سارة عبدالسلام

شهدت أستراليا في 3 مايو 2025 تحولاً سياسياً لافتاً، تمثَّل في فوز حزب العمال اليساري، بقيادة رئيس الوزراء أنتوني ألبانيزي، بولاية ثانية بأغلبية موسعة تجاوزت التوقعات. ورغم أن استمرار الحزب في الحكم لم يَكُن مفاجئاً، فإن حجم الانتصار، والانهيار غير المسبوق للائتلاف الليبرالي–الوطني اليميني المحافظ، شكَّلا نقطة فاصلة في المشهد السياسي؛ فقد خسر زعيم المعارضة بيتر داتون مقعده في دائرة ديكسون، ليصبح أول زعيم معارضة يُهزَم في دائرته، منهياً مسيرة برلمانية امتدت 24 عاماً.وقد حصد حزب العمال 85 مقعداً من أصل 150؛ ما يُمكِّنه من تشكيل الحكومة منفرداً، فيما تراجع الائتلاف الليبرالي–الوطني اليميني المحافظ إلى 39 مقعداً بعد خسائر كبيرة في المدن الكبرى. وفقد حزب الخضر معظم مقاعده لصالح العمال، بينما جاء صعود المستقلين محدود التأثير. وبهذا، لا تُعَد نتائج الانتخابات العامة تجديداً دورياً للسلطة بقدر ما تعكس تحولاً عميقاً في المزاج الانتخابي، وتفتح الباب لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في أستراليا.دلالات عديدةثمة جملة من الدلالات لنتائج الانتخابات العامة في أستراليا، ويمكن استعراض ذلك على النحو التالي: 1– تفجُّر أزمة اليمين بخسارة "داتون" وتفكك بنية الائتلاف المعارض: جاءت خسارة زعيم المعارضة بيتر داتون مقعده في دائرة ديكسون مؤشراً رمزياً على تصاعد أزمة داخل اليمين المحافظ في أستراليا. ولم تكن الهزيمة مجرد سقوط انتخابي، بل لحظة انكسار سياسي لقيادة مثَّلت الواجهة الأساسية للائتلاف الليبرالي–الوطني اليميني. وقد جاءت هذه الخسارة نتيجةً لتراكم تحديات بنيوية، أبرزها العجز عن تقديم رؤية مقنعة للناخبين في المدن الكبرى، وتصاعد الخطاب المتشدد في قضايا الهوية والهجرة؛ ما أدى إلى انقسامات داخلية وتراجع في الشعبية.وقد برزت داخل الحزب، عقب النتائج، دعوات إلى مراجعة القيادة والخطاب السياسي، وسط مطالب بإصلاحات تعيد بناء الثقة مع القاعدة الانتخابية. وهكذا لم تكن خسارة داتون نهاية مسار فردي فقط، بل مؤشراً على تفكك أوسع داخل بنية اليمين، يُمهد لتحول سياسي أعمق في المرحلة المقبلة.2– تعزيز حزب العمال قاعدته الشعبية بأداء متماسك ورسائل إيجابية: يعكس الفوز الواسع الذي حققه حزب العمال في انتخابات 2025 تفويضاً شعبياً متجدداً لرئيس الوزراء أنتوني ألبانيزي، بعد ولاية أولى اتسمت بالاستقرار النسبي رغم التحديات. وقد ارتبط هذا التفويض برضا نسبي عن إدارة ملفات مثل التضخم وأزمة الإسكان، بجانب اعتماد الحزب على خطاب إيجابي ركز على الأمل والوحدة والاستقرار، مبتعداً عن الاستقطاب. وقد ساهم هذا النهج في جذب شرائح مترددة، خاصةً في الولايات الشرقية، وعزز صورة الحزب كجهة قادرة على قيادة البلاد بكفاءة وسط أجواء داخلية وخارجية مضطربة.3– ميل الناخبين نحو دعم الخطاب البرجماتي لحزب العمال بقيادة "ألبانيزي": جاءت الحملة الانتخابية لحزب العمال بقيادة ألبانيزي خالية من الشعارات الأيديولوجية الحادة أو المواجهات الصدامية؛ ما منحها طابعاً معتدلاً وعملياً لفت انتباه شرائح واسعة من الناخبين؛ إذ اختار ألبانيزي أن يقدم نفسه كرجل حلول لا شعارات، وهو توجُّه انسجم مع تطلعات شريحة متزايدة من الأستراليين الذين باتوا أكثر ميلاً نحو الكفاءة السياسية والنتائج الملموسة، على حساب الولاءات الحزبية الجامدة أو الخطابات المتشددة.وقد عزَّز هذا الأسلوبُ فرصَ الحزب في الفوز، وليس ذلك فقط، بل أشار إلى تحول أوسع في المزاج السياسي العام؛ حيث يُعاد تعريف مفاهيم الزعامة السياسية والفاعلية الانتخابية من خلال القدرة على الإنجاز العملي والابتعاد عن الاستقطاب. ويمكن اعتبار هذا التوجه واحداً من أبرز ملامح المشهد السياسي الأسترالي الجديد، الذي يتجه تدريجياً نحو خطاب أكثر برجماتيةً.4– تجلِّي محدودية الخيارات السياسية أمام الناخبين خارج الثنائية التقليدية: كشفت نتائج انتخابات 2025 عن محدودية البدائل السياسية خارج الثنائية التقليدية، رغم تراجع الائتلاف المحافظ؛ فقد خسر حزب الخضر معظم مقاعده لصالح العمال، وواجه زعيمه تحدياً غير مسبوق في معقله بملبورن، بينما عجز المستقلون عن بلورة مشروع موحد يمنحهم ثقلاً تنافسياً. وحال هذا التشتت دون تقديم بديل منظم؛ ما عزَّز مكانة حزب العمال كخيار أوضح وأكثر تماسكاً لدى فئات واسعة من الناخبين.5– إزاحة المحافظين من المراكز الحضرية وتبدُّل الخريطة الانتخابية: كشفت انتخابات 2025 في أستراليا عن تحول ملموس في الجغرافيا السياسية الأسترالية، تمثَّل في انحسار نفوذ الائتلاف الليبرالي–الوطني داخل المدن الكبرى، وخسارته عدداً من معاقله التقليدية في الضواحي الحضرية. وقد جاءت هذه الخسائر في سياق تغيُّر واضح في أولويات الناخبين الحضريين، الذين باتوا أكثر اهتماماً بقضايا مثل المناخ، وتكلفة المعيشة، والمساواة الاجتماعية، على حساب الشعارات الأمنية أو الخطابات المحافظة التقليدية.ويعكس هذا التحول الجغرافي تغيراً أعمق في البنية التصويتية الحضرية، يُضعِف قدرة المحافظين على الحفاظ على توازنهم الانتخابي الوطني، ويمنح حزب العمال ميزة استراتيجية متقدمة في مراكز التأثير السياسي والديموغرافي. وتُظهر هذه النتائج أن الخريطة الانتخابية الأسترالية تدخل مرحلة إعادة تشكُّل، تُعيد ترتيب القوى حسب التوزيع القيمي والسكاني، لا وفق الانتماءات الحزبية التقليدية.6– إعادة تموضع قضايا السكان الأصليين داخل المزاج الانتخابي العام: أعاد فوز حزب العمال توجيه النقاش العام نحو رؤية أكثر شمولاً للهوية الوطنية، رغم فشل استفتاء "الصوت" في 2023؛ فقد حافظ ألبانيزي على دعمه العلني للسكان الأصليين؛ ما منح خطابه بُعداً أخلاقياً عزَّز مكانة الحزب في البيئات التقدمية. في المقابل، تبنى الائتلاف الليبرالي–الوطني خطاباً معارضاً ركَّز على رفض "التقسيم العرقي"، وهو ما أثار انتقادات في المدن الكبرى، وأسهم في ترسيخ صورة العمال كقوة إصلاحية منفتحة على قضية المصالحة التاريخية.7– تحوُّل "ترامب" إلى عامل مؤثر في خيارات الناخبين الأستراليين: أظهرت انتخابات 2025 أن السياسة الخارجية، ولأول مرة منذ سنوات، باتت من العوامل المؤثرة في خيارات الناخبين الأستراليين. ويتصدَّر هذا التحول ما بات يُعرف إعلامياً بـ"عامل ترامب"؛ فقد أثارت الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على الصادرات الأسترالية قلقاً واسعاً، خاصةً في قطاعات الزراعة والصناعة؛ ما أعاد قضايا السياسة الدولية إلى قلب النقاش الانتخابي.وفي مواجهة هذا الوضع، تبنى ألبانيزي خطاباً سيادياً متماسكاً، وأطلق خطة اقتصادية لمواجهة الإجراءات الأمريكية، مؤكداً استقلالية القرار الأسترالي. في المقابل، حاول الائتلاف المحافظ النأي بنفسه عن المقارنة المباشرة مع ترامب، إلا أن التشابه في الخطاب الشعبوي لبعض رموزه أعاد ربطه ضمنياً بذلك النموذج؛ ما أضعف موقفه بين شرائح حضرية ووسطية.ارتدادات محتملةهناك مجموعة من التداعيات المحتملة لنتائج الانتخابات العامة في أستراليا، ويتضح ذلك عبر ما يلي: 1– إعادة هيكلة محتملة لليمين الأسترالي بعد سقوط "داتون": أدت النتائج الصادمة للائتلاف الليبرالي–الوطني، وعلى رأسها خسارة بيتر داتون مقعدَه، إلى تفاقم أزمة القيادة داخل اليمين الأسترالي؛ ما يفتح الباب أمام تحوُّلات داخلية واسعة في الحزب الليبرالي؛ لذا من المتوقَّع أن تدخل القوى المحافِظة في مرحلة مراجعة عميقة، تشمل إعادة التفكير في استراتيجيات الخطاب، والبرامج الاجتماعية، وطبيعة التفاعل مع الشرائح الحضرية والشابة، التي باتت تشكل ثقلاً انتخابياً متصاعداً، وهو ما قد يُمهِّد لولادة يمين جديد، أكثر حداثةً واعتدالاً، يسعى إلى إعادة بناء الصلة مع الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية، كما أنه في ظل الاضطراب القيادي الناتج عن الخسارة، تظل احتمالات التصدع أو الانقسام داخل الائتلاف قائمةً؛ ما يُضعف قدرته على أداء دور معارضة فعَّالة في المدى المنظور.2– تزايد الضغوط على الحكومة مع ارتفاع التوقعات الشعبية: منح التفويض الشعبي الواسع لحزب العمال فرصةً لدفع برنامجه الإصلاحي، خاصةً في ملفات المعيشة والإسكان والأجور، لكن هذا الاتساع في الصلاحيات ترافقه توقعات مرتفعة تضع الحكومة تحت ضغط فوري للإنجاز. وأي تعثُّر في قضايا مثل الضرائب أو البيئة، قد يؤدي إلى تآكل سريع في الثقة؛ ما يجعل التفويض أداة مزدوجة بين التمكين والمساءلة في ظل بيئة اقتصادية ضاغطة.3– فتح المجال أمام استعادة الثقة بالعمل البرلماني الديمقراطي: يمثل فوز ألبانيزي بولاية ثانية من دون الحاجة إلى تحالفات، فرصة نادرة لاستعادة الثقة بالنظام البرلماني، بعد سنوات من عدم الاستقرار وتغير الحكومات؛ فإذا نجحت حكومة العمال في تحويل وعودها إلى إنجازات ملموسة مع الحفاظ على الشفافية، فقد تسهم في ترميم العلاقة بين الدولة والمواطن. أما الفشل فسيعزز الشك العام، ويقوِّي مشاعر الإحباط تجاه فاعلية العملية السياسية.4– تقييد الحركة التشريعية للحكومة بغياب الأغلبية في مجلس الشيوخ: يُشكِّل غياب الأغلبية لحزب العمال في مجلس الشيوخ، رغم سيطرته على مجلس النواب، واحداً من أبرز التحديات المؤسسية التي ستواجه الحكومة في ولايتها الثانية. هذا الخلل في التوازن التشريعي يفرض على الحكومة الدخول في مفاوضات متكررة مع أحزاب مثل الخضر وبعض المستقلين؛ ما قد يؤدي إلى تعديلات في السياسات الرئيسية، أو تأخير في تنفيذ الإصلاحات الجوهرية. ويحد هذا الوضع من القدرة على تحويل التفويض الشعبي العريض إلى زخم تشريعي فوري؛ الأمر الذي يستلزم مرونة سياسية عالية، وقد يُنتج مع الوقت ضغوطاً إضافية على فاعلية الأداء الحكومي.5– تعزيز دور أستراليا الإقليمي بعد استقرار الحكم واستقلال الخطاب الخارجي: من المُرجَّح أن يحمل التحول السياسي في أستراليا تداعيات خارجية تتجاوز حدودها، خاصةً في السياق الإقليمي لمنطقة الهندوباسيفيك؛ فاستقرار القيادة التنفيذية، وتبني خطاب مستقل نسبياً عن واشنطن، يُعزِّزان موقع أستراليا كفاعل إقليمي قادر على الموازنة بين القوى الكبرى. وقد يُترجَم هذا التحول إلى تنشيط التعاون الأمني والدبلوماسي مع الهند واليابان ودول الآسيان، ضمن إطار من التكتلات المرنة لموازنة النفوذ الصيني، كما أن النموذج السياسي الذي تقدمه حكومة العمال – باعتباره نموذجاً وسطياً حظي بثقة شعبية متجددة – قد يلقى صدى لدى قوى سياسية مشابهة في دول أخرى، خصوصاً تلك التي تمر بمرحلة انتقالية أو استقطاب داخلي.6– اضطرار حكومة "ألبانيزي" إلى توسيع تحالفاتها في مواجهة تقلبات "ترامب": فرضت سياسات إدارة ترامب، وعلى رأسها الرسوم الجمركية على الصادرات الأسترالية، تداعيات مباشرة على خيارات السياسة الخارجية لحكومة ألبانيزي؛ إذ بات من الضروري أمام أستراليا التحرُّك باتجاه تنويع تحالفاتها الاقتصادية والدبلوماسية لتقليل الاعتماد المفرط على الشريك الأمريكي. وتشمل هذه التحركات توسيع الشراكات مع الاتحاد الأوروبي والهند ودول الآسيان، في موازاة الحفاظ على العلاقات الدفاعية مع واشنطن ضمن إطار تحالف AUKUS. ومع تصاعد الغموض المرتبط بسلوك الإدارة الأمريكية، من المتوقع أن تزداد صعوبة الموازنة بين المصالح الاستراتيجية والتحفظات السيادية؛ ما قد يدفع أستراليا إلى إعادة ضبط مسارها الخارجي بطريقة أكثر استقلاليةً وواقعيةً.اختبار حقيقيوختاماً، تُشكِّل انتخابات 2025 لحظة تحوُّل في السياسة الأسترالية؛ ليس فقط لأنها منحت حزب العمال ولاية ثانية بأغلبية موسعة، بل لأنها أعادت ترتيب موازين القوى داخل النظام السياسي؛ فقد انهارت القيادة التقليدية لليمين، وتصاعد الخطاب البرجماتي المعتدل، وبرز حزب العمال قوةً مركزيةً جديدةً تحظى بتفويض شعبي واسع. وقد أتاح هذا التحول فرصةً لإعادة تعريف أدوار الفاعلين السياسيين داخلياً، وموقع أستراليا خارجياً. ومع ذلك، لا يخلو المسار من التحديات؛ فالحكومة تواجه ضغطاً متزايداً لتقديم نتائج سريعة في ملفات اقتصادية واجتماعية. ومن ثم، فإن نتائج الانتخابات تفتح الباب أمام تجديد فعلي في الأداء السياسي، لكنها تضع النظام أمام اختبار حقيقي في قدرته على تحويل الاستقرار إلى إنجاز.

ما التداعيات المتوقعة لنتائج الانتخابات العامة في أستراليا؟