د. محمد عباس ناجي

أصبح الارتباك هو السمة الرئيسية في تعامل إيران مع الضغوط المتصاعدة التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضدها. فقد رد المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي مجدداً، في 8 مارس 2025، على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي أشار فيها إلى أنه وجه رسالة إلى الأول يدعوه فيها إلى إجراء مفاوضات، برفض هذا العرض مجدداً، مؤكداً أن "إيران لن تتفاوض مع قوى متغطرسة".لكن في مقابل ذلك، أكدت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة، في 9 مارس 2025، في تغريدة على حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، أن "إيران لا تستبعد التفاوض"، مشيرة إلى أن إيران سوف تدرس إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية إذا كان الهدف هو بحث المخاوف الخاصة بوجود جانب عسكري للبرنامج النووي الإيراني. وربما يطرح ذلك دلالتين: أولاهما، أن هذه الضغوط التي يمارسها الرئيس ترامب على إيران بدأت تنتج ارتدادات على الأرض، على نحو بات يفرض خيارات محدودة أمام إيران. وثانيتهما، أن هناك انقساماً واضحاً داخل دوائر صنع القرار في إيران إزاء جدوى التفاوض مع ترامب في التوقيت الحالي، وهذا الانقسام هو الذي يفسر أسباب هذه "الرسائل المزدوجة" التي توجهها طهران إلى واشنطن في آن واحد.رؤية طهرانيمكن تفسير إبداء إيران استعدادها لإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:1- سعي إيران لتخفيض سقف التفاوض مع ترامب: تسعى إيران عبر ذلك إلى تخفيض سقف التوقعات الخاصة بالحدود التي يمكن أن تصل إليها المفاوضات المحتملة مع الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة القادمة. وبمعنى أدق حصر القضايا التي يمكن أن تكون محوراً لهذه المفاوضات المحتملة، بحيث لا تخرج فقط عن إثبات الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني. وربما يكون ذلك هو ورقة الضغط الأساسية التي تحاول إيران التلويح بها في مواجهة ضغوط ترامب. إذ ترى أن ما يهم الأخير هو أن تكون نتيجة المفاوضات هو إبعاد إيران عن مرحلة إنتاج القنبلة النووية، والتي اقتربت منها بشكل كبير خلال المرحلة الماضية، بعد أن زادت من كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% لتصل إلى نحو 250 كيلوجراماً، على نحو يمكنها –في حالة اتخاذ قرار سياسي– من امتلاك القدرة على إنتاج 6 قنابل نووية.ووفقاً لرؤية طهران، فإنها تستطيع بسهولة إثبات سلمية البرنامج النووي، أو بعبارة أكثر وضوحاً نزع المكونات التي يمكن أن تؤدي إلى عسكرته، على غرار كميات اليورانيوم المخصب بما يزيد على 3.5%. وربما يكون ذلك هو محور العرض الذي تحتفظ به إيران ويمكن أن تقدمه عند اللزوم في حالة وصول المفاوضات المحتملة إلى مرحلة متقدمة، والذي يقضي بوضع آلية للتعامل مع الكميات التي قامت إيران بتخصيبها على مدى أكثر من 6 سنوات، منذ انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي في مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات على إيران بداية من 6 أغسطس من العام نفسه، وإعادة حصر عمليات التخصيب في منشأة واحدة فقط، وغيرها من البنود الفنية التي يمكن الوصول إلى توافق بشأنها.2- تضييق هامش المناورة أمام النظام الإيراني: ربما ترى إيران أن الأفضل إجراء مفاوضات مع واشنطن في المرحلة الحالية بدلاً من تأجيلها لتوقيت آخر قد تتعرض فيه إيران لضغوط وتحديات أكبر. وبمعنى آخر، فإن إيران ربما بدأت تدرك أن الضغوط الحالية قد تتفاقم تدريجياً في المرحلة المقبلة، على نحو سوف يساهم في تضييق مساحة الحركة وهامش المناورة المتاح أمامها في حالة إجراء مفاوضات مستقبلاً، وبما يضعها في موقع ضعيف على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة.3- مخاوف من صعود النفوذ الإقليمي لقوى منافسة: لا تنحصر الضغوط التي تتعرض لها إيران حالياً في تهديدات ترامب واستعدادات إسرائيل للعمل العسكري، ولا حتى في العقوبات الاقتصادية التي يتوقع أن تتزايد تأثيراتها تدريجياً، وإنما تمتد إلى مسارعة قوى إقليمية عديدة إلى اكتساب أرض جديدة على حساب إيران نتيجة تراجع نفوذها الإقليمي.وقد بدأت التصورات الإيرانية تصل في هذا السياق إلى سيناريوهات لم تطرح من قبل، على غرار تدخل تركيا، التي تصاعد نفوذها الإقليمي بعد سقوط النظام السوري السابق في ديسمبر 2024، لانتزاع مناطق الأذريين في إيران وضمها لأذربيجان التي تتحين الفرصة لتوسيع نطاق حدودها، بالتعاون مع تركيا وإسرائيل في هذا الصدد. ووفقاً لرؤية طهران، فإن التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في أواخر فبراير 2025، وانتقد فيها النفوذ الإقليمي الإيراني لم تكن من فراغ، وإنما كانت نتيجة مقاربة جديدة تعمل أنقرة على تبنيها وتحويلها إلى خطوات إجرائية على الأرض لاستثمار تراجع هذا النفوذ، والحصول على مكاسب استراتيجية من خلاله.4- تجنب إيران التعرُّض لضربة عسكرية كبيرة: لا تستبعد إيران بالفعل إمكانية التعرض لضربة عسكرية قوية خلال المرحلة القادمة. وفي رؤيتها، فإن هذه الضربة قد تكون تداعياتها أكثر قوة وتأثيراً من تلك التي تعرضت لها في 26 أكتوبر 2024، والتي شنتها إسرائيل باستخدام 100 مقاتلة قامت بتنفيذ مهامها على 4 موجات متتالية، أسفرت -حسب الرواية الإسرائيلية- عن تدمير منظومة الدفاع الجوي الإيرانية.ويبدو أن طهران بدأت تأخذ رسائل التهديد المتتالية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ضمن حساباتها. فقد تعمدت وزارة الدفاع الأمريكية إجراء جوي تدريب مشترك مع إسرائيل استخدمت فيه القاذفة الاستراتيجية من طراز "بي 52"، في 6 مارس 2025. كما نفذت إسرائيل في جبل الشيخ بسوريا، في 7 من الشهر نفسه، محاكاة لهجوم جوي ضد المنشآت النووية الإيرانية في ظل تشابه التضاريس في هذه المنطقة مع جبال إيران.5- تخوف طهران من صفقات موسكو وواشنطن: لم تغلق إيران الباب تماماً في وجه الجهود التي تبذلها روسيا من أجل التوسط بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول البرنامج النووي، لكنها في الوقت نفسه تخشى من الحدود التي يمكن أن تصل إليها التفاهمات بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على خلفية التحسن الواضح في العلاقات بين الطرفين، والذي انعكس في اللقاءات المستمرة والمباشرة بين المسؤولين الأمريكيين والروسيين للتوصل إلى تسوية للأزمة التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية. ففي رؤية طهران، فإن موسكو ربما تلوح لواشنطن بورقة علاقاتها مع إيران، من أجل الحصول على امتيازات أكبر، وتقديم تنازلات أقل فيما يتعلق بالصفقة التي يمكن التوصل إليها فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا.وقد بدأ الجدل يتزايد بالفعل داخل إيران حول مدى إمكانية التعويل على "الصديق" الروسي في ممارسة دور الوسيط بين واشنطن وطهران، في ضوء الخلافات العالقة بين طهران وموسكو، فضلاً عن عزوف الأخيرة –حتى الآن– عن الاستجابة لبعض مطالب الأولى، لا سيما ما يتعلق بالحصول على مقاتلات حديثة من طراز "سوخوى 35"، وتعزيز منظومة الدفاع الجوي الإيرانية التي تعرضت لضرر كبير بفعل الضربات العسكرية الإسرائيلية في 26 أكتوبر 2024.ختاماً، يمكن القول إن إيران سوف تعمد خلال المرحلة القادمة إلى اتباع المقاربة نفسها التي سبق أن تبنتها في التعامل مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، عندما لم تتفاوض حول البرنامج النووي نفسه، وإنما تفاوضت حول حدود هذا البرنامج، وهو ما مكّن في النهاية من الوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1" في يوليو 2015، والذي تحول إلى ما أطلق عليه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل جروسي "قشرة فارغة". وبمعنى أدق، فإن أقصى ما يمكن أن تقدمه إيران في هذا السياق هو إعادة تطوير هذا الاتفاق بحيث يستوعب التطورات الجديدة التي طرأت على البرنامج النووي دون الوصول إلى مرحلة تفكيكه.

هل تُغير إيران موقفها من التفاوض مع ترامب؟