عقب الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا شهر فبراير الماضي، سارعت العديد من الدول – ومنها الهند – إلى الإعلان عن مشاركتها في عمليات الإنقاذ ودعم الدولة التركية في أزمتها غير المسبوقة. ودشنت الحكومة الهندية عملية "دوست" أو "صديق" باللغة الهندية، للمشاركة في جهود الإغاثة ومساعدة ضحايا زلزال سوريا وتركيا؛ حيث ضمَّت العملية فرق إنقاذ ومسعفين وكلاباً مدربة، بالإضافة إلى إنشاء مستشفيات ميدانية، وإرسال فرق طبية عسكرية لتقديم المساعدة الإنسانية لآلاف من ضحايا الزلزال.

ومع ذلك، وفي غضون أقل من شهرين من هذه العملية، أثارت الحكومة التركية، خلال شهر مارس 2023، قضية كشمير مجدداً في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وأعلنت عن دعمها للقضية؛ ما أثار حفيظة الهند التي انتقدت هذه التصريحات، وطالبت تركيا بالامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية، كما انتقدت الحكومة الهندية منظمة التعاون الإسلامي وبيانها الصادر حول انتهاكات حقوق الإنسان في الهند في منطقتَي "جامو وكشمير".

توترات ملحوظة

خلال انعقاد جلسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، رفعت منظمة التعاون الإسلامي تقريراً إلى المجلس تطالب فيه بالوقوف ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها عدد من الحكومات ضد الأقليات المسلمة، وقد كانت الحكومة الهندية على رأس المتهمين بتبنِّي ممارسات منافية لأسس حقوق الإنسان في منطقة كشمير. وأشار نائب وزير الخارجية التركي "محمد كمال بوزاي"، خلال البيان الذي ألقاه أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في شهر مارس 2023، إلى شجب ورفض الحكومة التركية جميع الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان في عدد من الدول والمناطق، وقد جاءت كشمير على رأس القائمة التي تعرَّض لها الوزير التركي، وهو ما أثار حفيظة الحكومة الهندية. وفي هذا الصدد، يمكن تناول التوترات بين الدولتَين من خلال ما يلي:

1– انتقادات رسمية هندية للموقف التركي: وصف بعض المحللين الهنود موقف تركيا من قضية كشمير بأنه طعنة مباغتة، بعد أن ساندت الهند الحكومة التركية في محنتها الأخيرة. وقد أعربت ممثلة الهند في الأمم المتحدة "سيما بوجانا" عن أسفها، ونصحت تركيا بالامتناع عن العبث والتدخل في شؤون الهند الداخلية، وأضافت أنه "من المؤسف أن نرى تركيا تتحدث مجدداً عن هذا الأمر، خصوصاً بعد أن أظهرت أمتنا تضامناً إنسانياً غير مسبوق مع الشعب والحكومة التركية، في أعقاب الزلزال الهائل الذي دمَّر جنوب البلاد؛ فعلى الرغم من عدم توافق الهند وتركيا حول العديد من قضايا السياسة الخارجية، فإن الهند قد نحَّت هذه الخلافات الدبلوماسية جانباً، وسارعت بالمشاركة في جهود الإنقاذ".

2– تدشين حملات مناهِضة لتركيا عبر وسائل التواصل الهندية: لم تقتصر التوترات بين الدولتين على المستوى الرسمي؛ إذ عبَّر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في الهند عن غضبهم من التحرك التركي؛ حيث تصدَّر وسم "Turkey not dost" أو "تركيا ليست بصديق" سلم التغريدات بموقع تويتر، كما أكد أغلب المغردين انزعاجهم مما سمَّوها خيانة تركيا للهند، ودعمها غير المحدود لباكستان في قضية جامو وكشمير.

3– اتهام أنقرة باستخدام القضية الكشميرية لأغراض سياسية داخلية: اللافت أن الانتقادات التي وُجِّهت إلى أنقرة، روَّجت لتوظيف أنقرة قضية كشمير من أجل خدمة أهداف سياسية داخلية؛ فعلى سبيل المثال، أصدرت وزارة الخارجية الهندية بياناً يدين موقف تركيا من قضية كشمير، مدعيةً أنه "غير مقبول تماماً"، وأن تركيا ليس لها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية للهند، كما اتهم بيان الهند تركيا باستخدام قضية كشمير لإلهاء الرأي العام التركي عن الأزمات الداخلية المتنوعة التي تمر بها الدولة التركية تحت قيادة الحكومة الحالية، خاصةً مع اقتراب عقد الانتخابات الرئاسية التركية.

4– انتقاد تركي لرد الفعل الهندي: في مقابل رد الفعل الهندي الحاد تجاه طرح تركيا قضيةَ كشمير، انتقدت عدد من الصحف الغربية والتركية النهج الذي تتبعه السياسة الهندية الخارجية في التعاطي مع أي انتقادات خارجية لسياستها المحلية، كما اتهمت بعض الصحف الأخرى رد الفعل الهندي تُجاه تصريحات البعثة التركية في مجلس حقوق الإنسان بخصوص كشمير، بالعنيف وغير الديمقراطي والمُهِين والمُبالِغ.

5– رفض أنقرة ترويج البعض لتوظيفها قضية كشمير: رفضت أنقرة ترويج البعض بأنها توظف قضية كشمير لخدمة أهداف سياسية داخلية، واعتبرت أن بيان نائب وزير الخارجية التركي "محمد كمال بوزاي" في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لم يركز على قضية جامو وكشمير، لكنه تطرق إلى القضية ضمن مجموعة من القضايا المختلفة؛ حيث قال "بوزاي" إن القضية يجب حلها وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي؛ وذلك عقب طرح منظمة التعاون الإسلامي القضية أمام المجلس، كما شكر العالم على الدعم غير المحدود الذي تلقَّته تركيا خلال أزمة الزلزال الأخيرة، وأضاف أن تركيا ستُواصِل العمل مع مجلس حقوق الإنسان لحماية وتعزيز حقوق الإنسان في العالم أجمع.

وأعرب "بوزاي" أيضاً عن التزام تركيا بوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها، والدولة الفلسطينية المُتنازَع عليها وشبه جزيرة القرم، ودعا دول العالم إلى حماية المهاجرين واللاجئين في سوريا وأفغانستان والبحر الأبيض المتوسط؛ ولذلك يمكن القول إن حديث وزير الخارجية التركي عن كشمير، كان بمنزلة تصريحات عرضية تأتي في إطار الحديث عن حقوق الإنسان والأزمات العالمية المرتبطة بهذا الملف، وإن ما يُنشَر عن إعادة أنقرة تسليط الضوء العالمي على ملف كشمير لتحقيق أهداف سياسية مرتبطة بالنظام الحاكم، ما هي إلا "روايات مضللة، تسعى وسائل الإعلام والحكومة الهندية إلى الترويج لها بصورة غير عادلة".

توابع متباينة

يُثير التوتر الدبلوماسي بين الهند وتركيا تساؤلات رئيسية حول مستقبل العلاقات بين الدولتين. وفي هذا الصدد، لا يُرجَّح أن تؤدي التوترات الراهنة إلى القطيعة أو التصعيد الحاد بين الدولتين. وبوجه عام، يمكن تناول مستقبل العلاقات بين الدولتَين على النحو التالي:

1– استمرار التركيز التركي على قضية كشمير: ليس من المرجح أن تتراجع أنقرة عن استخدام قضية كشمير في تعزيز صورتها الخارجية، وخاصةً في أوساط المجتمعات الإسلامية؛ إذ تعد تركيا من الدول التي دعمت الموقف الباكستاني ضد الهند بشأن النزاع حول كشمير. وقد انتقدت الحكومة التركية ما سمتها انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها القوات الهندية ضد المواطنين المسلمين في المنطقة، حتى إنها انخرطت في دعاية دولية مناهضة لنيودلهي خلال السنوات الماضية، كما ألقى الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" خطاباً داعماً للموقف الباكستاني بشأن كشمير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر 2019. وقد ساهم هذا الخطاب في إعادة تسليط الضوء على الأزمة الكشميرية من جديد، في ظل تراجع الاهتمام العالمي بهذه القضية، وارتضاء الأطراف المنخرطة بها على إبقاء الوضع على ما هو عليه دون أي تغيير.

وعاد الرئيس التركي مرةً أخرى للحديث عن كشمير خلال خطاب ألقاه أمام جلسة مشتركة للبرلمان الباكستاني في فبراير 2020، ليُعرِب عن دعمه لباكستان في موقفها من كشمير، مدعياً أن قضية كشمير لا يمكن حلُّها بالقمع أو الصراع، بل بالعدل والإنصاف. وقد أعربت الهند وقتها أيضاً عن استيائها من موقف الرئيس التركي، ونصحته بعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

2– احتمالية الدخول في شراكات استراتيجية متضادة: قد تسعى الهند بقدر أكبر إلى تعزيز علاقاتها الثنائية مع اليونان ورومانيا اللتين تربطهما علاقات عدائية مع تركيا؛ وذلك لتقديم ضربة مزدوجة للأخيرة؛ ففي الوقت الذي كانت تكافح فيه أرمينيا لإدارة تصاعد العنف مع أذربيجان، قررت الهند تصدير الصواريخ والذخيرة إلى يريفان، بما في ذلك قاذفات صواريخ "بيناكا" المحلية المتعددة الأسطوانات، عقب توقيع البلدين على اتفاقيات ثنائية لبيع الأسلحة والذخيرة إلى أرمينيا، التي أصبحت أول زبون دولي لصواريخ بيناكا الهندية.

وعلى جانب آخر، تزود تركيا جيش أذربيجان باعتباره حليفاً تقليدياً بأسلحة فتاكة، يأتي على رأسها الطائرات بدون طيار، التي تأتي طائرات "بيرقدار" التركية على رأسها؛ ولذلك فإن من المتوقع أن تعمل الهند على تزويد أرمينيا بالمزيد من الأسلحة، رداً على تحركات أذربيجان وتركيا ضد أرمينيا. ولا تعمل الهند على تعزيز علاقاتها مع أرمينيا فحسب، بل وطدت شراكتها وتعاونها الاستراتيجي أيضاً مع اليونان، التي تنخرط مع تركيا في نزاع إقليمي حدودي قديم الأزل. ومن المرجح أن تنجح اليونان في إقناع الهند بدخول الطرفين في شراكة استراتيجية أمنية موسعة، يكون للدولتين بموجبها الحق في عقد تدريبات وتجارب عسكرية مشتركة، بما يوازن حجم التعاون والتنسيق الاستراتيجي الأمني القائم حالياً بين باكستان وتركيا.

3– أهمية العلاقات الاقتصادية بين الدولتين: تظل العلاقات الاقتصادية بين أنقرة ونيودلهي محدداً هاماً في مستقبل العلاقات بين الدولتين؛ فخلال السنوات الأخيرة شهدت العلاقات بينهما تطوراً ملحوظاً؛ فعلى سبيل المثال، تجاوزت التجارة بين الدولتين 10.70 مليار دولار في السنة المالية 2021–2022. وبحسب التقديرات الهندية، تحتل تركيا المرتبة الـ46 في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوافدة إلى الهند بقيمة استثمار أجنبي مباشر تراكمي قدره 216.11 مليون دولار أمريكي من أبريل 2000 إلى سبتمبر 2022، كما تخطط الدولتان – بحسب تصريحات للسفير الهندي لدى أنقرة في شهر ديسمبر الماضي – للوصول إلى حجم تجارة ثنائية يتجاوز 20 مليار دولار في السنوات المقبلة.

وفي هذا الصدد، ليس من المُرجَّح أن يؤدي التوتر الدبلوماسي الأخير بشأن كشمير إلى تحجيم مسار التطور الاقتصادي بين الدولتين، وخاصةً أن الشركات الهندية تنظر إلى تركيا باعتبارها قاعدة للقيام بأعمال تجارية مع الأسواق في أوروبا وآسيا الوسطى ومنطقة البحر الأسود، بجانب توسيع الوصول إلى الشرق الأوسط، كما أن الشركات التركية تستفيد من الوجود في الهند باعتبارها موقعاً مهماً لدخول الأسواق الآسيوية، كما تستفيد هذه الشركات من الطموحات التصنيعية في الهند بجانب المشاركة في مشاريع البنية التحتية واللوجستيات في البلاد.

4– اهتمام الدولتين ببعض الملفات الإقليمية: لا تزال هناك بعض الملفات التي تسترعي انتباه الدولتين وتدفعهما إلى استمرار التواصل بينهما؛ فالدولتان لديهما اهتمام مشترك بما يجري في أفغانستان، في ظل سيطرة طالبان على مقاليد الحكم، كما أن العلاقات بين تركيا وباكستان قد تعطي الهند فرصة لإيصال رسائلها إلى إسلام أباد عبر أنقرة. وربما تشكل تركيا أيضاً مدخلاً مهماً لتطوير الانخراط الهندي في منطقة الشرق الأوسط.

5– تزايد طموحات الهند على المستوى الدولي: تتولى الهند رئاسة مجموعة العشرين التي تعتبر تركيا عضواً بارزاً فيها، وهي فرصة مهمة لإثبات إمكاناتها والتزامها بالشؤون العالمية في الساحة الاقتصادية. وقد توسعت بصمة الهند العالمية في ظل السياسة الخارجية التي انتهجها رئيس الوزراء "ناريندرا مودي"؛ حيث شملت مشاركة الهند في العديد من المنتديات المتعددة الأطراف، والتبادلات الثنائية. كما أنها لديها الفرصة للعب دور مهم في تعزيز الهيكل العالمي والحوكمة في القضايا الاقتصادية الدولية الرئيسية. وفي ظل حالة الاضطراب العالمية السائدة، تتمتع الهند بوضع جيد للتعامل مع التحدي المتمثل في الجمع بين الجهات الفاعلة الدولية معاً. وتسعى الهند إلى استغلال سلاح الدبلوماسية الخاص بها لتحقيق هذا الهدف. وتمثل رئاسة الهند للدورة الحالية من مجموعة العشرين فرصة هامة لتحقيق هذه الغاية. وبالرغم من الاختلافات والصراعات الجيوسياسية الكبرى بين الدول الأعضاء، نجحت الهند إلى حد ما بصفتها مستضيفة الدورة الحالية من اجتماعات المجموعة، في جعل وزراء خارجية هذه الدول يتوصَّلون إلى وثيقة النتائج التي تناقش قضايا أوسع من الناحية الاقتصادية؛ حيث أجمع 95% من الأعضاء على القضايا التي طُرحَت في الاجتماع، باستثناء فقرتين تتعلقان بالنزاع الروسي الأوكراني.

وبالنظر إلى الدور الحالي الذي تلعبه الهند في رئاسة مجموعة العشرين، فإن من الصعب تصوُّر إقدام أنقرة ونيودلهي على قطع قنوات الحوار فيما بينهما بفعل قضية كشمير. ولكن من المرجح أن تضغط الهند لدفع القيادة التركية إلى عدم الإقدام على طرح هذه القضية بصورة موسعة في المحافل الدولية، وهو الأمر الذي يتوقع ألَّا تلتزم به تركيا ما استمرت حكومة "العدالة والتنمية" على رأس السلطة في أنقرة.

خلاصة القول: ليس من المرجح أن يؤدي التوتر الدبلوماسي الأخير بين الهند وتركيا إلى تصعيد حاد في العلاقات بين الدولتين؛ فالأمر سيظل محصوراً في إطار المشاحنات الدبلوماسية المحدودة؛ نظراً إلى أن هناك مصالح مشتركة بين الدولتين – سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي – لن يتم التضحية بها. ومع ذلك، قد تسعى كلتا الدولتين إلى تبني سياسات قد لا تتسق بالضرورة مع مصالح الأخرى؛ فأنقرة ستواصل استخدام قضية كشمير لدعم صورتها على الساحة الدولية، علاوةً على مواصلة تعزيز علاقاتها بباكستان، كما أن نيودلهي ستستمر في تطوير علاقاتها الثنائية باليونان ورومانيا اللتين تربطهما علاقات عدائية مع تركيا.

أبعاد التوترات الدبلوماسية الأخيرة بين الهند وتركيا