطرح خطط تدعم التعاون والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتقديم التمويلات والمنح للشركات الناشئة في مجال البيئة لدعم استمراريتها وتعزيز وجودها. وإذا تمكنت الشركات والحكومات على السواء من العمل معاً لإيجاد حلول مبتكرة وفعالة للتغلب على مشكلات التغير المناخي الأكثر إلحاحاً، فإن ذلك سيكون له انعكاساته الإيجابية على البيئة من ناحية، وعلى الشركات نفسها من ناحية أخرى.

بيد أن ذلك يحتاج ابتداءً من القطاع الخاص، تعزيز مناقشة قضايا المناخ خلف الأبواب المغلقة، والمساهمة في بناء سلاسل توريد دائرية منخفضة الكربون تحترم حقوق الإنسان للعمال والمجتمعات المرتبطة بها، كما يجب على قادة الشركات أن يدركوا قوتهم الهائلة وحجم تأثيرهم، وأن يعملوا على استغلالها لإحداث التغيير الإيجابي، والدفع قدماً نحو العمل بشكل جماعي وتحويل التيار نحو الاهتمام بقضية تغير المناخ.

دور القطاع الخاص في مواجهة التغير المناخي عالمياً