د. حمدي بشير

أجرى قائد القيادة الأفريقية بالجيش الفرنسي، الجنرال باسكال ياني، زيارة إلى موريتانيا، حيث التقى وزير الدفاع الموريتاني، حننه ولد سيدي، في 24 أبريل 2025. وتركز اللقاء على بحث سبل تطوير وتعزيز علاقات التعاون القائمة بين موريتانيا وفرنسا، خاصةً في المجالات المتعلقة بقطاع الدفاع. وتأتي هذه الزيارة بعد زيارة سابقة قام بها ياني إلى موريتانيا في أكتوبر 2024، في إشارة إلى تنامي اهتمام باريس بتعزيز العلاقات العسكرية مع موريتانيا، مما يطرح تساؤلات عديدة حول دلالات زيارة الجنرال الفرنسي في هذا التوقيت.أهداف باريسيمكن استعراض مجموعة من الدوافع الكامنة وراء زيارة قائد القيادة الأفريقية بالجيش الفرنسي إلى موريتانيا، يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- الرغبة الفرنسية في استنساخ المقاربة الأمنية الأمريكية في أفريقيا: تشير التحركات العسكرية الفرنسية المكثفة في منطقة غرب أفريقيا إلى رغبة باريس في طرح مقاربة أمنية جديدة مستنسخة من المقاربة الأمريكية، وذلك من خلال تشكيل قيادة عسكرية فرنسية جديدة خاصة بتعزيز العلاقات الأمنية مع أفريقيا مثل القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا "أفريكوم"، حيث يتولى الجنرال باسكال ياني، الذي قام بزيارة موريتانيا، قيادة القيادة الأفريقية بالجيش الفرنسي منذ أغسطس 2024، والتي أعلنت باريس عن تشكيلها في يونيو 2024، وتضطلع هذه القيادة العسكرية الفرنسية الجديدة بإعادة تنظيم الوجود الفرنسي في القارة، بالإضافة إلى الحفاظ على المواقع العسكرية في غرب ووسط أفريقيا، وتتضمن مهامها تعزيز التعاون مع عدد من الدول الأفريقية الأخرى.2- سعي باريس لإعادة مأسسة العلاقات العسكرية مع دول غرب أفريقيا: تُعد زيارة الجنرال الفرنسي إلى موريتانيا في أبريل 2025 هي الثانية له خلال أقل من عام، بعد زيارته الأولى في أكتوبر 2024، مما يعكس اهتماماً فرنسياً متزايداً بتعزيز العلاقات الدفاعية مع دول المنطقة. وتأتي هذه الزيارة في سياق تأسيس القيادة الأفريقية بالجيش الفرنسي، وفي وقت تخطط فيه باريس لإعادة هيكلة وجودها العسكري في غرب ووسط أفريقيا، عبر تقليص عدد قواتها إلى بضع مئات من الضباط والجنود، ضمن إطار شراكات "متجددة" وأكثر تحفظاً من السابق.ووفقاً للخطة الفرنسية، من المتوقع أن يبلغ عدد هذه القوة نحو 600 ضابط وجندي، مع إمكانية زيادته تدريجياً وفقاً لاحتياجات الشركاء المحليين. وتتزامن هذه الزيارة أيضاً مع استعداد باريس لسحب قواتها من السنغال بحلول سبتمبر 2025، الأمر الذي دفعها إلى دراسة خيارات نقل أصولها الجوية المنتشرة هناك، حيث تبدو موريتانيا، بحكم موقعها الجغرافي المجاور، خياراً محتملاً لاستضافة جزء من هذه الأصول العسكرية.3- موازنة باريس التحركات العسكرية الروسية والصينية في الساحل: تكشف التحركات العسكرية الفرنسية الأخيرة عن اهتمام باريس المتزايد بموازنة تحركات القوى المنافسة، وعلى رأسها روسيا والصين، في منطقة الساحل الأفريقي. وقد برز هذا الاهتمام بشكل واضح عقب زيارة وفد وزراء خارجية دول تحالف الساحل إلى موسكو في مارس 2025، وهو ما عكس تنامي التنسيق بين روسيا ودول المنطقة.بالتوازي مع ذلك، صعّدت الصين من تحركاتها لتعزيز التعاون العسكري والأمني مع دول الساحل، مستغلة الفراغ الذي خلفه تراجع الإمدادات الروسية بسبب انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا. وتشير تقارير إلى أن الصين عملت على سد هذه الفجوة، حيث حصل المجلس العسكري في بوركينافاسو وحده على 116 ناقلة مشاة و6 مركبات هجومية من الصين خلال عام 2024، وفقاً لبيانات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.وفي هذا السياق، عززت شركة "نورينكو"، أكبر شركة صينية لصناعة الأسلحة، وجودها في غرب أفريقيا من خلال افتتاح مكاتب مبيعات في نيجيريا والسنغال. كما وقعت الحكومة العسكرية في مالي، في سبتمبر 2024، اتفاقية مع شركة "نورينكو" للحصول على المعدات العسكرية، والتدريب، ونقل التكنولوجيا في مجالات الدفاع الرئيسية، بالتوازي مع وجود مصنع لمعالجة الليثيوم تابع لشركة "جانفينج ليثيوم" الصينية في البلاد. كما تسعى الصين إلى تعميق علاقاتها العسكرية مع النيجر، مستغلة مصالحها النفطية الضخمة، مع تطلع شركات صينية أخرى إلى الاستثمار في قطاع اليورانيوم الاستراتيجي.أمام هذا التمدد الصيني، تبدو باريس قلقة بشكل خاص من احتمال انتقال النفوذ الصيني إلى موريتانيا، التي تمثل إحدى نقاط الارتكاز المهمة لفرنسا في غرب أفريقيا. فقد سعت بكين إلى ربط نفوذها الاقتصادي بتوسيع صادراتها العسكرية، لتصبح المورد الرئيسي للأسلحة لدول المنطقة. وبالنظر إلى هذا المشهد، تُدرك فرنسا أن موريتانيا قد تكون الساحة التالية للنفوذ الصيني، وهو ما يدفعها إلى تكثيف تحركاتها العسكرية والدبلوماسية لتحجيم التغلغل الصيني المتسارع في المنطقة.4- تطلع فرنسا لتحييد تحركات القوى الإقليمية المناوئة في المنطقة: جاءت زيارة الجنرال الفرنسي إلى موريتانيا بعد أيام قليلة من توقيع الجزائر وموريتانيا على اتفاق عسكري في 16 أبريل 2025، والذي لم يتم الإعلان عن تفاصيله، ويتزامن هذا مع تصاعد التوتر في العلاقات الفرنسية-الجزائرية، وهو الأمر الذي يبدو أنه قد أثار مخاوف باريس من تحركات جزائرية تستهدف نفوذها أو التأثير على علاقاتها مع موريتانيا، وخاصةً بعد التقارب الفرنسي-المغربي ودعم باريس لمبادرة الحكم الذاتي المغربية. ومن ثم يمكن قراءة هذه التحركات العسكرية الفرنسية في سياق سعى باريس لمواجهة تحركات الجزائر المناوئة لها في منطقة المغرب العربي ومنطقة الساحل الأفريقي.تحديات محتملةتواجه المقاربة الأمنية الفرنسية الجديدة تجاه موريتانيا وغرب أفريقيا العديد من التحديات، التي يمكن تناولها على النحو التالي:1- تصاعد موجة المعارضة ضد سياسات باريس في المنطقة: يُعد الرأي العام في موريتانيا ومنطقة غرب أفريقيا أحد المتغيرات الأساسية التي تثير مخاوف باريس، في ظل تصاعد الاتجاهات المعارضة لسياستها الإقليمية. ويتزايد القلق الفرنسي من احتمال تكرار السيناريو السنغالي في موريتانيا، ولا سيما في حال نجاح القوى السياسية المعارضة في استغلال القضية لإشعال موجة احتجاجات ضد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني.ورغم هذه المخاوف، لا تزال باريس تراهن على تحول محتمل في المواقف الأفريقية تجاه سياستها، مدفوعة بتصاعد الهجمات الإرهابية في المنطقة. وقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن هذا الرهان بوضوح في خطابه أمام مؤتمر السفراء الفرنسيين حول السياسة الخارجية لعام 2025، الذي عُقد في يناير من العام نفسه، حيث أكد أن فرنسا "لا تزال تنتظر من دول الساحل الأفريقي التعبير عن امتنانها لجهود باريس في منعها من السقوط في أيدي المتشددين"، نافياً في الوقت ذاته صحة التلميحات بشأن انسحاب بلاده القسري من المنطقة. وأضاف ماكرون مدافعاً عن الدور الفرنسي: "لقد كنا محقين في تدخلنا عام 2013 لمحاربة المتشددين، حتى وإن كانت بعض هذه الدول قد تخلت لاحقاً عن الدعم العسكري الفرنسي".2- تخوف موريتانيا من مفاقمة التوترات القائمة مع مالي: شهدت العلاقات بين موريتانيا ومالي توتراً متصاعداً خلال الفترة الأخيرة، على خلفية قرار السلطات الموريتانية ترحيل عدد من المهاجرين الماليين في مارس 2025، مما أدى إلى اندلاع أزمة جديدة بين البلدين. وقد ساهمت الصراعات المكتومة بين نواكشوط وباماكو، خاصةً بسبب اصطفاف مالي مع روسيا وتزايد مخاوفها من علاقات موريتانيا المتنامية مع الدول الأوروبية، في تعقيد المشهد الإقليمي.وفي هذا السياق، تحرص موريتانيا على احتواء التوترات السياسية مع دول الجوار، بما في ذلك دول الساحل، وهو ما قد يجعلها مترددة في المضي بعيداً في تطوير علاقاتها العسكرية مع فرنسا، خشية توتير علاقاتها مع القوى الشرقية مثل روسيا والصين، فضلاً عن تجنب مزيد من التوتر مع دول الساحل الأفريقي.3- تباين السياسات الأمنية الأوروبية في منطقة الساحل: يمثل تباين السياسات الأمنية الأوروبية نتيجة مباشرة لاختلاف أولويات فرنسا عن أولويات بقية الدول الأوروبية. وقد أدى هذا التباين إلى تصاعد مظاهر التنافس بين فرنسا ودول أوروبية أخرى، بدلاً من تعزيز التنسيق المشترك في مجال الأمن. فعلى سبيل المثال، تعطي دول مثل إسبانيا أولوية قصوى لقضايا مكافحة الهجرة غير الشرعية، بينما تركز فرنسا على مكافحة الإرهاب وتعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع دول المنطقة.مقاربات منافسةإجمالاً، تعكس زيارة الجنرال باسكال ياني لموريتانيا في هذا التوقيت مسعى فرنسا لإعادة بناء علاقاتها مع دول غرب أفريقيا عبر تبني مقاربة أمنية جديدة، وذلك من خلال تشكيل القيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا، كاستجابة لتراجع حضورها العسكري التقليدي في المنطقة. ومع ذلك، تظل هذه المهمة محفوفة بالتعقيدات، في ظل تصاعد التنافس بين القوى الدولية والإقليمية، التي تعتمد بدورها مقاربات أمنية واستراتيجية متباينة، وهو ما من شأنه أن يحد من قدرة التحركات الفرنسية الجديدة على تحقيق أهدافها بشكل كامل في تلك المنطقة الحيوية.

ما دوافع زيارة قائد القيادة الأفريقية بالجيش الفرنسي إلى موريتانيا؟