في الوقت الذي كانت فيه أغلب القراءات تتوقع نهاية الماكرونية مع الإعلان عن نتائج الانتخابات الأوروبية، فاجأ إيمانويل ماكرون الجميع باستخدامه "السلاح النووي الدستوري" الذي يمتلكه، على حد وصف صحفية لوفيجارو الفرنسية، المتمثل في حل الجمعية العامة والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة في 30 يونيو و7 يوليو 2024. ومجدداࣧ انقسمت الآراء حول هذه الخطوة؛ فالبعض رأى فيها شعوراࣧ بالمسؤولية من قبل ماكرون بعد خسارته المدوية في الانتخابات الأوروبية، والبعض الآخر رأى فيها مناورة للتغطية على فوز حزب التجمع الوطني؛ حيث أتى الإعلان عنها بعد ساعة واحدة تقريباً من ظهور النتائج، فيما اعتبرها آخرون بمنزلة تسليم البلاد للفوضى؛ حيث إنها قد تؤدي الى وصول أقصى اليمين إلى السلطة.

دوافع رئيسية

يمكن الإشارة إلى الدوافع الكامنة وراء هذا القرار عبر النقاط التالية:

1- إخفاق معسكر ماكرون في الانتخابات الأوروبية: برر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القرار الذي اتخذه بحل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة مباشرة بعد إعلان الفوز التاريخي لحزب التجمع الوطني في الانتخابات الأوروبية، بأنه لا يستطيع بصفته رئيساً للجمهورية في نهاية هذا اليوم التصرف كأن شيئاࣧ لم يحدث. ولقد أدت نتائج التصويت الأوروبي إلى وصول حزب التجمع الوطني إلى مستويات لم يصل إليها من قبل؛ حيث حصل الحزب المحسوب على تيار أقصى اليمين على 31.4%، في حين مُنيت اللائحة المحسوبة على المعسكر الرئاسي بهزيمة قاسية مع حصولها على نصف أصوات حزب التجمع الوطني (14.6% من الأصوات).

ويُظهر ارتفاع نسبة التصويت في الانتخابات الأوروبية مدى تزايد اهتمام الفرنسيين بهذه الانتخابات؛ حيث بلغت نسبة المشاركة في انتخابات 2014 نحو 42.43% بزيادة 1.8 نقطة عن انتخابات عام 2009، وبلغت في عام 2019 ما نسبته 50.12%. أما انتخابات عام 2024 فبلغت نحو 51.49%.

2- تزايد أهمية الاقتراع الأوروبي في المشهد السياسي الفرنسي: يبدو من خلال تزايد نسب المشاركة أن الاقتراع في الانتخابات الأوروبية أصبح له وزن متزايد في الحياة السياسية الفرنسية، كما تعتبر بعض القراءات أن معارضي ماكرون نجحوا في تحويل الاقتراع الأوروبي الأخير إلى استفتاء لمناهضة ماكرون. وفي مؤشر على تزايد هذا الاهتمام، شهدت الأيام الأخيرة التي سبقت الانتخابات الأوروبية إجراء مناظرة متلفزة بين رئيس لائحة أقصى اليمين جوردان بارديلا ورئيس الوزراء الفرنسي جابرييل أتال، كما تم اقتراح تنظيم مناظرة بين ماكرون ومارين لوبان من ماكرون نفسه، ولكن لوبان اشترطت للمشاركة وضع ماكرون قرار حل الجمعية العامة أو استقالته على الطاولة في حال خسارة لائحته. وهذه المناظرات تذكر الفرنسيين بأجواء الانتخابات الرئاسية؛ حيث عادةً كانت تجري بين المرشحين الرئاسيين النهائيين قبل تاريخ حصول الدورة الثانية من التصويت.

3- محاولة لإعادة ترميم صورة ماكرون السياسية: كان السياق السياسي في ولاية ماكرون الثانية التي بدأت في يونيو 2022 شائكاࣧ في ظل وجود حكومة أقلية، خصوصاࣧ مع استنزاف التسهيلات الدستورية، كاستخدام المادة 49.3 التي تم اللجوء إليها في العديد من الحالات وكان أكثرها إشكاليةً تمرير إصلاح نظام التقاعد في 16 مارس 2023 الذي اعتبرته شريحة كبيرة من الفرنسيين إجراء غير ديمقراطي.

هذا بالإضافة إلى أن تزايد عدد الكتل النيابية داخل البرلمان الفرنسي التي بلغ عددها عشرة – وهو أمر استثنائي في تاريخ الجمهورية الخامسة – جعل من الصعب الحصول على أغلبية ثابتة للتصويت على بعض النصوص القانونية. ويبدو أن ماكرون قد اقتنع أن أسلوب المناورة التي لجأ إليها خلال عامين، عبر محاولة إغراء جزء من اليمين تارة وجزء من اليسار تارة أخرى على مواضيع ذات أهمية كبرى، كإقرار الموازنة والهجرة، جرى استنفادها وأثبتت أنها تؤدي إلى خسارة من حيث الشعبية.

ومن ثم فإنه يمكن النظر إلى قرار حل الجمعية العامة من قبل ماكرون على أنه قرار سياسي من أجل إعادة تشكيل عملية سن القوانين والحكم، على أمل تنظيم الفترة المتبقية من الولاية الرئاسية الثانية والأخيرة لماكرون. وترى العديد من القراءات أن هذا القرار هو بمنزلة مقامرة؛ حيث إنه تم حل الجمعية الوطنية في الوقت الذي أصبحت فيه القاعدة الانتخابية للماكرونية أضعف من أي وقت مضى.

4- إثارة مخاوف الرأي العام من الصعود اليميني: ركز ماكرون، خلال خطابه الذي أعلن فيه حل الجمعية العامة، على فكرة أن صعود القوميين والديماغوجيين أصبح يشكل خطراً على الأمة، داعياࣧ الفرنسيين إلى لحظة من الوضوح السياسي، بما أن اليمين المتطرف أصبح على أبواب السلطة. وترى بعض الآراء أن ماكرون يلجأ إلى تطبيق سياسة "أنا أو الفوضى"، التي استخدمها مراراࣧ أمام "لوبان" (في 2017 و2022) ولكن هذه المرة بنسخة صيف 2024؛ حيث سيحاول الاستفادة من انقسام اليسار للترويج لمبدأ "التصويت المفيد" Vote Utile ولإعادة التعويل على ترميم مبدأ "الجبهة الجمهورية"، وهو تقليد انتخابي فرنسي كانت القوى السياسية المناهضة لليمين المتطرف تمارسه من أجل منع فوز مرشحيه عبر دعوة ناخبيهم إلى التصويت لصالح أحد منافسيه أياࣧ كان انتماؤه السياسي.

وكان هذا المبدأ قد تآكل في الانتخابات التشريعية عام 2022 حين ساوى ماكرون حينها بين مرشحي أقصى اليمين ومرشحي أقصى اليسار من حيث الخطورة على فرنسا؛ ما أدى إلى تصدع هذا المبدأ ونجاح كتلة نيابية غير مسبوقة من حزب التجمع الوطني بلغت 89 نائباً. وفي هذا السياق أعلن وزير الداخلية جيرالد دارمانين أن الماكرونية هي البديل الوحيد الممكن للتجمع الوطني.

5- مساعي ماكرون لإرباك خصومه السياسيين: تعتبر بعض التحليلات أن قرار التسريع بالدخول في حملة انتخابية جديدة وتحديد موعد انتخابي قريب زمنياࣧ ستجعل ماكرون سيد اللعبة، وأن ماكرون استهدف من القرار إرباك جميع خصومه، ودفع مؤيديه داخل حزب النهضة Renaissance والحركة الديموقراطيةMODEM والآفاق HORIZONS إلى تقديم أقصى ما عندهم من طاقات واختبار مدى ولائهم لماكرون، خصوصاࣧ بعد عدة محطات أبعدت الكثيرين منهم عنه، أبرزها الأزمة السياسية التي ولَّدها التصويت على مشروع قانون الهجرة مع نواب اليمين المتطرف. وكان لافتاࣧ في هذا السياق ما أعلنه الأمين العام لحزب النهضة (ووزير الخارجية) ستيفان سيجورني من أن المعسكر الماكروني سيمنح الترشيح للنواب المنتهية ولايتهم بمن فيهم نواب المعارضة إذا كانوا راغبين في الاستثمار في مشروع سياسي ضمن المجال الجمهوري الذي تدافع عنه الماكرونية.

6- احتكام الرئيس الفرنسي إلى الشعب: حاول ماكرون رسم صورة أمام الرأي العام الفرنسي بأنه الزعيم السياسي الوحيد في فرنسا الذي لا يهتم بأي مصلحة شخصية له؛ لأنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية لعام 2027، وأنه ملتزم فقط بإعطاء الصوت للشعب من أجل تقرير مستقبل البلاد والإجابة على سؤال إذا ما كان هذا الشعب يريد رؤية فرنسا تُحكَم من قبل حزب التجمع الوطني، ويكون بذلك قد قام باتباع التقليد الديجولي لإيجاد الحلول عن طريق إنشاء رابط مباشر بينه وبين شرائح الشعب غير المنضوية داخل الأحزاب، التي تكره الانقسامات التي تؤدي إلى شل مؤسسات الدولة. وتعتبر بعض الآراء أن ماكرون أراد إطلاق حملة خاطفة لإعادة الشرعية إلى نفسه على الرغم من أن هذه الحملة قد يكون لها عواقب وخيمة على مستقبل البلاد.

استراتيجيات متباينة

ستكون القوى السياسية الفرنسية أمام تحديات رئيسية في مسألة التعامل مع الانتخابات المبكرة. وهي التحديات التي نشير إلى أبرزها بالتالي:

1- حاجة حزب النهضة إلى إعادة بناء نفوذه السياسي: التحدي الأكبر أمام المعسكر الماكروني يتمثل في كيفية إعادة صياغة صورته، خصوصاࣧ أن هذا المعسكر عرف تحولات كبيرة منذ نشأته من 7 سنوات لم يسبق أن عرفها حزب سياسي فرنسي؛ حيث حصل في الانتخابات التشريعية عام 2017 على أكبر أغلبية رئاسية في عهد الجمهورية الخامسة، ثم تحول إلى أغلبية نسبية في الانتخابات التشريعية عام 2022، ومن غير المستبعد أن يتحول في الانتخابات التشريعية المبكرة عام 2024 إلى حزب معارض حتى نهاية ولاية ماكرون في عام 2027.

2- تفاقم معضلة التحالفات السياسية لحزب النهضة: تقترح بعض الأوساط، كالرئيس السابق نيكولا ساركوزي، على حزب النهضة إبرام تحالف مع حزب الجمهوريين يكون كفيلاࣧ بتأمين أغلبية مطلقة مستقرة تمتد إلى نهاية عهد ماكرون. وترى أوساط أخرى أنه بإمكان الجناح الأكثر يمينيةً في المعسكر الرئاسي – أي حزب آفاق Horizons الذي يترأسه رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب – العمل على جذب ناخبي اليمين من دون إبرام اتفاق مباشر مع قيادة الجمهوريين، ولكن من شأن هذه الاستراتيجية إبعاد الناخبين اليساريين المقربين من ماكرون.

في حين ترى آراء أخرى أنه يجب العودة إلى إحياء الانقسام المصطنع الذي سيطر على فترة ولاية إيمانويل ماكرون الأولى بين "التقدميين" و"الشعبويين". ويبدو أن ماكرون يعكف على بلورة برنامج انتخابي جديد قائم على توسيع قاعدته السياسية من أجل مواجهة التجمع الوطني، ويكون الهدف أيضاࣧ منه معالجة مشكلة الامتناع القوي عن التصويت.

3- تحدي إدارة حزب التجمع الوطني العلاقات مع القوى المنافسة: يجري الحديث عن استطلاع رأي سري تم إجراؤه في ديسمبر 2023 وتكشف نتائجه عن حصول حزب التجمع الوطني على الأغلبية في حالة إجراء انتخابات تشريعية مبكرة (من 243 إلى 305 مقاعد)، وانطلاقاࣧ من ذلك يمكن تفسير تصريح مارين لوبان عشية إعلان ماكرون حل الجمعية العامة بأن حزبها مستعد لحكم فرنسا. ولكن تبقى القضية الأكثر أهميةً بالنسبة إلى التجمع الوطني، في نظر البعض، هي كيفية تأمين الاستقرار السياسي لحكومة من اليمين المتطرف في فرنسا في ظل معارضة الأركان الثلاثة المتبقية من المعادلة السياسية الفرنسية وهي: اليسار واليمين التقليديان، والوسطية الماكرونية.

في حين يرى آخرون أن سيناريو استيلاء التجمع الوطني على ماتينيون في 2024 هو مقدمة لسيناريو استيلائه على الإليزيه في 2027. وتشير بعض التحليلات إلى أنه حتى في حالة فوز حزب التجمع الوطني في الانتخابات المبكرة فإن ماكرون لا يعتزم الاستقالة، وأن دوره حينها سيتغير ولكن ليس مواقفه، في استعادة للمساكنة Cohabitation التي جرت سابقاࣧ بين ميتران وشيراك وبين شيراك وجوسبان.

4- استمرار الخلافات داخل جبهة اليسار: ستعمل هذه الانتخابات المبكرة على تحديد توازن القوى الجديد داخل جبهة قوى اليسار المعروفة تحت مسمى NUPES، خصوصاࣧ مع العودة القوية التي سجلها الحزب الاشتراكي الذي حل ثالثاࣧ في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، حاصلاࣧ على 13.8% من الأصوات (سجلت مرشحته للانتخابات الرئاسية 2022 نتيجة هزيلة بلغت 1.75%) وتفوقه على لائحة زعيم هذه الجبهة جان لوك مولونشون (حزب فرنسا غير الخاضعة) التي حلت في المركز الرابع بحصولها على نحو 9.89%. وفور إعلان حل الجمعية العامة طالبت بعض الشخصيات في اليسار بمشاركة كل قوى اليسار في قائمة مشتركة في الانتخابات المبكرة. وصحيح أن مختلق قوى اليسار تمثل مجتمعة نحو 30% من الناخبين الفرنسين، ولكن يبقى حسم مرشح هذه الجبهة لرئاسة الحكومة والبرنامج الموحد الذي ستُخاض الانتخابات على أساسه، مسألتين خلافيتين؛ حيث تسجل اعتراضات على الاصطفاف وراء جان لوك مولونشون كما في عام 2022.

5- إشكالية تحديد الجمهوريين اصطفافهم السياسي: إن التحدي المحوري الذي يواجه حزب الجمهوريين، بعد أن حقق أسوأ نتيجة له في الانتخابات الأوروبية (7.25% من الأصوات)، يتمثل في الاختيار بين التوافق مع ماكرون وقبول اليد الممدودة من قبل رئيس حزبه سيجورنيه، أم الاستسلام لإغراء التحالف مع حزب التجمع الوطني، خصوصاࣧ أن فوزه في الانتخابات ليس خياراࣧ مستبعداࣧ. وكان أغلب قادة هذا الحزب وبعد ظهور نتائج الانتخابات الأوروبية قد تبنوا خطاباࣧ موحداࣧ على وسائل الإعلام الفرنسية حول نهاية الماكرونية، وأن على الملتحقين بركبها من قبل اليمينيين السابقين التخلي عنها والعودة إلى اليمين قبل فوات الأوان، قبل أن يفاجئهم إعلان ماكرون عن حل الجمعية العامة والتحضير لانتخابات مبكرة.

ختاماً، يمكن القول إنه لنجاح الرهان الذي يعول عليه ماكرون، عبر خطوة حل الجمعية العامة والدعوة إلى انتخابات مبكرة، يجب إعادة إحياء الجبهة الجمهورية للاستفادة من أصوات ناخبي اليسار في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، واختيار برنامج استقطابي لجذب الممتنعين عن التصويت، وكذلك دفع زعيمة التجمع الوطني مارين لوبان إلى مواجهة مباشرة معه عبر إجراء مناظرة علنية بينهما. ولكن يبقى التحدي الأكبر هو ألا تُفرز هذه الانتخابات المبكرة أغلبية مطلقة لأي طرف، في استعادة لسيناريو انتخابات عام 2022 التشريعية.

ما أبعاد حل الجمعية الوطنية في فرنسا؟