إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

في سياق حملة انتخابية متوترة تُمهِّد لانتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024، تكثَّفت في الآونة الأخيرة الاعتداءات على رجال السياسة والممثلين المنتخَبين في ألمانيا. ويضاعف إجراءُ الانتخابات الإقليمية في ألمانيا في سبتمبر 2024 من تزايد القلق الداخلي حول اشتداد هذه الظاهرة، خصوصاً إذا لم تتمكن الحكومة الفيدرالية من معالجة تدهورها. ولقد رأى الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير أن انتشار ظاهرة الاعتداءات هذه بمنزلة رسالة تحذيرية، بينما أدانها الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، معتبراً أنها مسلسل من حلقات التضييق غير المقبول على الممثلين السياسيين.ظاهرة متصاعدةظهرت عدة مؤشرات للدلالة على تصاعد ظاهرة العنف ضد السياسيين في ألمانيا، نسرد أهمها في التالي:1– اعتداءات شبه يومية ضد السياسيين: خلال الفترة الماضية، تصاعدت الهجمات المرتكَبة ضد المسؤولين المنتخَبين في ألمانيا بحيث أصبحت وتيرتها شبه يومية. وعلى سبيل المثال، تم في 2 مايو 2024 الاعتداء بالضرب على نائب رئيس بلدية مدينة إيسن "رولف فليس" – وهو منتمٍ إلى حزب الخضر – من قبل ثلاثة أشخاص مجهولين حينما كان يغادر اجتماعاً حزبياً. وفي 3 مايو، نُقِل عضو البرلمان الأوروبي الديمقراطي "ماتياس إيكي" المنتمي إلى الحزب الاشتراكي إلى المستشفى بعد إصابته في وجهه أثناء تعليق ملصقات انتخابية خاصة بالانتخابات الأوروبية، بعد أن هاجمه 4 شبان أعمارهم بين 17 و18 عاماً يقال إن لهم ارتباطاً بالنازيين الجدد.وفي 7 مايو، أصيبت وزيرة الاقتصاد في ولاية برلين "فرانزيسكا جيفي"، أثناء وجودها في مكتبة بضربة على رأسها من قبل رجل يبلغ من العمر 74 عاماً. وفي 9 مايو، أصيب نائبان إقليميان هما ميجيل كلاوس وهانز يورجن جوسنر من حزب البديل من أجل ألمانيا بجروح طفيفة من جراء تعرضهما لهجوم من قبل شبان أمام برلمان بادن فورتمبيرج في شتوتجارت.2– تضاعف عمليات العنف ضد السياسيين خلال السنوات الأخيرة: ومما يثير القلق في ألمانيا حيال هذه الظاهرة أن عددها تضاعف تقريباً خلال خمس سنوات؛ فوفقاً لمكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية تم ارتكاب 2790 اعتداءً في عام 2023 ضد مسؤولين منتخبين أو نشطاء من الأحزاب الممثَّلة في البوندستاج؛ وذلك بعدما تم تسجيل 1420 حالة من هذا القبيل في عام 2019. أما في عام 2022 فقد رُصِد حوالي 1806 اعتداءات ضد ممثلي الأحزاب السياسية في ألمانيا.3– استهداف عمليات العنف جميع الأحزاب ولكن بنسب متفاوتة: ومما يلفت النظر أن الزيادة الكبيرة من الهجمات بين عامي 2022 و2023 جاءت لتستهدف حزب الخضر؛ فبعدما تم تسجيل 575 عملاً إجرامياً ضد أعضاء حزب الخضر و436 ضد الحزب الاشتراكي الديمقراطي و360 ضد حزب البديل من أجل ألمانيا المتطرف و218 ضد حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في عام 2022، تعرَّض حزب الخضر لـ1219 في عام 2023 فاحتل المرتبة الثانية، يليه حزب البديل من أجل ألمانيا بـ478 هجوماً، ثم الحزب الاشتراكي الديمقراطي بـ420، وتعرض الحزب الديمقراطي الحر لـ 299 اعتداء، وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بـ295 اعتداءً.4– اتخاذ الأحزاب إجراءات طارئة لاستكمال الحملات الانتخابية: ولاحتواء تضخُّم هذه الظاهرة، قررت بعض الأحزاب في ألمانيا، كالحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، اتخاذ إجراءات تنظيمية طارئة وتطبيقها في الفترة المتبقية في الحملة الانتخابية الخاصة بالانتخابات الأوروبية في يونيو 2024 ، كما في الحملة المتعلقة بالانتخابات الإقليمية المقرر إجراؤها في سبتمبر 2024 في ولايات ساكسونيا وتورينجيا وبراندنبورج؛ حيث تؤشر استطلاعات الرأي التي تُجرَى حولها على تقدُّم اليمين المتطرف. وتقتضي هذه الإجراءات باقتصار نشاط تعليق الملصقات الانتخابية وتوزيع المنشورات على النهار فقط، كما تم إصدار توصية لمرشحي الأحزاب بعدم السفر وحدهم ومنفردين خلال الحملة الانتخابية، كما جرى الإعداد لورشات تدريب حول كيفية تعامل المرشحين مع المواقف الصعبة.5– تصاعد المخاوف من إحياء النازية في ألمانيا: تزامن تصاعد ظاهرة العنف ضد السياسيين مع إجراء محاكمتين مهمتين يتابعهما الرأي العام الألماني: الأولى هي محاكمة زعيم الجناح الراديكالي لحزب البديل من أجل ألمانيا بيورن هوكي؛ بسبب نطقه شعار "كل شيء من أجل ألمانيا" في أحد اللقاءات الانتخابية في عام 2021، وهو الشعار الخاص بكتيبة SA، وهي المليشيا شبه العسكرية التابعة للحزب النازي التي ساهمت في إيصال أدولف هتلر إلى السلطة. والثانية هي محاكمة 26 شخصاً بتهمة الانتماء إلى المنظمة المحظورة "مواطنو الرايخ "Reichsbürger" الذين اعتُقلوا في نهاية عام 2022، الذين كانوا يخططون لإعادة تأسيس الإمبراطورية الألمانية وفق حدود عام 1871. ويُحذِّر العديد من المراقبين من أن هذا الجو الحالي شبيه بالجو الذي كان مسيطراً في الحقبة الأخيرة من جمهورية فايمار (1919–1933) التي اتسمت بالعنف السياسي، الذي ساعد الاستخفاف به على استيلاء النازية على السلطة.سياق مأزومتتداخل العوامل التي حفَّزت تصاعد ظاهرة العنف ضد السياسيين في ألمانيا، التي يمكن ردها إلى المسببات التالية:1– تصاعد الخطاب اليميني المتطرف: حمَّل مسؤولون في الحزب الاشتراكي الديمقراطي من ولاية ساكسونيا بشكل مباشر المسؤولية عن توسع هذه الظاهرة لحزب البديل من أجل ألمانيا المنتمي إلى تيار أقصى اليمين، معتبرين أن بذور الكراهية التي يُضمِّنها في خطابه السياسي، بدأت تثمر لدى أنصارهم؛ بحيث أصبحوا ينظرون إلى المنافسين السياسيين على أنهم خصوم يجب إسقاطهم، كما صنفت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر هذه الاعتداءات بمنزلة هجوم خطير على الديمقراطية يُغذِّيها مناخ من العنف اللفظي الصادر عن المتطرفين والشعبويين، كما اعتبرت آراء أخرى أنه صحيحٌ أن قادة المتطرفين لم يضربوا بأيديهم بشكل مباشر، لكنهم ساهموا في خلق مناخ اجتماعي في ألمانيا شجَّع على مهاجمة السياسيين والناشطين والمتطوعين.2– اقتراب موعد الانتخابات الأوروبية: يربط بعض المراقبين تزايد عدد الاعتداءات على السياسيين في ألمانيا بعامل اقتراب الانتخابات، سواء الأوروبية في يونيو المقبل، أو الإقليمية في سبتمبر 2024، مستشهدين على ذلك بأن أرقام الاعتداءات في عام 2023 كانت نحو 2790 حادثاً، وأتت أعلى من الاعتداءات المسجلة في عام 2022 التي ناهزت 1806 اعتداءات، لكنها أدنى من المسجلة في عام 2021 التي بلغت حينها 2840. والجدير بالذكر أن عام 2021 كان العام الذي جرت فيه الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية الأخيرة.3– محاولة دفع بعض السياسيين إلى العزوف عن الترشح: ترى بعض الآراء أن اللجوء إلى استخدام العنف في مواجهة السياسيين، يعتبِر آلية ترهيب تُستخدَم لإضعاف الدافعية لدى السياسيين، كما ترى هذه الآراء أن دافع المتطرفين في الغالبية العظمى من أعمال العنف يهدف إلى تدمير أساس الديمقراطية القائم على المشاركة؛ حيث يَثني الخوف الجميع عن الحضور والمشاركة، سواء كانوا مرشحين أو ناخبين.4– تغدية الكراهية على الشبكات الاجتماعية: ترى بعض القراءات أن الأحزاب المتطرفة اغتنمت فرصة انتشار قنوات الاتصال الجديدة، كشبكات التواصل الاجتماعي، لجمع وتوحيد الذين يشاركونهم أفكارهم، كما ساعد تسلل هذه الشبكات إلى حياة السكان، وبشكل مبالغ فيه، إلى فصل هؤلاء السكان بعضهم عن بعض، ووضعتهم في مناطق فكرية معزولة تماماً عن الآراء الأخرى؛ حيث تؤدي هذه العزلة إلى تصوير الآخرين على أنهم مخطئون حتماً. وتَعتبِر هذه القراءات أن الحال على هذه الشبكات أصبح "نحن ضد الآخرين"، بحيث أصبح النقاش مستحيلاً، وصار الدفاع عن المعتقدات يتم بالعنف إذا لزم الأمر؛ لأن فوز ووصول الأحزاب المقابلة، حسب رأي المتطرفين، يمثل خطراً على السكان؛ لذلك فإنه يجب محاربتهم ليس فقط بالكلمات.5– التأثير العكسي للعقوبات المخففة: في الوقت الذي ندد فيه المستشار الألماني أولاف شولتز بهذه الاعتداءات واصفاً إياها بأنها تهديد للديمقراطية، ذكرت معظم وسائل الإعلام الألمانية أن جميع المشاركين في الاعتداء على ماتياس إيكي في مدينة دريسدن، شبان بين الـ17 والـ18 من العمر، ويرتبطون بجماعة يمينية متطرفة تعرف باسم "Elblandrevolte"، وهي مجموعة قريبة من منظمة الشباب التابعة لحزب النازيين الجدد NPD، الذي أعاد تسمية نفسه باسم "Die Heimat". ولقد اعتَبرت وزيرة العدل في ولاية ساكسونيا "كاتيا ماير" أنه يجب تشديد العقوبات على الهجمات ضد المسؤولين المنتخَبين؛ لأنه يجب عدم التسامح مع هذه الظاهرة، متعهدةً بالنظر في عقوبات أشد صرامةً. وفي 7 مايو 2024، وافق وزراء داخلية الولايات على دراسة تشديد إجراءات القانون ضد هذا النوع من الهجمات؛ حيث أوصت الوزيرة الفيدرالية للداخلية نانسي فيزر بإرسال إشارة حزم واضحة للغاية إلى المعتدين.6– تراجع الثقة بالنخب السياسية: وترى آراء أخرى أن تعرُّض قيادات ونواب من حزب البديل لأجل ألمانيا للاعتداءات أيضاً، يعني أن محفزات انتشار هذه الظاهرة أوسع من المناخ الذي يخلقه خطابهم المتطرف الذي يحض على العنف. وتَعتبَر هذه الآراء أن هناك شعوراً عارماً من عدم الثقة لدى الشعب تجاه الذين يمثلونه، بحيث أصبح الاختيار في عملية التصويت يُبنَى على رفض مشروع معين، لا على دعم مشروع معين. ووفقاً للمفكر الفرنسي بيير روزانفالون فقد حصل تغير عميق في طبيعة الانتخابات التي تشهدها معظم الدول الأوروبية؛ حيث لم يعد الأمر يتعلق بالاختيار بقدر ما يتعلق بتنفيذ عمليات التصفية. ومن هنا جاء المصطلح المستخدم لوصف هذه الحالة "إلغاء الاختيار". ويؤدي هذا التغيير إلى الوصول إلى مرحلة عدم الاعتراف بشرعية الخصوم، والتعامل معهم على أساس أنهم أعداء يجب قتالهم.وفي الخلاصة، يمكن القول إنه مثلما قامت ألمانيا بعد الحرب في أوكرانيا بمراجعة سياستها الدفاعية، فإن بعض القوى السياسية في داخلها تطالب أيضاً بالقيام بمراجعة شاملة لدراسة الأسباب التي تهدد سلامة المسار الديمقراطي في البلاد. وصحيح أن الرد على ظاهرة انتشار العنف هو الذهاب والتصويت بكثافة في انتخابات يونيو 2024 لإثبات عدم الخضوع للترهيب، كما طالب أولاف شولتز، ولكن هذا لا يعفي الدولة الألمانية – حسب رأي البعض – من مسؤولية عدم تشديد قبضتها على المُحفِّزين على العنف.&nbsp;

لماذا تزايدت الاعتداءات ضد السياسيين في ألمانيا؟