د. يوسف داوود

تجمع الآلاف في وسط العاصمة الصربية "بلجراد" في احتجاج مناهض للحكومة يوم الأحد 24 ديسمبر 2023 للمطالبة بإلغاء الانتخابات البرلمانية والمحلية التي أجريت قبل أسبوع، والتي أدت إلى مجموعة اضطرابات واسعة في البلاد. وفي مواجهة هذه الاضطرابات، استخدمت الشرطة في العاصمة بلجراد الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود التي كانت تحتج على نتائج الانتخابات التي وصفوها بـ"المزورة"؛ حيث تدخلت الشرطة بعد أن حطم المتظاهرون بعض النوافذ وحاولوا اقتحام عدد من البنايات، من بينها مقر البلدية الذي عقد فيه الانتخابات. هذا وقد تعددت الأسباب التي أدت إلى هذه الاضطرابات، والتي يمكن اعتبار بعضها هي المحفزات المباشرة، بينما يمكن اعتبار البعض الآخر الأسباب والخلفيات العميقة التي ساهمت في تحويل المحفزات المباشرة إلى أزمة حقيقية.متغيرات انتخابيةترتبط التوترات الراهنة عقب انتخابات صربيا بعدد من المتغيرات الانتخابية المتمثلة فيما يلي:1- هيمنة الحزب الحاكم على الانتخابات البرلمانية: في الانتخابات البرلمانية التي عقدت الأسبوع الماضي، فاز الحزب التقدمي الصربي الشعبوي الحاكم بنسبة 46.72% من الأصوات، وفقاً للنتائج التي أعلنت عنها لجنة الانتخابات الحكومية، في حين أتي تحالف يسار الوسط المعارض "صربيا ضد العنف (SPN)" في المرتبة الثانية بنسبة 23.2%، بينما جاء الحزب الاشتراكي الصربي بزعامة وزيرة الخارجية السابقة إيفيكا داتشيتش في المركز الثالث بنسبة 6.7% من الأصوات.2- إخفاق المعارضة في تحقيق أهدافها بالانتخابات المحلية: بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية، عقدت الانتخابات المحلية في معظم المحليات الصربية، وعلى رأسها العاصمة "بلجراد"، التي شهدت أيضاً فوزاً كبيراً للحزب الشعبوي الحاكم. وكانت المعارضة تأمل الفوز بمنصب حاكم "بلجراد" – على أقل تقدير – في حالة عدم فوزها بالأغلبية البرلمانية، لكن النتائج الرسمية، التي نددت بها شخصيات معارضة على الفور باعتبارها مزورة، أظهرت أن المعارضة فشلت في تحقيق أي من الهدفين.3- تشكيك المعارضة في نزاهة الانتخابات: لقد وصفت الكتلة المعارضة نتائج الانتخابات البرلمانية بعدم النزاهة نتيجة الانحياز الإعلامي للحزب الحاكم أثناء فترة الحملة الانتخابية، فضلاً عن تأثير الرئيس الحالي "ألكسندر فوتشيتش" المنتمي إلى الحزب التقدمي على مجريات العملية الانتخابية، ناهيك عن بعض الممارسات التي وُصفت بغير العادلة، مثل عملية شراء الأصوات وتعطيل بعض المقرات الانتخابية.4- مواصلة قوى المعارضة سياسة التصعيد ضد النظام الحاكم: من أهم محفزات مشهد العنف التالي على الانتخابات، بعض الممارسات التي لجأ إليها أقطاب المعارضة بالتزامن مع عقد الانتخابات أو بعد إعلان النتيجة، وهي الممارسات التي كان من شأنها استثارة الشارع؛ حيث دخلت "مارينيكا تيبيك" إحدى قيادات ائتلاف "صربيا ضد العنف"، في إضراب عن الطعام قبل الانتخابات للمطالبة بإلغائها، كما خرج "رادومير لازوفيتش" الزعيم المشارك لجبهة اليسار الأخضر، بتصريحات عقب الإعلان عن النتيجة بأن ضباط الشرطة قد مارسوا ضده وضد عدد من أفراد حملته عنفاً ممنهجاً.5- التأثير السلبي لظاهرة "الناخبون الوهميون": كان الجدل الأكبر في هذه الانتخابات متعلقاً بما أطلق عليه "الناخبون الوهميون"، وهم المواطنون من صربيا وجمهورية صربسكا الذين لا يعيشون في بلجراد، ولكن تم تسجيلهم للتصويت في الانتخابات المحلية من قبل الحزب الحاكم. هذا وتزعم المعارضة أن هناك أكثر من 40 ألف صوت من هذا النوع قد دخلوا صناديق الاقتراع، وهو ما كان كافياً لمنح الحزب التقدمي الصدارة في بلجراد.6- تداعيات رد فعل اللجنة العليا للانتخابات على الاحتجاجات: ساهم رد فعل اللجنة العليا للانتخابات أيضاً في إذكاء حدة العنف في صربيا؛ حيث أعلنت اللجنة، عقب إعلان النتيجة بثلاثة أيام، عن إعادة الانتخابات في نحو 30 مركز اقتراع من أصل 8000 مركز على مستوى البلاد، وهو ما اعتبرته المعارضة استخفافاً بمطالبها، داعية إلى إعادة الانتخابات على المستوى الوطني. وقد خرجت أبرز وجوه الكتلة المعارضة للتنديد بقرارات اللجنة، التي وصفوها هي الأخرى بـ"المنحازة".محفزات العنف ارتبطت المتغيرات الانتخابية، المشار إليها، بعدد من المحفزات الدافعة نحو العنف، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:1- تفاقم الاضطرابات الداخلية في صربيا: في مخالفة لكافة استطلاعات الرأي، نجح الحزب التقدمي الشعبوي في تحقيق نتيجة كبيرة بالرغم من شواهد تآكل الشعبية التي انتشرت في الشارع الصربي طوال العام الماضي. ويرجع انخفاض الشعبية المشار إليه إلى مجموعة من العوامل؛ أهمها عمليات إطلاق النار الجماعي في مايو 2023، وارتفاع معدلات التضخم بشكل متدرج، وتفاقم الأزمة الاقتصادية على مستوى الإنتاجية، وارتفاع مستويات البطالة. وقد أسهم هذا كله في زيادة حالة الشحن الشعبي التي ترجمت إلى أعمال عنف عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات، ناهيك عن استمرار حالة التوتر والتصعيد مع كوسوفو.2- تزايد القابلية للعنف: كشفت أحداث ما بعد الانتخابات الصربية عن تزايد قابلية الأطراف المختلفة للجوء إلى العنف؛ حيث حاول "سرديان ميليفويفيتش" و"فلاديمير أوبرادوفيتش" قائدا ائتلاف المعارضة فتح باب مبنى البلدية الذي أجريت فيه الانتخابات المحلية عقب الإعلان عن فوز الحزب الحاكم، لكن لم يتمكنا من الدخول؛ ما دفع أنصارهما إلى مزيد من العنف مع الشرطة.أما الشرطة فتشير التقديرات إلى لجوئها لعنف غير مبرر باستخدام الغاز المسيل للدموع بكميات كثيفة، كما تم القبض على أكثر من 30 شخصاً خلال التظاهرة، وأصيب ثمانية من ضباط الشرطة، وكأنها رسالة تحذيرية من الحزب الحاكم إلى المعارضة بعدم وجود مجال لتغيير سياسي وشيك، وأن أدوات القمع ستكون كفيلة بضمان تحقيق هذه النتيجة.3- تخوف الحزب الحاكم من تزايد نفوذ المنافسين: رجحت بعض التقديرات أن يكون رد فعل الحزب الحاكم العنيف على المتظاهرين نابعاً من شعوره بالخطر في ظل حدوث بعض المفاجآت التي تحققت في الانتخابات بالرغم من فوزه؛ فقد نجحت حركة "نحن صوت الشعب" الداعمة لنظريات المؤامرة، التي يقودها الطبيب المثير للجدل "برانيمير نيستوروفيتش" في الحصول على 4.69% من الأصوات بالرغم من تدشينه قبل 45 يوماً فقط. وتشير التقديرات إلى أن الحزب سيكون له دور هام في رسم مستقبل السياسة في صربيا خلال السنوات القادمة.4- تنامي حدة الاستقطاب السياسي: حيث يتسم المشهد السياسي الصربي بحالة من الاستقطاب الحاد بين اليمين الشعبوي والمعارضة؛ إذ نجحت الأحزاب اليسارية وأحزاب الوسط في تشكيل ائتلاف موحد لدخول الانتخابات؛ حيث برز اتجاهان سياسيان رئيسيان يتجاذبان الرأي العام: الأول يهدف إلى ترسيخ فكرة السياسات الوطنية والنعرات القومية، أما الثاني فيسعى إلى دعم السياسات الرامية لإدماج صربيا في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى دعمه التوجهات العالمية والعولمة. ومع التنافر الشديد بين أفكار الحزب الحاكم والمعارضة الموحدة، زادت حدة الاستقطاب، وتحولت الانتخابات إلى لعبة صفرية ينبغي أن يفوز بها أحد طرفي النقيض دون وجود هامش لتفاهمات مشتركة يمكن البناء عليها على صعيد السياسات الاجتماعية والاقتصادية والخارجية.5- تأثير الآمال المرتفعة للمعارضة: جاءت أعمال العنف أيضاً كأحد المظاهر الطبيعية لارتفاع آمال المعارضة في اقتناص فوز تاريخي بعد توحدها في ائتلاف واحد، تاركة أحزاب يمين الوسط وحيدة في موقف ضعف؛ حيث شكلت الانتخابات نتيجة تاريخية للمعارضة المؤيدة للاتحاد الأوروبي، والموحدة في ائتلاف "صربيا ضد العنف"، الذي حصل على 23.58% من الأصوات، وهو أفضل بكثير من الرقم القياسي السابق الذي سجلته أي قائمة معارضة، الذي بلغ 14% في عام 2022، وكان الائتلاف وقتها يتألف من عدة أحزاب وحركات مؤيدة للاتحاد الأوروبي، تتراوح من اليسار الأخضر إلى الوسط، كما حصل على 34.26% في الانتخابات المحلية الراهنة في بلجراد.6- تحول الانتخابات الصربية إلى حيز للصدام بين الدول الغربية وروسيا: كان العامل الخارجي حاضراً في مشهد الانتخابات الصربية كي تتحول الانتخابات إلى حيز للصدام بين الدول الغربية وروسيا؛ فقد ساهمت في إضرام المشهد داخلياً تصريحات بعض الدول الأوروبية بشأنها؛ حيث وصفت الحكومة الألمانية هذه التطورات باعتبارها غير متصورة في دولة تسعى إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي، بينما وصفتها الحكومة الفرنسية بغير المرغوب فيها في ظل مشهد يُفترض فيه الحياد، كما ذكر السفير الأمريكي في بلجراد كريستوفر هيل، في بيان له، أن "جميع مواطني صربيا لديهم الحق في أن يُستمع إليهم، كما أنهم مسؤولون عن التعبير عن آرائهم السياسية بشكل سلمي ودون اللجوء إلى العنف". وقد أدت هذه التصريحات المعيارية إلى إحداث نوع من المقاومة لدى الحزب اليميني الحاكم، الذي رأى فيها نوعاً من الدعم الخارجي أو العمالة التي يحظى بها الائتلاف المعارض.لم تكن روسيا هي الأخرى بعيدةً عن مشهد الانتخابات في صربيا، وخاصة أنها تنظر إلى الرئيس الصربي باعتباره طرفاً قريباً منها؛ فعلى سبيل المثال، أشار السفير الروسي لدى صربيا ألكسندر بوتسان-خارشينكو، أن المعارضة تسعى إلى الإطاحة بالحكومة "استناداً إلى تجربة الميدان" التي شهدت الإطاحة بالحكومة الأوكرانية المدعومة من موسكو في عام 2014، كما ذكرت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، يوم 25 ديسمبر الجاري، أنه "من الواضح أن الغرب يسعى إلى زعزعة استقرار الوضع في صربيا"، مشبهة التظاهرات في صربيا بتلك التي شهدتها كييف وأدت إلى وصول مُوالين للغرب إلى السلطة في أوكرانيا مطلع 2014. ونتيجةً لهذا الموقف الروسي، أعرب وزير خارجية صربيا إيفيكا داتشيتش، عن شكر بلاده لروسيا على الدعم الذي قدمته موسكو لضمان سلامة أراضي الجمهورية وسيادتها.الخلاصة أنه إن كانت نتائج الانتخابات المحلية والبرلمانية في صربيا هي العنصر المحفز الرئيسي لاندلاع اعمال العنف الحالية في صربيا، إلا أن مجموعة من العوامل والمسببات المتأصلة في المجتمع الصربي كانت وراء انفجار هذه الأزمة بالشكل المركب الذي ظهرت به. هذا وتشير هذه العوامل إلى أن مناخ الاستقطاب في المستقبل القريب سيكون هو السمة السائدة في المشهد السياسي، وأن عناصر التغير المستقبلي واردة وفقاً لهذه المعادلة.

لماذا أثارت الانتخابات الصربية اضطرابات داخلية؟