أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 24 سبتمبر 2023، مغادرة القوات الفرنسية النيجر وهي القوات البالغ عددها 1500 جندي بحلول نهاية العام الجاري 2023، وأن باريس قد أنهت التعاون العسكري مع نيامي التي لم تعد ترغب في مكافحة الإرهاب بحسب قوله، وهو ما يعكس رضوخه لشروط قادة المجلس العسكري النيجري بعدما كان الرئيس الفرنسي متمسكاً بالاستمرار إلا لو طالبته السلطة الشرعية المنتخبة (محمد بازوم) بإنهاء الوجود الفرنسي في البلاد. وتعتبر هذه الخطوة هي الانسحاب الثالث لفرنسا من دول غرب أفريقيا بعدما سبقه الانسحاب من مالي وبوركينا فاسو خلال العام الماضي 2022، بحيث تقلص عدد القواعد العسكرية الفرنسية إلى قاعدتين فقط بدلاً من 10 قواعد كانت تديرها خلال السنوات الماضية؛ ما يعكس تراجع نفوذ فرنسا في المنطقة التي لطالما كانت معقل نفوذ تقليدي لها لعقود طويلة مضت.
السياق الراهن
تأتي هذه التطورات في ضوء سياق إقليمي سياسي وأمني مضطرب في منطقة غرب أفريقيا بما في ذلك الساحل؛ حيث تشير سياقات التفاعلات الإقليمية في المشهد الإقليمي في الوقت الراهن إلى ما يلي:
1- مواجهة الأنظمة العسكرية الجديدة اضطرابات داخلية: لا تزال أوضاع السلطات العسكرية الجديدة في بعض دول حزام الانقلابات غير مستقرة، في ضوء اضطراب الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية نتيجة الضغوط الدولية التي تمارسها بعض القوى الدولية، لا سيما باريس. يعزز هذا الطرح المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها بوركينا فاسو، والتي تعبر عن ارتدادات سلبية لسلسلة التغيرات الجذرية على الساحة الإقليمية خلال الفترة الأخيرة؛ فقد أعلنت السلطات في واجادوجو إحباط محاولة انقلابية في أواخر سبتمبر 2023 قادها ضباط وشخصيات أخرى في محاولة للإطاحة بالرئيس الانتقالي إبراهيم تراوري بالتزامن مع مرور عام تقريباً على الانقلاب الذي قاده في سبتمبر 2022 بالبلاد.
2- تبني الأنظمة الحاكمة إجراءات لتعزيز السلطة: وهي قرارات تستهدف توطيد سلطة العسكريين الجدد في بعض دول حزام الانقلابات، من خلال إطالة أمد الفترات الانتقالية خلال الفترة المقبلة؛ فقد قرر المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في مالي في 25 سبتمبر 2023 تأجيل عقد الانتخابات الرئاسية التي كان مقرراً لها في فبراير 2024 لأسباب فنية وتنظيمية.
كما أعلن المجلس العسكري في النيجر في 3 أكتوبر 2023 تحديد المدى الزمني للمرحلة الانتقالية خلال انعقاد منتدى وطني شامل؛ وذلك عقب موافقة نيامي على الوساطة الجزائرية لحل أزمة النيجر، وإن كان العسكريون الجدد قد صرحوا في وقت سابق برغبتهم في تمديد الفترة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات مقبلة.
بينما أعلن إبراهيم تراوري الرئيس الانتقالي في بوركينا فاسو، في سبتمبر 2023 عن عزمه إجراء تعديل جزئي لدستور بلاده؛ من أجل توسيع المواجهة مع التنظيمات الإرهابية، لا سيما أن الجيش لا يسيطر كافة أراضي الدولة. وفي الجابون صرح ريموند ندونج سيما رئيس وزراء الجابون، بأن الحكومة ستعلن عن جدول زمني للانتخابات وحوار وطني لمناقشة إصلاح المنظومة الانتخابية.
3- تدشين تحالفات إقليمية جديدة: هناك حالة من الاصطفاف الإقليمي في مواجهة النفوذ الغربي، لا سيما الفرنسي، عقب سلسلة الانقلابات الأخيرة في منطقة الساحل، وهي الحالة التي تبلورت في الإعلان عن تأسيس تحالف إقليمي جديد في 16 سبتمبر 2023 يضم دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو (من دول حزام الانقلابات) بهدف التعاون والتنسيق الأمني والعسكري ضد أي اعتداء خارجي أو إقليمي لأي عضو، وهي خطوة تفسر التباعد بين دول الساحل وفرنسا خلال الفترة الأخيرة، بما يستبعد أي فرصة للتقارب بين الجانبين على الأقل في المدى القصير، أو إحداث اختراق فرنسي لدول حزام الانقلابات المناهضة للدور الفرنسي في المنطقة مستقبلًا.
4- هدوء حذر في أزمة النيجر: تسود حالة من السكون بالنسبة إلى الأزمة في نيامي فيما يتعلق بالوضع العسكري الراهن، خاصة بعدما تصاعدت تحذيرات تكتل إيكواس باحتمال تدخل عسكري في البلاد عقب الانقلاب الأخير؛ وذلك من أجل استعادة النظام الدستوري والرئيس السابق محمد بازوم، إلا أن بعض دول الساحل حذرت من عواقب التدخل العسكري وأعلنت الدفاع عن النيجر في حالة تعرضها لعمل عسكري، وهو ما عبر عنه عبد الله ديوب وزير الخارجية المالي، الذي حذر في 23 سبتمبر 2023 على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك من التدخل العسكري في النيجر.
يضاف إلى ذلك اندلاع الانقلاب في الجابون في أغسطس 2023 الذي عزز مخاوف إيكواس من تأثير الدومينو في غرب أفريقيا، فضلاً عن إعلان فرنسا انسحاب قواتها من النيجر بحلول ديسمبر المقبل، وموافقة السلطات الحاكمة في النيجر على الوساطة الجزائرية لتسوية الأزمة، وهو ما من شأنه الدفع نحو إيجاد مخرج آمن للأزمة الراهنة بين المجلس العسكري النيجري وإيكواس بعيداً عن الانخراط في صراع عسكري إقليمي يعزز زعزعة الاستقرار الأمني في المنطقة.
5- تنامي النشاط الإرهابي في غرب أفريقيا: تشهد بعض دول حزام الانقلابات سياقاً أمنياً مضطرباً في ضوء تنامي هجمات التنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيمي القاعدة وداعش في بعض المناطق الساخنة مثل مثلث تيلابيري الذي تشترك فيه حدود دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، كما أعلنت بعض الحركات المسلحة المتمردة مثل تنسيقية حركات أزواد، مواجهة المجلس العسكري المالي الانتقالي في شمال مالي، خاصة أنها استطاعت الاستيلاء على أربع قواعد عسكرية عقب سلسلة هجمات إرهابية خلال الفترة الأخيرة، وهو ما دعا بعض جيوش المنطقة إلى القيام بتعبئة عسكرية لقواتها من أجل مواجهة التهديدات الأمنية في مناطق النزاعات، مثل شمال مالي؛ حيث توجهت وحدات عسكرية من الجيش المالي في 2 أكتوبر الجاري إلى منطقة كيدال شمال البلاد التي تعد معقلاً للطوارق المتمردين في شمال البلاد.
كما أعلنت وزارة الدفاع في النيجر يوم 3 أكتوبر الجاري مقتل 29 جندياً غرب البلاد، في هجوم إرهابي، وقالت الوزارة في بيان بثه التلفزيون الوطني، إن "مفرزة من قوات الأمن تعرضت شمال غرب "تاباتول" لهجوم معقد نفذه أكثر من 100 إرهابي"، وأكد البيان أنه تم خلاله استخدام عبوات ناسفة وعربات مفخخة. وأكدت الوزارة مقتل "عشرات الإرهابيين" خلال صد الجيش للهجوم.
6- تراجع النفوذ الغربي في المنطقة: ينطوي المشهد الإقليمي الراهن في الساحل وغرب أفريقيا على أفول للنفوذ الغربي بما في ذلك الفرنسي؛ ما يعبر عن مرحلة تحول جديدة في المنطقة، في مقابل الإشادة بدور روسيا المتصاعد هناك، في ضوء تفاعلها بشأن قضايا المنطقة، لا سيما محاربة الإرهاب من خلال قوات فاجنر الأمنية التي تمثل الذراع السياسة الروسية في القارة الأفريقية.
7- مغادرة بعثات حفظ السلام الأممية: هناك موجة جديدة موازية للانسحاب الفرنسي من المنطقة، تتمثل في قرارات بعض البعثات الأممية لحفظ السلام بمغادرة المنطقة؛ فقد غادر نحو 3367 عنصراً من بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) البلاد في 27 سبتمبر 2023؛ وذلك ضمن خطة الانسحاب التدريجي من مالي عقب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2690 الصادر في 30 يونيو 2023 الخاص بانسحاب كامل للبعثة الأممية بحلول 31 ديسمبر 2023، وهو ما يعزز قلق الكثير من المتابعين بشأن تصاعد التهديدات الأمنية في المنطقة، في ضوء تنامي نشاط الإرهاب هناك خلال الفترة الماضية.
8- تفاقم أزمات القوات الفرنسية في الساحل: كشفت تقارير فرنسية عن تدهور الحالة النفسية والمعيشية للجنود الفرنسيين في القواعد العسكرية بالنيجر؛ وذلك بعد تصاعد التوتر السياسي بين باريس والمجلس العسكري الانتقالي النيجري منذ يوليو 2023 عقب الإطاحة بالرئيس محمد بازوم في انقلاب عسكري؛ فقد تسلل الإحباط إلى الجنود بسبب نقص الغذاء؛ حيث يعيشون على بقايا مواد غذائية مجمدة، كما قامت السلطات المحلية النيجرية مؤخراً بوقف إمدادات الكهرباء والمياه عن السفارة الفرنسية. وتتزايد مخاوف باريس من تدهور وضع جنودها في النيجر؛ حيث انتقد أحد نواب البرلمان الفرنسي هذا الوضع في رسالة إلى وزير الجيوش الفرنسية مؤخراً.
تداعيات محتملة
يحمل القرار الفرنسي بانسحاب القوات الفرنسية من غرب أفريقيا والساحل العديد من التداعيات المحتملة على الدول الأفريقية خلال الفترة المقبلة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تعزيز سلطة العسكريين الجدد: فمن المرجح أن تستغل النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة محاربة الإرهاب في بلدانها لاكتساب المزيد من الشرعية التي ربما تضمن لها الاستمرار في الحكم لسنوات مقبلة عقب انتهاء المراحل الانتقالية، بعدما استطاعت هذه النخبة تعبئة وحشد الجماهير لكسر شوكة النفوذ الغربي في بلدان الساحل. ومع ذلك، يظل العسكريون الجدد تحت ضغط مستمر بسبب تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية والحركات المسلحة المتمردة مع ضعف قدرات الجيوش الأفريقية، وهو ما قد ينذر بإخفاق جديد في مواجهة الإرهاب.
2- توسع عضوية التحالف الثلاثي الجديد: قد تشعر دول المنطقة بمزيد من القلق تجاه تفاقم الأزمات الأمنية عقب خروج القوات الفرنسية والبعثات الأممية لحفظ السلام؛ ما قد يدفعها إلى الانضمام للتحالف الثلاثي الإقليمي بجانب مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من أجل سد الثغرات الأمنية التي قد يحدثها الانسحاب العسكري الغربي، وتعزيز المواجهة مع التنظيمات الإرهابية النشطة في المنطقة، لا سيما القاعدة وداعش.
3- تصاعد انعدام الأمن الإقليمي: تتوالى الهجمات الإرهابية على بعض دول المنطقة مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر خلال الفترة الأخيرة، وهي الهجمات التي تشنها بعض التنظيمات المسلحة مثل جبهة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش في الصحراء الكبرى، إضافة إلى بعض الحركات المتمردة المسلحة مثل تنسيقية حركات أزواد في الشمال المالي، التي أعلنت الحرب على السلطات المالية؛ الأمر الذي ينذر بأعباء أمنية على المجالس العسكرية الانتقالية الجديدة من أجل احتواء التهديدات الأمنية والإرهابية خلال الفترة المقبلة.
4- تراجع جهود مواجهة الإرهاب في المنطقة: ربما يؤدي انسحاب القوات الفرنسية إلى تراجع القوى الدولية عن تقديم المساعدات العسكرية للجيوش الأفريقية – ولو بشكل مؤقت – نكاية في المجالس العسكرية الحاكمة الجديدة، وإن كان ذلك يهدد أمن القارة الأوروبية التي تعتبر منطقة الساحل بمنزلة حائط صد لتهديدات الإرهاب عنها؛ الأمر الذي يمثل فرصة للتنظيمات الإرهابية لتوسيع نشاطها في غرب أفريقيا والساحل، بما يهدد الأمن الإقليمي الأفريقي والجوار الإقليمي، لا سيما أوروبا.
5- دعم الصعود الروسي في المنطقة: وهو الأمر الذي تلعب فيه مجموعة فاجنر الأمنية دوراً بارزاً باعتبارها أداة مهمة لتعزيز وحماية المصالح الروسية الاستراتيجية في الساحل وغرب أفريقيا. وقد استغلت موسكو تحول المزاج الأفريقي تجاه فرنسا وانتقالها من كونها حليفاً لدول غرب أفريقيا إلى عدو بالنسبة إلى بعض دول المنطقة، خاصة عقب اندلاع الانقلابات العسكرية الأخيرة، في تقديم نفسها باعتبارها حليفاً كفئاً وقادراً على تلبية متطلبات الدول الأفريقية بشأن قضاياها الشائكة، وبخاصة محاربة التنظيمات الإرهابية التي أخفقت باريس في احتواء مخاطرها على مدار العقد الماضي، وهو الأمر الذي يعزز النفوذ الروسي في الساحة الأفريقية، في مقابل إضعاف النفوذ الفرنسي ومكانتها على الساحة الدولية.
وإجمالًا، فإنه بقدر ما يمثل انسحاب القوات الفرنسية من الساحل وغرب أفريقيا ضربة قوية للنفوذ الفرنسي في أفريقيا، ربما يمثل أيضاً ضربة موازية لأمن واستقرار المنطقة في ضوء ضعف قدرات وكفاءة الجيوش الأفريقية في مقابل تزايد قوة التنظيمات الإرهابية التي باتت تسعى لتوسيع نطاق نفوذها الجغرافي، مستغلة الثغرات الأمنية التي سيخلفها انسحاب القوات الأجنبية، بجانب عدم انخراط قوات فاجنر الروسية بشكل قوي في المنطقة.
ومع ذلك، قد يكون الأفول الفرنسي بارزًا في غرب أفريقيا، إلا أنها لن تنسحب بشكل كامل من أفريقيا، وربما تسعى لتعزيز نفوذها في مناطق أخرى مثل شرق أفريقيا، مع محاولة استعادة نفوذها المفقود في الغرب الأفريقي بعد خسارة حلفائها الرئيسيين هناك لصالح منافسيها الاستراتيجيين، لا سيما موسكو التي لن تترك واشنطن هي الأخرى لها – ولا لبكين أيضًا – الساحة فارغة في غرب أفريقيا حمايةً لمصالحها الحيوية ونفوذها هناك. ومع استمرار هذا التنافس المحتدم على الساحة الأفريقية بين القوى الكبرى رغبة في النفوذ والثروات والموارد، سوف يظل الإرهاب وتنامي الأزمات الأمنية هي المهدد الرئيسي للدول الأفريقية خلال الفترة المقبلة، التي لا بد لها أن تتكاتف من أجل مواجهة التحديات الأمنية من خلال استراتيجيات أفريقية فعالة دونما الاعتماد كلياً على القوى الكبرى التي تتجاوز اهتماماتها الشواغل الأفريقية.