د. يوسف داوود

تعيش جورجيا مرحلة من التغيير المفصلي في تاريخها السياسي والاقتصادي، وذلك في ظل قرارات الحكومة الأخيرة بتعليق مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حيث شهدت البلاد بعدها موجة من الاحتجاجات الواسعة والانقسامات الداخلية. هذا، ويعقد من المشهد في جورجيا تزامنه مع استمرار الصراع الروسي الأوكراني، ومساعي الدول الغربية لتقويض نفوذ روسيا في مناطق نفوذها التقليدي؛ فما يحدث في اللحظة الراهنة داخل جورجيا سيقوض -بشكل أو بآخر- التحركات الأوروبية الساعية لدمج جورجيا في المنظومة الغربية، وهو الأمر الذي سيخدم في الوقت ذاته مصالح موسكو.اضطرابات واسعةتتمثل الأبعاد والملامح الرئيسية للأزمة الراهنة في جورجيا في الآتي:1- تعليق الحكومة الجورجية لإجراءات التكامل مع الاتحاد الأوروبي: أثار القرار الخاص بتعليق التكامل مع الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028 غضباً شعبياً عارماً. ففي الوقت الذي يدعم فيه أكثر من 80% من الجورجيين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تسبب هذا القرار في خروج الآلاف إلى الشوارع، مما أدى إلى تظاهرات في مدن مختلفة، مثل: تبليسي، وباتومي، وكوتيسي. وتشير هذه المظاهرات إلى حالة من التوتر الاجتماعي والسياسي المتزايد، مما يزيد من الضغوط على الحكومة لتغيير موقفها.2- تزايد القمع الحكومي للاحتجاجات: تواجه السلطات في جورجيا اتهامات باستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، بما في ذلك استخدام خراطيم المياه والاعتقالات الجماعية. هذه الممارسات زادت من حدة الأزمة، وأدت إلى انضمام فئات جديدة من المجتمع، مثل الصحفيين والقضاة، إلى الحراك الاحتجاجي، مما يعكس انقسامات عميقة في المجتمع الجورجي.3- إقرار قانون العملاء الأجانب المثير للجدل: بالتوازي مع ما سبق، تم اعتماد هذا القانون المستوحى من القوانين الروسية، والذي يفرض على المنظمات الممولة من الخارج تسجيل نفسها كـ"عملاء أجانب". يصف النقاد هذا القانون بأنه أداة لقمع حرية التعبير واستهداف المجتمع المدني، حيث تسبب القانون هو الآخر في احتجاجات واسعة وأثار قلق المجتمع الدولي، حيث يراه كثيرون محاولة لتقليد النموذج الروسي القمعي. كما أدى هذا القانون إلى توتر متزايد بين جورجيا والغرب، مما هدد بتراجع جهود الديمقراطية في البلاد.4- الصدام بين المؤسسات السياسية في جورجيا: منذ فترة تعاني جورجيا من حالة استقطاب سياسي حاد بين الحكومة بقيادة حزب "الحلم الجورجي" والمعارضة، حيث زاد هذا الانقسام بعد تعليق التكامل الأوروبي وفرض التشريعات القمعية. في السياق ذاته، تضاعفت التوترات بين رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه والرئيسة سالومي زورابيشفيلي، التي تدعو إلى انتخابات مبكرة وتتهم الحكومة بالفشل. هذا وقد أدى الانقسام إلى إضعاف قدرة المؤسسات على إدارة الأزمة، ويهدد بزيادة الاستقطاب الاجتماعي.5- تصاعد التأثيرات الاقتصادية للتوترات السياسية: تسببت الأزمة السياسية في تأثير سلبي مباشر على الاقتصاد الجورجي؛ حيث شهدت البلاد انخفاضاً في الاستثمارات الأجنبية وارتفاعاً في معدلات البطالة، مما زاد من معاناة الشعب. كما يهدد قرار تعليق التكامل مع الاتحاد الأوروبي بتقليص الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي، وتراجع التعاون الاقتصادي مع الشركاء الغربيين. ومن المرتقب أن يزيد هذا الوضع من هشاشة الاقتصاد الجورجي، ويُضعف قدرته على الصمود أمام التحديات.6- دور القوى الخارجية في مفاقمة الأزمة الجورجية: تلعب القوى الدولية دوراً محورياً في الأزمة الجورجية. ففي حين تسعى روسيا إلى استغلال الوضع لتعزيز نفوذها في المنطقة، فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يدعمان الحراك الديمقراطي في البلاد. ويواجه الغرب معضلة تتمثل في المفاضلة بين فرض العقوبات على الحكومة الجورجية أو مواصلة الحوار لتجنب عزل الشعب. وبالتالي، يؤدي هذا الوضع في جورجيا إلى خلق مفترق طرق جيوسياسي حساس بين الشرق والغرب.تداعيات ممتدة خلفت الأزمة المشار إليها، ذات الملامح المتشعبة، عدداً من التداعيات المهمة، وذلك على النحو التالي:1- الانتقادات الخارجية للأوضاع الحقوقية في جورجيا: أدى تعامل الحكومة الجورجية مع الاحتجاجات إلى تفاقم أزمات حقوق الإنسان في البلاد، حيث تم توثيق انتهاكات تشمل استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين، واعتقالات تعسفية، وملاحقة الصحفيين والنشطاء الذين يغطون الأحداث أو يعبرون عن آرائهم المعارضة. كما أن القيود المفروضة على حرية التعبير والتجمع أصبحت أكثر وضوحاً، مما يثير قلقاً واسع النطاق بين منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية. وبحسب "هيومن رايتس ووتش"، فإن هذه الانتهاكات قد تُضعف الثقة في مؤسسات الدولة، وتزيد من عزلتها على الساحة الدولية، وقد يؤدي استمرار هذا الوضع إلى إحباط المبادرات الإصلاحية، ويزيد من تآكل الديمقراطية الناشئة في جورجيا، مما يجعل الإصلاح السياسي أكثر صعوبة.2- تفاقم الانقسام السياسي الداخلي: شهدت الساحة السياسية الجورجية انقسامات عميقة بسبب سياسات الحكومة المتعلقة بالابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، حيث يرى الكثيرون أن هذا التوجه يخدم المصالح الروسية على حساب الاستقلال الوطني. هذه الأزمة أدت إلى تصعيد الخطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة، مع تصاعد دعوات لإجراء انتخابات مبكرة أو تغيير النظام. وتتهم المعارضة الحكومة بخيانة تطلعات الشعب نحو الديمقراطية الأوروبية، بينما تدعي الحكومة أن سياساتها تهدف إلى الحفاظ على "السيادة الوطنية". من جهة أخرى، يُعاني المجتمع المدني من الاستقطاب، حيث يشعر العديد من المواطنين بأن صوتهم غير مسموع، وأن مستقبلهم أصبح غامضاً في ظل هذه التوترات.3- تزايد الارتدادات الاجتماعية للأزمة السياسية: تسببت الأزمة الحالية في تفاقم الانقسامات الاجتماعية والثقافية داخل جورجيا؛ حيث أصبحت العائلات والمجتمعات منقسمة على أسس سياسية وأيديولوجية، عن طريق دعم البعض لسياسات الحكومة، بينما يعارضها آخرون بشدة. كما أن الشكوك المتزايدة بين مختلف الأطياف السياسية تؤثر على التماسك الاجتماعي، وتزيد من التوترات بين المدن الكبرى والمناطق الريفية. إلى جانب ذلك، أدى انتشار المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى تعميق الفجوة بين مختلف الفئات، مما جعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة للحوار.وفي هذا الصدد، يتمثل أحد المحاور المهمة التي يجب النظر إليها في تأثير الأزمة على المجتمع المدني والثقافة الوطنية، حيث إن تفاقم الانقسامات السياسية والمجتمعية أدى إلى تآكل التضامن الوطني، حيث يشعر العديد من المواطنين بالإحباط تجاه الطبقة الحاكمة السياسية. من جهة أخرى، يمكن أن تؤدي السياسات الحالية إلى تقليص الدعم للمبادرات الثقافية والتعليمية التي تُعزز الهوية الوطنية.4- تدهور علاقات تبليسي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة: أثار تعليق محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028 خيبة أمل كبيرة بين شركاء جورجيا الغربيين، الذين يرون أن الحكومة قد اختارت الانحراف عن المسار الأوروبي لصالح التقارب مع روسيا. وقد عبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه العميق من هذا القرار، مشيراً إلى أنه يعكس تراجعاً عن الالتزامات السابقة المتعلقة بالإصلاحات الديمقراطية. أما الولايات المتحدة، فقد طالبت بدورها الحكومة الجورجية بالتراجع عن قرارها واتخاذ خطوات تعيد بناء الثقة مع الشعب والمجتمع الدولي. وإذا استمرت الحكومة في هذا النهج، فقد تواجه جورجيا خطر فقدان الدعم المالي والسياسي من الغرب، مما سيؤثر سلباً على مشاريع التنمية والإصلاح.5- زيادة النفوذ الروسي في جورجيا: في ظل الأوضاع السياسية المتوترة وتراجع العلاقات مع الغرب، تبدو روسيا المستفيد الأكبر من الأزمة الجورجية الحالية، حيث تسعى موسكو لتعزيز نفوذها في جورجيا من خلال استغلال الانقسامات السياسية والاجتماعية. وقد تتجه روسيا لتقديم عروض اقتصادية مغرية أو دعم سياسي للحكومة الحالية، مما يزيد من احتمالية تعزيز هيمنتها على البلاد، حيث يثير هذا السيناريو قلق المعارضة والعديد من المواطنين الذين يخشون أن تصبح جورجيا أكثر تبعية لروسيا. كما قد يؤدي النفوذ الروسي المتزايد إلى عزل جورجيا عن المجتمع الدولي، ويعيدها إلى دائرة النفوذ السوفيتي السابق، مما يهدد استقلالها السياسي والاقتصادي.الخلاصة، تواجه جورجيا أزمة سياسية واجتماعية معقدة تحمل تداعيات خطيرة على مختلف المستويات، من تدهور حقوق الإنسان والانقسامات السياسية الداخلية إلى تراجع العلاقات مع الغرب وزيادة النفوذ الروسي. كما تهدد الأزمة الاقتصاد الوطني وتؤثر على استقرار المجتمع المدني وثقافته. في ظل هذا الوضع، تحتاج جورجيا إلى حوار وطني شامل يهدف إلى إعادة بناء الثقة بين المواطنين والحكومة، وتحديد مسار سياسي واضح يعزز الديمقراطية ويحمي الاستقلال الوطني. وقد يؤدي تجاهل هذه التحديات إلى تصعيد الأوضاع بشكل أكبر، مما يجعل الحلول أكثر صعوبة ويعرض البلاد لخطر الانزلاق نحو العزلة الدولية والاضطرابات الداخلية.

مآلات الأزمة السياسية في جورجيا