أتى اندلاع أحداث الشغب والعنف الحضري في فرنسا بعد وفاة الشاب نائل برصاص ضابط شرطة في 27 يونيو 2023، ضمن فترة المئة يوم من التهدئة التي طلبها رئيس الجمهورية الفرنسي إيمانويل ماكرون. هذه التهدئة التي تم طلبها، بناء على احتدام المواجهة بين السلطة والمعارضة والنقابات، من جراء إقرار قانون إصلاح نظام التقاعد، لم يكتب لها النجاح؛ حيث تخللتها أحداث عنف متفرقة عديدة، كواقعة مدينة آنسي، وتفجر الشارع الفرنسي بشكل غير مسبوق نتيجة حادثة الضاحية الأخيرة؛ ما يطرح تساؤلات عميقة حول الأسباب التي أدت إلى جنوح المجتمع الفرنسي نحو العنف بهذا الشكل غير المعهود، وخصوصاً مع الأطروحات التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة، وما ارتبط بها من تقديم مصطلحات جديدة لتفسير الظاهرة، ولعل أبرزها مصطلح "نزع الحضارة" (Décivilisation) الذي روج له الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" معتبراً أن تعاقب الأحداث العنيفة داخل فرنسا يوضح أنه منذ بعض الوقت هناك شكل من أشكال نزع الحضارة في فرنسا.

مؤشرات خطيرة

تُظهِر العناصر التالية تخطي العنف مستويات كانت تُعد سابقاࣧ من المحرمات لدى مثيري الشغب، وهذه العناصر كشفتها الأحداث التي عرفتها فرنسا مؤخراࣧ أو هي مرتبطة بالفترة الزمنية التي سبقتها بوقت قليل. ويمكن تناول هذه المؤشرات على النحو التالي:

1- تزايد أعداد مثيري الشغب من فئة القاصرين: أظهرت أرقام وزارة الداخلية الفرنسية أن نحو 30% من المعتقلين في أحداث الشغب التي تلت وفاة الطفل نائل هم من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماࣧ؛ ما ينذر بمشكلة اجتماعية خطيرة قادمة داخل المجتمع الفرنسي، خصوصاࣧ في حال عدم تصويب انحراف هؤلاء المراهقين. وعلى الرغم من أن خروج قاصر للمشاركة في أعمال العنف يكشف عن مشكلة تربوية وعائلية، فإن الخطورة الكبرى تكمن في أن هؤلاء المراهقين هم أكثر عرضة للتلاعب والتأثير من البالغين، وربما يتم دفعهم إلى ارتكاب أنواع أكثر شراسة من العنف في المرات القادمة.

هذا ويعتبر القاصر تحت سن الثالثة عشرة غير مسؤول جنائياࣧ حسب القانون الفرنسي. أما من هم بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة فيمكن مقاضاتهم في محاكم تخص الشباب. وفي معظم الأحيان، تكون التدابير المتخذة في حقهم عبارة عن إلزامهم بالقيام بعمل مجتمعي، عادة لا يتم تنفيذه بسبب افتقار الحكومة الفرنسية إلى وسائل للإشراف على ذلك. وفي أغلب الأحيان يتولد شعور لدى القاصر بأن سلوكه المنحرف لم يعرض مستقبله للخطر؛ ما يدفعه إلى معاودة المشاركة في عمليات العنف الحضري (Violences urbaines) من جديد فور إطلاق سراحه.

2- التوسع الجغرافي لدائرة العنف: بالمقارنة بأعمال الشغب السابقة، خصوصاً في عام 2005، لم يعد العنف يقتصر على الأحياء المأزومة والضواحي، بل أصبح أكثر انتشاراࣧ نحو الأحياء البرجوازية ومراكز المدن الكبرى (في باريس وليون وليل وستراسبورج وجرونوبل …). كما امتد الشغب إلى مدن صغيرة لم تشهد في السابق عمليات إحراق وشغب. ويكشف توسع الرقعة الجغرافية للعنف عن التأثر بحراك السترات الصفراء (Gilets Jaunes) في 2019 والكتل السوداء (Black Bloc) في 2023؛ حيث أدرك شباب الضواحي أنهم إذا هاجموا مراكز المدن والمناطق المعروفة بالهدوء، فسيشكل ذلك تحدياࣧ أكبر السلطة.

3- مهاجمة مسؤولين مدنيين: حيث لم يعد الشرطي هو المستهدف الوحيد من قبل مثيري الشغب، بل توسعت الدائرة لتشمل مسؤولين منتخبين ورؤساء بلديات؛ حيث تعرض منزل فينسينت جانبرون رئيس بلدية L’Hai-les-Roses للهجوم ومحاولة الإحراق، كما تم إضرام النار في منزل رئيس بلدية La Riche، وفي Cholet تعرض المنزل السابق لرئيس البلدية للنهب، كما تعرض رئيس بلدية Pontoise لاعتداء بدني.

وتبين أن نشر 45 ألفاً من ضباط وعناصر الشرطة الفرنسية – وهو رقم غير مسبوق في تاريخ عمليات حفظ النظام في فرنسا – غير كافٍ للسيطرة على الاحتجاجات التي عمت مختلف الأراضي الفرنسية؛ حيث إن مثيري الشغب يتنقلون بأعداد صغيرة وبسرعة كبيرة مقارنة بالتظاهرات الكبرى التي تعودت الشرطة الفرنسية على التعامل معها والتي تكون وجهتها معروفة ومتفقاً عليها سلفاࣧ، على عكس عمليات العنف الحضري الحالية؛ حيث يصبح من شبه المستحيل تأمين حماية كل المدارس والبلديات والمركز التجارية وحافلات النقل مهما كان عدد الشرطة كبيراً .

4- إدخال مصطلحات جديدة في الخطاب السياسي الفرنسي: مثل مصطلح "نزع الحضارة" (Décivilisation) الذي أوحى به إلى الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" مدير مؤسسة IFOP جيروم فوركي Jérôme Fourquet أثناء لقاء حواري في قصر الإليزيه في 23 مايو 2023 مع نخبة من المفكرين، وحاول فوركي لفت نظر ماكرون إلى أن ما يحدث في فرنسا من عنف يومي لا ينضوي تحت خانة "المتفرقات"، بل هو مرتبط بعملية تفكك كبيرة تصيب جميع شرائح المجتمع الفرنسي، واضعاࣧ لها توصيفاࣧ عاماࣧ هو عملية نزع الحضارة.

نال استخدام هذا المصطلح إعجاب "ماكرون" الذي عمل على استعارته مباشرة في اليوم التالي؛ أي في 24 مايو خلال اجتماع لمجلس الوزراء، معتبراࣧ أن تعاقب الأحداث العنيفة داخل فرنسا يوضح أنه منذ بعض الوقت هناك شكل من أشكال نزع الحضارة في فرنسا، مضيفاࣧ أنه لا يوجد عنف مشروع وأنه يجب أن "نعمل بعمق للتصدي لعملية نزع الحضارة هذه". وهذا المصطلح هو أيضاࣧ عنوان لكتاب ألفه المفكر الفرنسي رينود كاموRenaud Camus ، المحسوب على تيار اليمين المتطرف في عام 2011، وهو صاحب نظرية "التحول الكبير" (Le Grand Remplacement) أي الاستعاضة عن الشعب الفرنسي الأصلي بـعدد من المهاجرين من أفريقيا والمغرب العربي. ويرتبط هذا المصطلح أيضاࣧ بكتابات عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس Norbert Elias الذي كان يدرس الأسباب الجذرية التي أدت إلى وصول النازية إلى الحكم في ألمانيا.

5- تبادل الاتهامات باشتداد العنف المجتمعي: وكان قد سبق دخولَ مصطلح نزاع الحضارة في دائرة الخطاب السياسي الرسمي في فرنسا نتيجة لانتشار العنف، استخدامُ جيرالد دارمانين وزير الداخلية الفرنسي الجديد في يوليو 2020 مصطلح "توحش المجتمع" (l’ensauvagement de la société) متوعداࣧ بوضع حد له. وكان ماكرون قد اعتبر – بعد أحداث الشغب التي شهدها شارع الشانزليزيه، عقب نهائي دوري الأبطال في أغسطس 2020 بين فريقي بايرن ميونخ الألماني وباريس سان جيرمان الفرنسي – أن هناك استهانة في اللجوء إلى استخدام العنف (Banalisation de la violence) في فرنسا وأن هذه الظاهرة ليس جديدة، لكنها تسارعت بعد الخروج من الإغلاق الخاص بجائحة كورونا. وفي جهة مقابلة، اعتبر نحو 65% من الفرنسيين في استطلاع رأي خاص بمقياس أوداكسا (Odoxa) جرى في أبريل 2023 أن ماكرون يتعامل بوحشية وقسوة مع التظاهرات المعترضة على إصلاح قانون التقاعد.

6- تزايد عنف الشرطة: مهدت المادة 435-1 من قانون الأمن الداخلي، التي أقرت في عام 2017، الطريق لمفهوم واسع للدفاع عن النفس، وتسببت في العديد من حالات الوفيات في الأعوام الأخيرة. وُلدت هذه المادة من جراء تعرض الشرطة لتهديدات أمنية جسيمة، لا سيما في قضية فيري شاتيون (Viry Châtillon)؛ حيث تم إحراق عناصر من الشرطة داخل سيارتهم أثناء تأدية الخدمة، وفي قضية ماناينفيل (Magnanville)؛ حيث قُتل زوجان من الشرطة داخل منزلهما نتيجة هجوم إرهابي.

وأدت هذه الأحداث إلى إطلاق حملة احتجاجية عفوية من خارج النقابات من قبل عناصر الشرطة حاولت قوى أقصى اليمين استغلالها، فقامت نقابات الشرطة بتنبيه الرئيس الفرنسي حينها فرانسوا هولاند ووزير داخليته برنارد كازنوف من أجل اتخاذ إجراءات سريعة، خوفاً من تجاوزها ومن زيادة سيطرة قادة اليمين المتطرف على الشرطة؛ لذلك تم تبني هذه المادة في فبراير 2017؛ بحيث تم تحديد ظروف جديدة أكثر تساهلاً تتيح للشرطي استخدام سلاحه. ونتيجة لذلك أصبحت فرنسا تتبوأ المركز الأول بين الدول الأوروبية من حيث الدموية؛ فبينما يسقط على أيدي الشرطة الألمانية قتيل واحد كل سنة، فإن هذا العدد يتحول عند الشرطة الفرنسية إلى قتيل واحد كل شهر.

7- تصاعد جدل التعسف في استخدام القوانين: ومن الحالات التي يحق فيها للشرطي إطلاق النار وفق المادة 435-1 من قانون الأمن الداخلي، الحالة الرابعة التي تتكلم عن "رفض الامتثال" (Refus d`otempérer)، وهي فكرة إشكالية لأنها تنطوي على عملية تحليل ذاتي يقوم بها الشرطي، وعادةً ما يتم استغلالها لنقل المسؤولية في عملية إطلاق النار وتحميلها للضحية وتبرير عنف الشرطة. وتتعلق هذه الحالة بالسائق الذي يرفض التوقف عند أمر موجه له من قبل عناصر الشرطة؛ فإذا قدَّر هؤلاء العناصر أن عدم الامتثال سيؤدي في اللحظات التالية إلى تعرضهم للخطر فإنه يحق لهم إطلاق النار تحت ذريعة الدفاع عن النفس.

ويشبه الفيلسوف الألماني كارل شميت في كتابه "الدكتاتورية" (Dictatorship) حالة الاستثناء في سياقها السياسي بحالة الدفاع عن النفس في سياقها القانوني؛ فبالنسبة إليه، فإنه كما يمكن للسياسي أن يُقر الوضع الاستثنائي بمفرده، يمكن للشرطي أن يُقر إذا ما كان يواجه حالة من حالات الدفاع عن النفس بمفرده أيضاࣧ. وهذا المنطق يتعارض لدى البعض مع مبدأ سيادة القانون الذي يفترض على العكس أن القانون يشرف على إجراءات الشرطة وأنه لا يحق لمن يمتلك السلطة أن يمارس حتى بعض التعسف في تطبيق القانون؛ لأن التقليل من مخاطر التعسف قد يؤدي إلى نتائج وخيمة، وهذا ما حدث مع دولة مثل فرنسا التي تساهلت في استخدام طائرات بدون طيار لمراقبة التظاهرات، من دون أي إطار قانوني، وسمحت لأفراد الشرطة بإطلاق النار عند حدوث حالات من رفض الامتثال، بناء على تقييماتهم الذاتية، والنتيجة كانت تفجر الشارع من جراء مقتل الشاب الجزائري نائل.

تحولات مجتمعية

عرف المجتمع الفرنسي مؤخراࣧ مسارات غير متجانسة ومحددات اقتصادية وسياسية ربما كانت سبباࣧ في إحداث تحولات عميقة بداخله؛ بحيث أدت إلى بروز العنف أداةً بديلةً للتعبير عن الخيارات السياسية، ونلخص أبرز هذه المسارات فيما يأتي:

1- تأزم نموذج الاندماج الفرنسي: ترى بعض الآراء أن العنف الحضري شكل من أشكال التعبير السياسي والمقاومة من أسفل الهرم؛ لإيصال مطالب مكتومة لا تستمع لها السلطة وتنتهي إلى جر مطلقيها نحو العنف باعتباره وسيلة وحيدة لإيصال صوتهم. وكان قد سبق هذا الانفجار محاولات للفت نظر الرئيس الفرنسي ماكرون إلى ضرورة إنعاش نموذج الاندماج الفرنسي(Modéle d`intégtation) قبل فوات الأوان؛ بدءاً من خطة بورلو(Plan Borloo) التي تم عرضها على ماكرون في عام 2018 ورفضها وهي خطة قائمة على إطلاق تدابير بقيمة 5 مليارات يورو لإنشاء مدن تعليمية وإعادة تنشيط الوكالة الوطنية للتجديد الحضري (ANRU)ودعم توظيف الشباب المقيمين في الأحياء المأزومة والضواحي.

وفي نوفمبر 2020 توجه 110 من رؤساء البلديات بنداء إلى ماكرون لحثه على فعل شيء؛ لأن الوضع في الأحياء الشعبية حساس للغاية، خصوصاً بعد مرحلة الإغلاق المرتبط بجائحة كورونا، كما قام 30 مسؤولاࣧ منتخباࣧ في مايو 2023 بتنبيه ماكرون مرة جديدة إلى ضرورة وضع خطة طوارئ للضواحي. وصحيح أنه يمكن إيجاد حل عنفي لإرضاخ سكان الضواحي لكن هذا الحل – حسب نظرية المفكرة السياسية الألمانية حنة أرندت Hannah Arendt – لا يمكن أن يعمر طويلاࣧ من دون أن يضرب الاستقرار؛ حيث إنها تعتبر أن السلطة والعنف هما طرفا نقيض، وقد يحدث أن يتم اللجوء إلى العنف لتعويض نقص في السلطة، ولكن الكثير من استخدام العنف يؤدي إلى الإطاحة بالسلطة وإلى انتشار الفوضى.

2- تدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية: تدور تساؤلات حول العلاقة التي تربط بين اندلاع أعمال العنف والجوع، ومدى تأثير الأزمة الأوكرانية على الوضع الداخلي الحالي في فرنسا، لا سيما أن استهلاك المواد الغذائية في فرنسا شهد انخفاضاࣧ غير مسبوق بنسبة 20% بسبب ارتفاع أسعارها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. والأسباب الكامنة وراء ذلك تتمثل في اعتماد السوق الفرنسية على الأسمدة الكيمياوية التي تأتي من روسيا وبيلاروسيا، وعندما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا تراجع وصول هذه الأسمدة؛ ما أدى إلى نشوب أزمة غذائية لم يفكر أحد في عواقبها على المدى الطويل؛ لأن الحرب أثارت عاطفة جماعية لدعم أوكرانيا، ولأن المزارعين كانوا دائماً يشكلون فئة مُهملة داخل المجتمع الفرنسي.

صحيح أن مثيري الشغب لم يذكروا نقص الغذاء كسبب رئيسي لغضبهم بعد مقتل المراهق "نائل" على يد الشرطة، ولكن العديد من المقالات الصحفية والصور توقفت أمام مشهد طوابير الطلاب المستجد أمام بنوك الطعام التي توزع الوجبات الغذائية بالمجان، وربما يفسر هذا فيما بعد مشاهد نهب محلات السوبر ماركت وعمليات السرقة التي شهدتها الأحداث الأخيرة .

ولقد ربط الاقتصاديون وعلماء الاجتماع بين الجوع وتزايد العنف؛ فعندما لا يأكل الناس كما تعودوا على ذلك، يزداد السخط والتوتر عندهم وقد تُحوِّل أي شرارة صغيرة هذا السخط إلى انتفاضة عنيفة. ويستذكر مؤيدو وجهة النظر هذه، تداعيات رفع الرقابة عن أسعار الخبز في فرنسا في عام 1775، التي أدت إلى وقوع نحو 300 عملية شغب في جميع أنحاء فرنسا والتي عرفت تحت تسمية "حرب الطحين"، ومن ثم فإنه يمكن القول إن الارتفاع المفاجئ في تكلفة المعيشة للحصول على الضروريات الأساسية للحياة قد يشكل خطراࣧ على النظام العام، ويُقال بأن ثلاث وجبات في اليوم هي الحد الفاصل بين الحضارة والهمجية.

3- معضلة تجانس طبقة المهمشين: يحاول البعض عبر العودة إلى نظرية الفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنير Pascal Bruckner حول اللومبين بروليتاريا (Lumpenprolétariat) تفسير انتشار العنف الذي تعرفه فرنسا حالياࣧ. وتعني اللومبين بروليتاريا الفئة الأكثر فقراࣧ وتهميشاࣧ من البروليتاريا، التي قد تنتقل تحت ظروف معينة إلى ردود أفعال عنيفة مفرطة، ولكن من دون أن يجمعها مع بقية الطبقة العاملة أي ضمير طبقي موحد أو شعور بوحدة المصير؛ فهم يعيشون خارج المجتمع، وليس لديهم بوصلة أيديولوجية أو أخلاقية، ويتبعون مصالح قصيرة الأجل، ولكن لديهم إمكانات تخريبية كبيرة ضد البرجوازية؛ بحيث يصنفها المفكر الفرنسي فرانتز فانون Frantz Fanon من ضمن أكثر القوى العفوية ثوريةࣧ وجنوحاࣧ نحو العنف.

ويتم الربط بين تحرك شباب الضواحي وبين اللومبين بروليتاريا بعد عمليات النهب والإحراق والسرقة التي شهدتها فرنسا مؤخراࣧ، ويبقى النقاش الأكبر الدائر لدى قوى اليسار الراغبة في تأسيس ثورة اجتماعية جديدة في فرنسا حول كيفية الاستفادة من العنف الأعمى لدى هذه الفئة لتحويله إلى عنف بنَّاء لإحداث التغيير، وكيف يمكن تحويل التعبير عن الغضب ضد الشرطة إلى مطالب سياسية واضحة، وخصوصاࣧ أن الأعمال التخريبية التي يقوم بها هؤلاء تؤثر على البنية التحتية للأحياء التي يعيشون بداخلها مع غيرهم من العمال المهمشين أيضاࣧ، بما فيها من مدارس ومكتبات ومتاجر ووسائل نقل؛ فإذا كان مفهوماࣧ توجه الكتل السوداء (Black bloc) في أدائها العنيف نحو استهداف رموز محددة للرأسمالية، فكيف يمكن فهم عمليات نهب المتاجر وإحراق محطات النقل ومراكز البريد التي يستخدمها الفقراء أيضاً، وهي العمليات التي يقوم بها هؤلاء الشبان؛ لذلك فإن هناك انقساماࣧ لدى قوى اليسار في فرنسا بين آراء تدفع نحو دعم هذه الحركة العنيفة الموسومة باللومبين بروليتاريا وبين من يرى أنه لا طائل من دعمها؛ لأنها مع أول تقديمات بسيطة من قبل السلطة فإنها ستعود إلى الاستكانة والرضوخ.

4- اختفاء الانقسام بين اليمين واليسار : عامل آخر ساهم في زيادة التطرف هو سعي قوى سياسية معينة في فرنسا لأخذ أفكار معسكري اليمين واليسار بعد التقليل من بُعدها الأيديولوجي إلى الحد الأدنى ونسبتها إلى نفسها، والقول بأنها خارج الاصطفافات المعهودة تحت حجة أنها أرهقت فرنسا تماماࣧ كما فعل ماكرون منذ عام 2017 شارحاࣧ ذلك في كتابه الذي سماه ثورة (Révolution)؛ ما أدى إلى نشوء ارتباك سياسي وإضعاف للديمقراطية في فرنسا؛ لأنه لمعارضة ماكرون (الذي يقول إنه تجاوز انقسام اليمين–اليسار) فإنه أصبح لا مفر من الذهاب إلى أبعد من ذلك؛ أي إلى القوى المتطرفة في أقصى اليمين وفي أقصى اليسار، والالتحاق بركب الراديكاليين.

ومن خلال استمرار هذا النهج في الحكم، فإن الأمل بحدوث تناوب على السلطة يتلاشى لدى البعض؛ حيث يشعرون بأنهم مكبلون وبأن أفكارهم التي يحلمون بها، لن يصل إلى السلطة أحد ليطبقها لهم. إن مقدرة ماكرون على الجمع بين كونه أصغر رئيس شاب يصل إلى الرئاسة في فرنسا وبين اقتناع شريحة كبار السن والأغنياء بالتصويت له وابتعاد فئة الشباب عن تأييده، تبين أسباب نشوب جولات من العنف غير المسبوق خلال أوسع حركة تعبئة شعبية عرفتها فرنسا في تاريخها لرفض إقرار قانون إصلاح نظام التقاعد في 2023 وخلال انتفاضة السترات الصفراء في 2019 .

ختاماً، تؤشر الأحداث الأخيرة في فرنسا على حدوث قطيعة بين شريحة من الشعب الفرنسي وقواه الحاكمة؛ فالمرحلة التي كان يتم فيها بناء الهيمنة وفق أسس اللعبة الديمقراطية وبرضا المحكومين يبدو أنها قد انتهت، وتم الانتقال بعدها إلى مرحلة جديدة بحيث يتم فرض الطاعة فيها من قبل السلطة بأساليب قسرية. ويبدو أنه لإيجاد باب للخروج من دوامة العنف هذه، لا بد من التفكير في كيفية تطبيق الشعار الذي تم رفعه خلال تظاهرات الحداد المتضامنة مع الشاب نائل بأنه "لا سلام من دون عدالة ".

لماذا تزايد العنف في المجتمع الفرنسي؟