إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تمَّت دعوة 49.3 مليون ناخب فرنسي في 7 يوليو 2024 للإدلاء بأصواتهم في الجولة الثانية من الانتخابات المبكرة؛ وذلك بعد الحل المفاجئ للجمعية الوطنية من قِبَل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 يونيو 2024، الذي أتى على خلفية فوز حزب التجمع الوطني في انتخابات البرلمان الأوروبي. وقد واكبت هذه الدعوةَ مخاوفُ من تحولات راديكالية في المشهد الفرنسي مع تحولها إلى دولة يحكمها اليمين المتطرف أو إلى دولة غير قابلة للحكم مع انقسام برلمانها إلى ثلاث كتل كبرى لا تمتلك أيٌّ منها الأغلبية المطلقة.دلالات رئيسيةيمكن الإشارة إلى أهم دلالات التصويت في الجولة الثانية من التشريعيات الفرنسية بالتالي:1– تراجع حزب التجمع الوطني في الجولة الثانية: المفاجأة الكبرى في نتائج الجولة الثانية هي حلول حزب التجمع الوطني في المرتبة الثالثة بعد أن فاز بـ 143 مقعد، بعد أن كانت جميع الاستطلاعات تضعه في المقدمة، وتبحث فيما إذا كان سينال الأغلبية المطلقة (289 مقعداً) أم لا. وتأخذ هذه النتيجة في الاعتبار مرشحي التحالف مع إريك سيوتي؛ علماً بأن الحزب تمكن في الجولة الأولى من انتخاب 39 نائباً بعد أن حل أولاً بـ33% من الأصوات في 30 يونيو 2024، وأيضاً أولاً في الانتخابات الأوروبية بنسبة 31.37% من الأصوات.2– تصدر الجبهة الشعبية الجديدة: فقد حلَّت في المرتبة الأولى في الجولة الثانية الجبهة الشعبية الجديدة NFP (تحالف أحزاب اليسار) بزعامة جان لوك ميلونشون بحصولها على 182 مقعد، بعد أن شهدت كتلتها نمواً بالمقارنة مع نتائج عام 2022 (كانت تعرف بـNUPES، وكانت تمتلك 149 مقعداً). وحل في المرتبة الثانية التيار الذي يمثل الأغلبية الرئاسية المنتهية (النهضة، والحركة الديمقراطية، الآفاق) بعد أن حصل تحالف معاً على 168 مقعد، مقارنة بـ 250 مقعداً في العام 2022. وحل حزب الجمهوريون اليميني في المركز الرابع حاصلاً على 46 مقعد.3– عدم امتلاك أي طرف للأغلبية المطلقة: مع صدور نتائج الجولة الأولى مساء 30 يونيو 2024، أجمعت التحليلات على أن حزب "التجمع الوطني" هو الحزب الوحيد الذي يمكنه، من الناحية النظرية، الحصول على الأغلبية المطلقة، وأنه لا "الجبهة الشعبية الجديدة" NFP ولا "معاً" Ensemble ممكن أن تفوزا بمفردهما، كما تبين أنه من خلال عدم تسجيل كثافة في الانسحابات لمرشحي الجبهة الشعبية و"معاً" في موعد أقصاه مساء 2 يوليو 2024، فإن حزب التجمع الوطني سائر نحو الفوز بنحو 300 مقعد (الأغلبية المطلقة 289). وأظهرت نتائج الجولة الثانية أنه خلافاً لكل التوقعات فإن الجبهة الشعبية امتلكت الأغلبية النسبية عوضاً عن التجمع الوطني.3– إعادة ترميم مبدأ "الجبهة الجمهورية" لمواجهة اليمين: تقلَّص عدد المثلثات – أي الدوائر التي يتنافس فيها 3 مرشحين من توجهات مختلفة – بعد 2 يوليو إلى 94 (من أصل 306) بعد تسجيل انسحابات في 212 مثلثاً من المتأهلين للجولة الثانية التي توزعت كالتالي: 131 مرشحاً منسحباً من جبهة اليسار بعد أن حلوا في المرتبة الثالثة، و 81 مرشحاً منسحباً من المعسكر الماكروني حلوا في المرتبة الثالثة، بعد أن شعرت أحزابهم أن استمرار ترشحهم سيؤدي إلى تحسين فرص مرشحي أقصى اليمين بالفوز. وبحسب بعض التحليلات، فإن هذه الانسحابات أدت إلى تغيير الوضع في 160 دائرة.4– ارتفاع نسبة التصويت في الجولة الثانية: وفقاً للعديد من التحليلات التي واكبت الانتخابات، فإن ارتفاع نسبة التصويت كانت عاملاً رئيسياً في إنجاح تحركات مجابهة اليمين، وفي منع حزب التجمع الوطني من الحصول على الأغلبية المطلقة؛ حيث كان من الضروري على الأحزاب في كتلتي الوسط واليسار من أجل إقفال الطريق أمام وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، تعبئة ناخبيها، خصوصاً مع إظهار استطلاع رأي تم أجراؤه قبل يوم واحد من الجولة الأولى، أن نحو 60% من الناخبين المؤيدين للأغلبية الرئاسية يعتزمون الامتناع عن التصويت في حالة غياب مرشحهم في الجولة الثانية، وعلى نحو مماثل اعتزم أكثر من 50% من ناخبي الجبهة الشعبية الجديدة عدم الاختيار بين مرشح حزب التجمع الوطني ومرشح المعسكر الماكروني خلال جولة ثانية من دون مرشح من تيارهم.ولذلك انتشرت دعوات التعبئة على اعتبار أن التغيب عن التصويت في الجولة الثانية هو إعطاء نصف صوت مجاني للتجمع الوطني. ولقد بلغت نسبة التصويت في الجولة الثانية 67.1% في حين أنها بلغت في الجولة الأولى 66.7% (في الجولة الثانية لتشريعيات 2022 بلغت نسبة المشاركة 46.7%).5– تأثيرات عملية نقل الأصوات: كما قام قادة الأحزاب المواجهة لليمين المتطرف، بين الجولتين، بتوجيه تعليمات للتصويت لأنصارهم، كان من أهمها تلك التي أُعطِيت لناخبي الوسط بالتصويت لمرشحي الجبهة الشعبية الجديدة إذا لم يكونوا منتمين إلى حركة فرنسا غير الخاضعة التي يقودها جان لوك مولونشون المحسوبة على تيار أقصى اليسار. وبعد انسحابات المرشحين، تضاعفت المواجهات الثنائية من 190 إلى 408.وفي 197 دائرة انتخابية، وجد حزب التجمع الوطني نفسه في مواجهة مباشرة مع خصم واحد فقط، وهو ما من شأنه تبسيط الاختيار أمام الناخبين. وبحسب الدراسات التحليلية التي أجريت، فإنه في 55 دائرة انتخابية منها، ساهم النقل الفعال للأصوات بين الوسطيين واليسار في إعطاء تقدم مريح بأكثر من 25 نقطة للمرشح الذي واجه اليمين المتطرف. وفي 14 دائرة انتخابية، ساهم النقل الفعال للأصوات من المرشح المنسحب في تقدم المرشح المستمر بأقل من 5 نقاط أمام حزب التجمع الوطني.تعقيدات سياسيةتعددت التأثيرات المحتملة لنتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، حيث تم تداول الفرضيات التالية:1– إمكانية التوجه نحو تشكيل حكومة تكنوقراط: تشير المادة 12 من الدستور إلى أنه لا يجوز إجراء حل جديد للبرلمان في السنة التالية للانتخابات من أجل التحكم في عدم الاستقرار البرلماني. ومن ثم فإنه في ظل عدم وجود أغلبية واضحة في البرلمان الفرنسي يمكن انتظار مرور هذه السنة عبر اللجوء إلى تشكيل "حكومة تكنوقراط" ودعمها وعدم إقالتها خلال هذه الفترة.وتعد الكفاءة الاقتصادية من أهم الخصائص التي يجب أن يتمتع بها رؤساء هذا النوع من الحكومات، وتتمثل أجندتها بصورة رئيسية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي، وفي تنفيذ سلسلة من الإصلاحات يكون من الصعب تمريرها في ظل حكومة سياسية تنطلق من أغلبية حزبية. ومن ثم فإنها وسيلة مريحة تستطيع القوى السياسية من خلالها أن تتهرب من المسؤولية المباشرة عن التدابير التي لا تحظى بشعبية، خصوصاً بعد المعاناة التي عرفتها الحكومات الماكرونية في ظل معظم الإصلاحات التي حاولت تحقيقها.2– احتمالية التنازع حول صلاحية قيادة القوات المسلحة: في حال حصول مساكَنة بين ماكرون وأقصى اليمين، فإن خلافاً قد ينشأ حول الجهة المخول لها قيادة القوات المسلحة الفرنسية؛ حيث إن مارين لوبان قد صرحت في 26 يونيو 2024 بأن إسناد مهمة قيادة الجيوش الفرنسية إلى رئيس الجمهورية يأتي من بُعد فخري، وبأن القيادة الفعلية للجيوش يجب أن تُناط برئيس الحكومة.وجاء رد الفعل على هذا التصريح من المعسكر الماكروني بالإدانة الفورية، على اعتبار أنه يضفي حالة من عدم اليقين على قضية حيوية مثل قضية الدفاع التي يمكن أن ينظر إليها الجانب الروسي على أنها نقطة ضعف يمكنه استغلالها. وترى أغلب القراءات الدستورية في فرنسا أن وجود تناقض طفيف بين العديد من المواد الدستورية يحسمه الاحتكام إلى الممارسة الدستورية التي تصبح شكلاً من أشكال العرف. وفيما يتعلق بمسألة قيادة القوات المسلحة، فمنذ السنوات الأولى من عمر الجمهورية الخامسة حتى الآن، بما فيها التعايشات Cohabitations الثلاث المختلفة (بين ميتيران وشيراك، وبين ميتيران وبيلادور، وبين شيراك وجوسبان) كشفت الممارسة أن قضايا الدفاع ترجع إلى رئيس الجمهورية، وبقبول من جميع رؤساء الوزراء (حتى رؤساء وزراء التعايش) الذين لم يبادروا في التشكيك في صلاحية رئيس الجمهورية لديه باستخدام الأسلحة النووية.3– ترجيح تجنب تبني اليمين المتطرف سياسات راديكالية: تَعتبر بعض التحليلات أنه مثلما لم يَعُد اليمين المتطرف في فرنسا يطالب بالخروج من اليورو، ولا من منطقة شنجن، وأنه ما زال يدين علناً على الأقل الغزو الروسي لأوكرانيا ويوافق على تدابير الدعم لكييف؛ فإنه سيستمر في حال استطاع تشكيل حكومة تعايش في دعم سياسة خارجية مؤيدة للغرب ولأوروبا ولحلف شمال الأطلسي، ولكن مع المزيد من المزايدات حول المسائل التي تتعلق بالهوية والهجرة.وتُظهر الاستراتيجية التي يتبعها اليمين المتطرف في فرنسا القائمة على السيطرة على أصوات ناخبي اليمين الذين يشعرون بالارتياح لمبادئ الليبرالية التجارية والمعاهدات الأوروبية؛ أنه لن يقوم بمواقف متطرفة في شأن السياسة الخارجية، وخاصةً في المجالين الأوروبي والأطلسي. وترى بعض الآراء أنه وفقاً للطبيعة البرجماتية لتطور مواقف التجمع الوطني فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإنه سيتبع الطريقة نفسها في الحكم التي تتبعها حكومة أوربان في المجر أو ميلوني في إيطاليا.4– استمرار هجوم اليمين المتطرف على سياسات ماكرون: من المرجح أن يواصل اليمين المتطرف هجومه على سياسات ماكرون، ولعل هذا ما اتضح من تصريحات زعيمة اليمين المتطرف "مارين لوبان" تعليقاً على نتائج الانتخابات، يوم 7 يوليو 2024، حينما ذكرت أن "نصرنا مؤجل فقط"، وأشارت إلى أن "المد يستمر بالصعود". واعتبرت "لوبان" أن "ماكرون وسياساته هي التي تسببت فيما وصلت إليه فرنسا بتقدم اليسار المتطرف".5– البقاء على فرص تشكيل حكومة ائتلاف كبير: ففي حالة قيام حكومة ائتلاف كبير Grande Coalition من القوى الوسطية (حزب النهضة، والحزب الاشتراكي والبيئيين، وحزب الجمهوريين) من دون ضم حزب فرنسا غير الخاضعة والتجمع الوطني، فإن من المرجح أن يتم تكريس فكرة الطابع غير المسيس للسياسة الخارجية الفرنسية والسير بالعرف الدستوري الذي يقول إنها ستكون جزءاً من المجال المحفوظ لرئيس الجمهورية بحيث سيتم وضعها خارج الحسابات الانتخابية. والطابع غير المسيس لهذه السياسة هو الذي كان يسمح باستمراريتها بين مختلف الرؤساء؛ بدءاً من شارل ديجول (يمين)، وصولاً إلى إيمانويل ماكرون (وسط)، ومروراً بفرانسوا ميتران وفرنسوا هولاند (يسار). وهذا الطابع هو الذي يصفه وزير الخارجية الفرنسية الأسبق هوبرت فيدرين بأنه إجماع "غولو–ميتراني"؛ أي سياسة خارجية فرنسية يتقاسمها كل من اليمين المعتدل واليسار الاشتراكي، وهو توجه أوروبي منفتح على دول الجنوب ويحترم القانون الدولي.6– احتمالية تصاعد الخلافات داخل اليسار حول المرشح لرئاسة الحكومة: وفقاً للنتائج الأولية المعلنة، على الرغم من أن اليسار طالب بأن تترأس شخصية منه تشكيل الحكومة، جرياً على عادة تم اتباعها خلال الجمهورية الخامسة بتكليف الحزب الذي حل في المرتبة الأولى، فإن اليسار غير متفق حتى هذه اللحظة على اسم هذه الشخصية. وفي حين يقول مؤيدو جان لون مولونشون إن الحزب الذي يأتي في المقدمة في جبهة اليسار يجب أن يمتلك حق هذه التسمية، يطرح قادة أحزاب اليسار الآخرون أنه يجب اختيار هذه الشخصية عبر اللجوء إلى التصويت بين كل نواب اليسار. وفي كل الأحوال فإن الرئيس الحالي للحكومة جابرييل أتال كان قد أعلن فور صدور النتائج أنه عازم على تقديم استقالته في اليوم التالي لماكرون الذي أعلنت مصادره أنه لن يعلق على النتائج في يوم صدورها.في الخلاصة، يمكن القول إن جوردان بارديلا لن يصل إلى ماتينيون نتيجةً لهذه الانتخابات، بل إن الأقرب لذلك ستكون شخصية يختارها اليسار، وستكون صيغة الحكم المنبثقة عنها حكومة تعايش مع رئيس الجمهورية أو عن طريق حكومة ائتلاف كبير. ويقول بعض المحللين إن النظام الانتخابي الفرنسي المتبع حالياً والقائم على دورتين، أثبت أنه السلاح الفعال لمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا. وعلى الرغم من تبلور ثلاث جبهات كبرى داخل البرلمان الفرنسي (يسار، ويمين متطرف، ووسط)، لا تمتلك أي منها الأغلبية المطلقة، فإن الحل الأمثل لتشكيل حكومة، في وجهة نظر البعض، تكمن في التشبه بالنظام السياسي الألماني من حيث قيام تحالفات بين مكونات من داخل الجبهات لتشكيل ائتلافات حكومية.

ما الذي كشفت عنه نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية؟