عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

شهدت منطقة القوقاز تنافساً متصاعداً بين عدد من الفاعلين؛ نظراً إلى ما تمثله المنطقة من أهمية استراتيجية؛ ففي الوقت الذي سعت فيه عدد من الأطراف الغربية نحو توسيع حضورها في المنطقة، وخصوصاً في ظل الصراع التاريخي بين أرمينيا وأذربيجان، حاولت روسيا تأكيد حضورها في هذه المنطقة التي تعتبر امتداداً لنفوذها التاريخي، ولكنها باتت تعاني من انعكاسات الحرب الأوكرانية وانشغالها بالحرب الذي جعلها تتراجع بشكل ما عن تفاعلات المنطقة، حتى إن أرمينيا أصبحت تنظر إلى موسكو كحليف غير موثوق فيه.

وفي ضوء ذلك، نشر موقع فورين أفيرز مقالاً بعنوان "لعبة بوتين الخفية في جنوب القوقاز"، بقلم توماس دي وال الزميل الأقدم في مركز كارنيجي–أوروبا؛ إذ يسعى المقال إلى تقييم دور موسكو ونفوذها في المنطقة وتأثيرها على الديناميات الإقليمية، لا سيما بالنسبة إلى أذربيجان وأرمينيا وجورجيا؛ وذلك في ضوء التحولات الجديدة في المشهد السياسي، خاصةً في إقليم ناجورنو كاراباخ، وكذلك الحرب الأوكرانية.

تحركات استراتيجية

على مدار السنوات الأخيرة، عملت موسكو على تعزيز حضورها في منقطة جنوب القوقاز ومواجهة التحركات الغربية المناهضة لها. وبوجه عام، يمكن تناول أهم ملامح السياسة الروسية في القوقاز من خلال ما يلي:

1– المساهمة في دعم النفوذ الإقليمي لأذربيجان: وفقاً للمقال، فإن الرحيل الروسي عن ناجورنو كاراباخ عزز تحول السلطة الذي بدأ في أواخر سبتمبر 2023، عندما استولت أذربيجان على المنطقة، وأجبرت نحو 100 ألف أرميني من كاراباخ على النزوح؛ فقد برزت أذربيجان بصفتها لاعباً قوياً؛ حيث تتمتع بموارد كبيرة من النفط والغاز، وجيش قوي، وعلاقات مربحة مع كل من روسيا والغرب.

لقد كان الانسحاب الروسي الأحادي الجانب من ناجورنو كاراباخ في ربيع هذا العام مربكاً؛ فعلى مدى معظم العقود الثلاثة الماضية، استمر النزاع بين أذربيجان وأرمينيا على المنطقة. وفي عام 2020، كانت أذربيجان ستستولي على ناجورنو كاراباخ، لولا إرسال روسيا في اللحظة الأخيرة قوة حفظ السلام المكلفة بحماية السكان الأرمن المحليين. ومع ذلك، وقفت قوات حفظ السلام تلك متفرجةً بينما كانت أذربيجان تزحف إلى كاراباخ في سبتمبر الماضي، رغم أنه كان لديهم تفويض بالبقاء حتى عام 2025. وبالإضافة إلى إبراز القوة الروسية في المنطقة، كان بإمكانهم أيضاً تسهيل عودة بعض الأرمن إلى ناجورنو كاراباخ، لكن بقرارها مغادرة المنطقة، منحت روسيا أذربيجان نصراً، وسمحت لجيشها بالسيطرة دون قيود على المنطقة المتنازع عليها منذ فترة طويلة. وبالنسبة إلى معظم الأرمن، كان ذلك بمنزلة تأكيد جديد لتخلي روسيا عنهم، فيما تكهن المراقبون بأنه قد تم التوصل إلى نوع من الصفقة بين روسيا وأذربيجان.

2– التقارب الاستراتيجي بين موسكو وباكو: يعتقد توماس دي وال أنه بعد حرب ناجورنو كاراباخ عام 2020، بدأت روسيا ميلاً استراتيجياً جديداً تجاه باكو؛ إذ إن انسحاب قوات حفظ السلام هذا الربيع بدا كأنه العنصر الأساسي في الوفاق الكامل بين باكو وموسكو. وبعد أيام قليلة من مغادرة قوات حفظ السلام الروسية، سافر علييف إلى موسكو؛ حيث ناقش تعزيز الروابط بين الشمال والجنوب؛ أي الروابط بين البلدين. وبعد المحادثات، قال وزير النقل الروسي فيتالي سافيليف إن أذربيجان تعمل على تحديث بنيتها التحتية للسكك الحديدية لزيادة سعة الشحن لديها بأكثر من الضعف، والسماح بمزيد من التجارة مع روسيا.

3– استمرار التأثير الروسي في الاقتصاد الأرميني: بالرغم من التوترات بين أرمينيا وروسيا، ومساعي أرمينيا إلى الابتعاد عن موسكو، إلا أن هذا التحول – بحسب المقال– يحمل في طياته العديد من المخاطر في الأمد الأقصر؛ إذ تعتمد أرمينيا بشكل كبير على الطاقة الروسية والتجارة الروسية؛ حيث توفر موسكو 85% من احتياجاتها من الغاز، و90% من القمح، وكل الوقود لمحطة الطاقة النووية الوحيدة لديها، التي توفر ثلث الكهرباء في أرمينيا. ولا يزال اقتصاد أرمينيا موجهاً بشكل كبير نحو السوق الروسية. وبحسب المقال، تمنح هذه العلاقات موسكو نفوذاً اقتصادياً هائلاً، وقد تسعى إلى إخضاع البلاد لإرادتها من خلال رفع أسعار الطاقة بشكل حاد أو تقليص التجارة الأرمينية.

4– محاولة الضغط على يريفان لمنع تقاربها مع الغرب: ثمة تحول من أرمينيا نحو الغرب في اللحظة الراهنة. ومع تمتع أذربيجان بالنصر والاستفادة من العلاقات القوية مع كل من روسيا وتركيا، لا تُظهِر باكو أي علامة على تخفيف ضغوطها على أرمينيا. ومن ناحية أخرى، تدرك القوى الإقليمية الكبرى الأخرى حول أرمينيا – وهي إيران، وروسيا، وتركيا – أن الغرب يسعى للتوسع بشكل مفرط. وعلى الرغم من الخلافات العديدة بين هذه القوى، فإن لديها أجندات تتوافق على تقليص الحضور الاستراتيجي للغرب في المنطقة؛ ففي أبريل، على سبيل المثال، أعلن كبار المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين في بروكسل عن حزمة مساعدات اقتصادية لأرمينيا. ورداً على ذلك، أصدرت كل من إيران وروسيا وتركيا بيانات متطابقة تقريباً تستنكر فيها سعي الغرب الخطير إلى "المواجهة الجيوسياسية" التي كانت تقصد بها التدخل الغربي في أرمينيا.

5– السعي لإعادة بناء طرق النقل البرية إلى إيران: يتمثل جزء رئيسي من طموحات روسيا في جنوب القوقاز في إعادة بناء طرق النقل البرية إلى إيران. والطريق الأكثر جاذبيةً هو ذلك الذي تسميه أذربيجان ممر "زانجيزور"، وهو طريق من المتوقع أن يربط بين الطرق والسكك الحديدية عبر جنوب أرمينيا، ومن شأنه أن يربط أذربيجان بنخجوان، وهو جيب أذربيجاني يقع على الحدود مع كل من إيران وتركيا.

ويضيف المقال أن هذا المحور بين الشمال والجنوب من شأنه أن ينعش بشكل فعال ما كان يعرف باسم الممر الفارسي خلال الحرب العالمية الثانية – وهو طريق من الطرق والسكك الحديدية يمتد شمالاً من إيران عبر أذربيجان إلى روسيا، وقد أصبح هذا المحور نفسه الآن حيوياً لموسكو في صراعها الحالي ضد الولايات المتحدة والغرب.

6– تعزيز الأمن الاقتصادي الروسي في ظل الضغوطات الغربية: كانت المنطقة المعروفة لدى الروس باسم منطقة القوقاز، تحمل أهمية استراتيجية متقلبة على مر القرون. وقد حاولت موسكو بعد نهاية الاتحاد السوفييتي الحفاظ على نفوذها من خلال التلاعب بالصراعات العرقية الإقليمية المحلية هناك، والحفاظ على أكبر عدد ممكن من القوات على الأرض، لكن الحرب في أوكرانيا، ونظام العقوبات الغربية غيَّرا تلك الحسابات؛ فمن خلال اتخاذ القرار بسحب القوات من أذربيجان، فإن الكرملين يعترف بأن الأمن الاقتصادي في جنوب القوقاز – في الوقت الحالي على الأقل – أكثر أهميةً؛ حيث إن روسيا بحاجة ماسة إلى شركاء تجاريين وإلى طرق تجارية تخرق العقوبات في الجنوب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط متزايدة من الغرب، فإنها ترى أيضاً أن المنطقة تقدم محوراً برياً جديداً لإيران.

7– إدراك موسكو أهمية المنطقة لسياسة الطاقة الروسية: تعد باكو لاعباً في سياسات الطاقة بين الشرق والغرب؛ حيث توفر النفط والغاز الذي ينقله خطَّا أنابيب عبر جورجيا وحليفتها الوثيقة تركيا إلى الأسواق الأوروبية والدولية، كما أنها أيضاً بمنزلة بوابة بين الشمال والجنوب؛ أي بين موسكو والشرق الأوسط.

ويضيف المقال أن باكو قد تمكنت، بفضل موقعها الجغرافي الملائم، وحالة عدم الانحياز، من اللعب على كلا الجانبين؛ فهي دولة مركزية في الممر الأوسط، وتعمل على زيادة صادرات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، بعد اتفاق مع المفوضية الأوروبية في عام 2022، لكنها أيضاً في وضع مثالي للتجارة مع مصدري الطاقة الروس أيضاً؛ ففي تقرير صدر في مارس، أشار معهد أكسفورد لدراسات الطاقة إلى أن أذربيجان، بالعمل مع حليفتها الوثيقة تركيا، يمكن أن تساعد في إنشاء مركز للغاز الروسي للوصول إلى الأسواق الخارجية دون عقوبات.

8– الاستفادة من دعم بعض النخب الجورجية لروسيا: استفاد الكثيرون من النخبة الجورجية بالكثير من المال من روسيا منذ بدء الحرب الأوكرانية؛ فقد فتحت جورجيا أبوابها أمام الأعمال التجارية والأصول المصرفية الروسية، واستؤنفت الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين. ويبدو أن النخبة الجورجية مستعدة لدفع التكلفة؛ إذ يخضع المدعي العام السابق أوتار بارتسخالادزي الآن للعقوبات الأمريكية، لكن إذا تمكنت المعارضة الجورجية من التغلب على انقساماتها التاريخية والفوز في انتخابات هذا الخريف – وهي مهمة ليست سهلة – يعتقد التقرير أن جورجيا ستستأنف المسار المؤيد لأوروبا.

تحديات جوهرية

بالرغم من مساعي موسكو لتعزيز حضورها في جنوب القوقاز؛ فإن ثمة تحديات تواجه موسكو، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– تزايد الاستياء داخل أرمينيا تجاه السياسات الروسية: تتمتع روسيا وأرمينيا بتحالف تاريخي طويل مبني على دينهما المسيحي المشترك؛ فقد كانت روسيا الحامي التقليدي للأرمن في الإمبراطورية العثمانية، وكان الأرمن الذين عاشوا في الإمبراطورية الروسية ثم في الاتحاد السوفييتي، يميلون إلى التمتع بالحراك الاجتماعي التصاعدي أكثر من غيرهم من غير السلاف؛ حيث وصل بعضهم إلى أعلى مراتب النخبة السوفييتية، لكن كل ذلك تغير خلال السنوات القليلة الماضية؛ إذ بدأت العلاقات الروسية مع أرمينيا تفتر في عام 2018، عندما أوصلت الثورة المخملية في أرمينيا باشينيان الديمقراطي الشعبوي إلى السلطة. ولم يكن هذا التحول مقبولاً في موسكو التي كانت تخشى حدوث "ثورة ملونة" أخرى تؤدي إلى وصول حكومة غير صديقة إلى السلطة على حدودها. وبعد حرب ناجورنو كاراباخ في عام 2020، واصلت موسكو دعم الأرمن، لكن العلاقات توترت بشكل متزايد، وقد أصبح استيلاء أذربيجان على المنطقة في 2023، بقبول روسي، المحطة الأخيرة في مرحلة التباعد بين الدولتين.

2– توجه أرمينيا نحو الغرب والانضمام للمحكمة الجنائية الدولية: يشير المقال إلى أنه مع فشل الكرملين في احترام التزاماته الأمنية تجاه أرمينيا، بدأ باشينيان يُحرِّك بلاده بشكل حاسم نحو الغرب. وفي الخريف الماضي، التقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ودفع أرمينيا نحو الانضمام رسمياً إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ ما يعني أن بوتين، الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، يمكن نظرياً أن يُعتقَل إذا وطأت قدمه أرمينيا. وفي فبراير، علق باشينيان أيضاً مشاركة أرمينيا في التحالف العسكري الذي تقوده روسيا "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، كما يطرح بعض الساسة الأوروبيين الآن فكرة انضمام أرمينيا إلى الاتحاد الأوروبي.

3– استمرار التوجهات المناهضة لروسيا داخل جورجيا: يشير المقال إلى أن حزب الحلم الجورجي الحاكم يحرق الجسور بينه وبين شركائه الغربيين. والسمة الأكثر وضوحاً لهذا التحول هي قانون "النفوذ الأجنبي" المثير للجدل، الذي يسعى إلى تقييد وتجريم أنشطة أي منظمة غير حكومية تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من الخارج.

ولكن بالرغم من هذه التوترات بين جورجيا والغرب، فإن موسكو لا تزال تواجه تحدياً متعلقاً بالتوجهات المناهضة لها داخل جورجيا؛ إذ تتمتع روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي بتاريخ طويل من التدخل في شؤون جورجيا، ويحتفظ أغلب الجورجيين بالكراهية العميقة لموسكو. وفي عام 2008، قطعت جورجيا علاقاتها الدبلوماسية بعد أن عبرت القوات الروسية الحدود واعترفت باستقلال إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليين.

وختاماً، يشير المقال إلى أن وسيا تواجه تحديات متصاعدة في جنوب القوقاز؛ إذ إن الانسحاب العسكري الروسي من أذربيجان علامة ضعف، بجانب تحول أرمينيا نحو الغرب، والمقاومة الجماهيرية من قِبَل الرأي العام الجورجي لما تسميه المعارضة "القانون الروسي". ولكن إذا كانت روسيا تبدو أضعف في المنطقة، فإن الغرب لا يبدو أقوى؛ إذ إن هناك ديناميكيات اجتماعية كبيرة مؤيدة لأوروبا، لكنها تواجه منافسة قوية من قِبَل القوى السياسية والاقتصادية التي تسحب جنوب القوقاز في اتجاهات مختلفة للغاية؛ ففي شهر مايو 2024، منحت الحكومة الجورجية مناقصة لتطوير ميناء جديد بالمياه العميقة على شاطئ البحر الأسود لشركة صينية. بعبارة أخرى، تتنافس أوروبا والولايات المتحدة على النفوذ؛ ليس مع روسيا فقط، بل مع قوى أخرى أيضاً.

المصدر:

- Thomas de Waal, Putin’s Hidden Game in the South Caucasus, Foreign Affairs, June 3, 2024, accessible at: https://www.foreignaffairs.com/azerbaijan/putins-hidden-game-south-caucasus

ملامح السياسة الروسية في جنوب القوقاز