كرم سعيد

تمر المعارضة التركية بتحولات سياسية متصاعدة أدت إلى تراجع نسبي في حضورها على الساحة التركية خلال الآونة الأخيرة، على نحو اتضح في استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة شركة "أكصوي"، أواخر سبتمبر 2024، ونشرت نتائجه في 7 أكتوبر 2024، والذي كشف عن تراجع نسبة تأييد حزب الشعب الجمهوري إلى نحو 32 في المائة بعدما كانت قد وصلت إلى 34 في المائة، مقابل استعادة حزب العدالة والتنمية جانباً من مؤيديه الذين فقدهم خلال الانتخابات المحلية في مارس 2024. وعلى الرغم من فوز المعارضة بالانتخابات البلدية الأخيرة، إلا أنها تفتقر حتى الآن إلى الرؤية اللازمة لإدارة البلاد، بالإضافة إلى تخندق بعض الأحزاب التركية حول أجندتها الأيديولوجية.دوافع مختلفةيمكن تفسير تراجع دور وتأثير المعارضة في الداخل التركي خلال الآونة الأخيرة في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في التالي:1- عدم استجابة الرأي العام لدعوة المعارضة للانتخابات المبكرة: لم تتمكن قوى المعارضة من تحشيد الشارع لإجراء انتخابات مبكرة، على الرغم من أن المواطن بات مستاءً من حالة الاستقطاب السياسي، وأصبح أكثر اهتماماً بالتركيز على القضايا الجوهرية التي تتقاطع مع الأوضاع المعيشية، ولعل ذلك ما دفع الرئيس التركي للإعلان عن رفض إجراء انتخابات مبكرة، وأضاف إن "هذه المطالبات لا تعنينا، فهي مجرد صراع داخلي بين أطراف المعارضة، ولا شأن لنا بها". وتابع: "أمامنا 4 سنوات دون انتخابات، ولن نسمح بإدخال البلاد في أجواء انتخابية، في ظل الأزمات التي نواجهها حالياً".2- احتمال توقيف المعارض أكرم إمام أوغلو: لا ينفصل التراجع المتوقع للمعارضة التركية عن احتمال تأييد محكمة الاستئناف خلال الأيام المقبلة الحكم الصادر في ديسمبر 2022، بحبس رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، والذي يقضي بحبس إمام أوغلو لمدة سنتين و7 أشهر و15 يوماً، ومنعه من ممارسة العمل السياسي لمدة 5 سنوات، وذلك على خلفية إهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات، ووصفهم بـ"الحمقى". وفي ضوء ذلك، فإنه في حال إدانة أوغلو فسيتم إقصاؤه عن مشهد انتخابات 2028، وهو ما أثار قدراً معتبراً من الشكوك في حكمة المعارضة وقدرتها على إدارة الأمور السياسية التي تتطلب الحكمة أكثر من التصريحات الساخنة.3- الانقسام داخل حزب الشعب الجمهوري: وفقاً للعديد من التقديرات، فإن تراجع زخم المعارضة التركية يعود إلى حالة الانقسام اللافت أوساط حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، إذ إنّ ثمة صراعاً مكتوماً بين رئيس بلدية إسطنبول ومنصور يافاش رئيس بلدية أنقرة في إطار سعيهما للترشح إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا. وقد وصلت الخلافات للذروة داخل الشعب الجمهوري مع تصاعد حدة الاستقطاب خلال مؤتمر الحزب الذي عُقد في سبتمبر 2024، وكشف عن عمق الهوة بين قيادته الرئيسية.وكان بارزاً هنا الجدل الذي أثاره يافاش رئيس بلدية أنقرة، عندما صرح بأنه لم يُمنح الفرصة للحديث خلال المؤتمر السنوي للحزب إلا في اللحظة الأخيرة، مشيراً إلى أنه كان يرغب في إلقاء خطاب مماثل لذلك الذي قدمه إمام أوغلو. كما أن ثمة خلافات وانقساماً غير مسبوق بين القواعد التقليدية للحزب، بين من يدعمون إمام أوغلو ورئيس الحزب الحالي أوزغور أوزيل، وبين من لا يزالون يدعمون الرئيس السابق كمال كليتشدار أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة.4- تصدع حزب الخير القومي: تعرض حزب الخير القومي لانتكاسة كبيرة وتصدع داخلي على خلفية النتائج الهزيلة للحزب في الانتخابات البلدية التي جرت نهاية مارس 2024، وهو ما دفع بعض كوادر الحزب في أبريل 2024 لمطالبة رئيسة الحزب أكشنار بتحمل المسؤولية عن هذه النتائج، وهو ما دفعها للاستقالة من رئاسة الحزب في 27 أبريل 2024 عشية افتتاح المؤتمر العام الاستثنائي للحزب.5- تفكك تحالف الطاولة السداسية المعارض: تبلور ذلك من خلال إنهاء تحالف الطاولة السداسية التي أسستها المعارضة خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو 2023، وضمت أحزاب المعارضة الرئيسية. كما خاضت المعارضة بصورة منفردة الانتخابات المحلية الأخيرة، وهو ما أدى إلى تراجع حضور الأحزاب الصغيرة.6- غياب تأثير المعارضة الجديدة: تكشف مسارات السياسة التركية في الداخل وتطورات الأوضاع المحلية عن ضعف تأثير أحزاب المعارضة الصغيرة، وبخاصة حزب الرفاه من جديد، بالإضافة إلى الأحزاب التي وُلدت من رحم العدالة والتنمية، وهي: حزب المستقبل بقيادة أحمد داود أوغلو، وحزب الديمقراطية والتقدم بقيادة علي بابا جان. وهنا، يمكن تفسير مساعي الحزبين للاندماج، وتكوين كيان حزبي موحد من خلال تشكيل مجموعة برلمانية واحدة وبمشاركة أحزاب أخرى. بيد أن مفاوضات الاندماج بين الحزبين لم تسفر عن جديد بسبب العديد من القضايا الشائكة، من بينها رئاسة الحزب، والترشح للرئاسة.7- خفض أردوغان وحليفه القومي التصعيد مع المعارضة: نجح الرئيس أردوغان خلال الفترة الأخيرة في خفض التصعيد مع المعارضة السياسية، وهو ما تجلى في لقائه رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل في مايو 2024، وهو اللقاء الأول من نوعه منذ ما يقرب من ثماني سنوات، ناهيك عن زيارة أردوغان في 11 يونيو 2024 مقر حزب الشعب الجمهوري في العاصمة أنقرة لأول مرة منذ 18 عاماً. كما التقى أردوغان رئيسة حزب الخير السابقة ميرال أكشنار في 5 يونيو 2024. ووفقاً للعديد من التحليلات، فإن هذه اللقاءات ساهمت في تخفيف حدة الاستقطاب السياسي في الداخل، وساهمت في تحسين شعبية العدالة والتنمية على حساب الخصوم المحليين.بالتوازي، تبنّى "دولت بهتشلي" رئيس حزب "الحركة القومية"، شريك أردوغان في السلطة، خطاباً سياسياً مغايراً تجاه المعارضة، من خلال التراجع عن تصريحاته الخشنة ضد خصومه، وهو ما ساهم في تحسين صورة تحالف الجمهور في الوعي الجمعي التركي، وظهر ذلك من خلال قيام بهتشلي بـ"حملة مصافحات" عشية افتتاح العام التشريعي الجديد للبرلمان في مطلع أكتوبر 2024، حيث صافح رئيس حزب الشعب الجمهوري، ورئيس حزب المستقبل، ناهيك عن مصافحة نواب حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب (الجناح السياسي للأكراد).8- قدرة أردوغان على تأمين تحالفاته السياسية: وذلك من خلال دعم علاقاته مع حزب الحركة القومية، وحزب الاتحاد الكبير، وحزب "الهدى بار" الكردي، بالإضافة إلى استقطاب المزيد من القوى السياسية المحافظة والتقليدية، فضلاً عن حفاظ أردوغان على الشريحة القومية الداعمة لسياساته بفضل علاقاته مع حزب الحركة القومية.9- التحسن النوعي في الاقتصاد التركي: شهد الاقتصاد التركي نقلة نوعية في الآونة الأخيرة، خصوصاً ما يتعلق بكبح جماح التضخم وزيادة الاستثمار الأجنبي، وتمكنت تركيا -وفقاً لوكالة "فيتش"- من إحداث نقلة نوعية بشأن زيادة احتياطياتها من العملة الأجنبية، حيث ارتفعت الاحتياطيات الصافية من النقد الأجنبي للبنك المركزي من عجز بقيمة 75 مليار دولار في أبريل 2024 إلى فائض قدره 6 مليارات دولار بنهاية أغسطس 2024. وفي ضوء ذلك، يُمكن تفسير توقع "فيتش" بشأن احتمال ارتفاع الاحتياطيات إلى 158 مليار دولار بنهاية العام 2024، وإلى نحو 165 مليار دولار بنهاية العام المقبل 2025. كما تحسنت الصورة الذهنية للاقتصاد التركي في أوساط الكيانات المالية الدولية، بعد رفع الجمعية العامة لمجموعة العمل المالي "فاتف" (FATF) –في يونيو 2024 تركيا من القائمة الرمادية للدول الخاضعة لتدقيق خاص فيما يتعلق بجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب.10- التوظيف السياسي لصراعات الإقليم من قبل النظام: تمكّن حزب العدالة والتنمية من توظيف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وجنوب لبنان لدعم موقعه الشعبي من خلال تصاعد الانتقادات للممارسات الإسرائيلية في غزة، والانضمام في أغسطس 2024 إلى الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم الإبادة الإسرائيلية، بالإضافة إلى تعليق صادرات بعض السلع التركية إلى إسرائيل، فضلاً عن إدانة اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ورفض التوغل البري الإسرائيلي في جنوب لبنان. وترى العديد من التحليلات أن السياسة التركية، والخطاب الشعبي للعدالة والتنمية ضد إسرائيل، أدى إلى زيادة شعبية الرئيس أردوغان وحزبه.تراجع نوعيختاماً، يمكن القول إن المعارضة التركية يرجح أن تشهد تراجعاً نوعياً في شعبيتها خلال المرحلة المقبلة، على خلفية تصاعد الانقسامات داخل أحزابها، بالإضافة إلى التطور الحادث في أداء حزب العدالة والتنمية وسعيه لمعالجة حالة الاستقطاب الداخلي، وتوظيف أزمات الإقليم، وبخاصة الحرب على غزة لدعم شعبية أردوغان وتعزيز مكانة حزب العدالة والتنمية.

لماذا تراجع أداء المعارضة التركيّة في الداخل؟