عرض: د. إيمان أحمد عبد الحليم

أصدر الكاتب "ريتشارد هاس" الدبلوماسي الأمريكي المخضرم رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية، في يناير 2023، كتاباً جديداً بعنوان: "وثيقة الالتزامات: العادات العشر للمواطنين الصالحين"، وهو الكتاب الذي نشرته مؤسسة "Penguin Random House"، ويتناول أخطر التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة، ومن ثم يضع دليلاً لكيفية إعادة تصور المواطنة الصالحة في عصر الانقسام، دعماً للديمقراطية الأمريكية، من خلال الإجابة على تساؤل رئيسي مفاده: كيف يمكن للأمريكيين إعادة اكتشاف واستعادة المواقف والسلوكيات التي أسهمت كثيراً في نجاح بلادهم على مدار القرون الماضية؟

تهديدات الداخل

وفقاً للكاتب، فإنه على الرغم من أن الدولة الأمريكية تواجه تهديدات خطيرة من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران والإرهابيين وتغير المناخ والأوبئة المستقبلية، وغير ذلك؛ فإن أكثر التهديدات للأمن والاستقرار الأمريكي لا تأتي من الخارج، بل من الداخل، مع تنامي حدة الانقسامات السياسية التي أثارت التساؤلات حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية ذاتها، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1– كشْف أحداث "الكابيتول" عن انقسام المجتمع الأمريكي: أوضحت أحداث اقتحام مبنى الكابيتول، في 6 يناير 2021، وفي إطار محاولات أخرى لتجاوز نتائج الانتخابات الرئاسية لذلك العام، أن الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلى مستوى نوعي مختلف وخطير، مع وجود أدلة على أن بعض أعضاء الكونجرس، بل حتى رئيس الدولة حينها والمقربين منه، لم يكونوا على دراية فقط بما تم التخطيط له، بل كانوا متورطين بشكل وثيق.

وعلى الرغم من أن تنصيب الرئيس الجديد تم بعد أسبوعين من تلك الأحداث، لتثبت الديمقراطية الأمريكية مدى مرونتها، فإن الأحداث ألقت الضوء على حقيقة أن أقدم ديمقراطية في العالم ليست محصنة ضد التراجع الديمقراطي، وهو اتجاه عالمي على مدى العقدين الماضيين، في ظل الخطر المحدق الذي يمكن أن يواجه الانتقال السلمي للسلطة في الدولة، والذي اعتبره الأمريكيون أمراً مفروغاً منه على مدى القرون الماضية، حتى في أوقات الحروب والأزمات، خاصةً أن نسبة كبيرة من المواطنين لا تزال ترفض نتائج انتخابات نوفمبر 2020، تأثراً بمزاعم بعض الجمهوريين حول نزاهتها.

2– تأثير الانقسامات السياسية على الديمقراطية الأمريكية: في ظل هذا الوضع الذي قد يؤدي إلى انتخاب رئيس يعتبره عدد كبير من الناخبين غير شرعي، ستزداد احتمالية انتشار العنف بشكل حاد، وفي ظل تراجع القدرة على التوصل إلى سياسات متفق عليها لتقوية معايير وقيم الديمقراطية الأمريكية؛ الأمر الذي من شأنه أن يجعل من شبه المستحيل على الدولة معالجة العديد من مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أو حتى الاستفادة من إمكاناتها لتعزيز النفوذ؛ لتُعطِّل مثل هذه الأحداث الاقتصاد والمجتمع على حد سواء؛ إذ يمكن أن تتدهور الخدمات العامة الأساسية أو تنهار بالكامل، ويمكن تعليق الحقوق السياسية والمدنية المأخوذة كأمر مسلم به أو المساس بها.

والأخطر هو احتمالات انتشار وتوسع العنف، سواء من قبل المجرمين العاديين، أو الذين لديهم أجندة سياسية، وهو ما يتفق مع تعريف الإرهاب، مع عدم استبعاد محاولة الانفصال عن الاتحاد من قبل ولاية أو أكثر على نحو تام، حتى إن كانت الغالبية العظمى من الأمريكيين لا تزال تعارض ذلك، وخصوصاً مع تزايد حدة الانقسام بالدولة، وتنامي عدد الولايات المصنفة إما "حمراء" بصلابة (تميل دائماً إلى الجمهوريين والمحافظين) أو "الزرقاء" (ذات الميول التقدمية والديمقراطية)، في مقابل أن عدد الولايات الأرجوانية أو المتأرجحة آخذ في الانخفاض.

3– انعكاس التهديدات الداخلية على نفوذ واشنطن الخارجي: لا يتوقف خطر التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة عند المجال الداخلي فحسب؛ ذلك أن تدهور الديمقراطية له أيضاً عواقب سلبية على قدرة مؤسسات الدولة على الاتحاد في مواجهة المخاطر الخارجية المختلفة؛ فالانقسامات السياسية العميقة تجعل من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – تصميم وتنفيذ سياسة خارجية ثابتة وقوية في وقت يؤثر فيه ما يحدث في العالم بعمق على ما يحدث في الداخل، ويجعل من الصعب أيضاً تحقيق التضامن الداخلي المطلوب للمساعدة في الاستجابة الدولية الفاعلة لأزمات وتحديات عالمية أخرى يمكن أن تتكثف خلال هذا القرن، بما في ذلك – على سبيل المثال – الأمراض المعدية وتغير المناخ وانتشار الأسلحة النووية والإرهاب.

وبالمثل، لا يمكن لدولة في حالة حرب مع نفسها أن تكون قدوة للشعوب الأخرى للاقتداء والتأثر بها، وبما يعني أيضاً أن إخفاق الديمقراطية في الداخل يستتبعه تعرض الديمقراطيات الأخرى للخطر في كل مكان، وبما يتيح الفرصة على الجهة الأخرى للأنظمة الاستبدادية لتبرير قمعها وممارساتها بحق مواطنيها.

أسباب الأزمات

يعتبر "هاس" أن تنامي المشكلات الأمريكية يرتبط بأزمة الديمقراطية القائمة على الحقوق في الأساس؛ حيث تتباين وجهات النظر بشأن العديد من الحقوق التي أحياناً ما يتعارض بعضها مع بعض؛ وذلك في الوقت الذي تتنامى فيه الحاجة لتحقيق التوازن بين هذه الحقوق والتزامات المواطنين في المجتمع بعضهم تجاه بعض؛ مما يتطلب إعادة النظر حول فكرة المواطنة ذاتها، وهو ما يمكن استعراضه في الأسباب التالية:

1– تباين وجهات النظر حول القضايا الحقوقية: في الوقت الذي تحتل فيه وثيقة الحقوق مكانة مركزية في الدستور الأمريكي، فإن أكثر الصراعات الأمريكية استعصاءً غالباً ما تنبثق من وجهات نظر متعارضة حول ما يجب أن تكون عليه الحقوق؛ فالعديد من القضايا الأكثر صعوبةً لا تتعلق بالصواب مقابل الخطأ، بل تتعلق بالحق في مقابل الحق؛ الحق في حمل السلاح مقابل حق شخص آخر في الأمان، والحق في عدم التطعيم أو ارتداء قناع مقابل حق آخر في الصحة العامة، وحق المرأة في اختيار الإجهاض وحقوق الجنين، وما إلى ذلك. وإذا ما ركز الجميع على حقوقهم فقط، فلا مجال للمساومة؛ لأن الحقوق سرعان ما تصبح مطلقة ليتعارض بعضها مع بعض.

2– صعوبة تحقيق التوازن بين الحقوق والالتزامات: تظهر المشكلة السابقة أن الحقوق وحدها لا يمكن أن توفر الأساس لديمقراطية فاعلة، ناهيك عن ضمان الازدهار المطلوب داخل المجتمع. وفيما يتجادل الأمريكيون كثيراً حول حقوقهم، يعتقد "هاس" أن العلاج الفاعل والمطلوب هو وضع الالتزامات على قدم المساواة مع الحقوق، معتبراً أن نجاح الديمقراطية لا يمكن ضمانه إلا إذا تدارك المواطنون أيضاً مسؤولياتهم تجاه تعزيز هذه القيم، بل مسؤوليات بعضهم تجاه بعض؛ فاحترام الحقوق والوفاء بالمسؤوليات هو جوهر الديمقراطية التي تضمن الأساس لمجتمع حر.

3– ضرورة إعادة النظر حول فكرة المواطنة الأمريكية: مع تأكيده أهمية تحقيق التوازن بين الحقوق والالتزامات، وفي إطار هدف تجاوز مشكلات الديمقراطية الأمريكية، يشدد "هاس" على أهمية مراجعة فكرة المواطنة ذاتها وتوسيعها، ومن خلال مجموعة من الالتزامات التي يطرحها في وثيقة للمساعدة في الالتزام مجدداً بقواعد المواطنة التي تأسست عليها الديمقراطية الأمريكية المتعثرة، ولهدف معالجة الانقسام الداخلي وحماية مستقبل البلاد.

مقترحات للمعالجة

يقدم "هاس" في كتابه عدة التزامات رئيسية مهمة وضرورية لإعادة تشكيل فكرة المواطنة، تماشياً مع التعديلات العشرة الأولى للدستور، التي حددها في الاطلاع، والمشاركة الفاعلة، والانفتاح على المساومة، والحفاظ على المدنية، ورفض العنف، واحترام القيم المعيارية، وتعزيز الصالح العام، ودعم الخدمة الحكومية، وتعليم التربية المدنية، مع وضع الدولة في المقام الأول، وهي الالتزامات التي يمكن إجمالها في المحاور الآتية:

1– المشاركة السياسية القائمة على الوعي: ذلك أن المواطن المُطَّلع هو الشخص القادر على تمييز المعلومات المضللة في ضوء ثورة المعلومات المحيطة، وهو القادر على فهم أساسيات عمل الحكومة والاقتصاد والمجتمع، والتحديات الرئيسية التي تواجه البلاد في الداخل والخارج، والخيارات أو السياسات المتنافسة للتعامل مع تلك التحديات، مع ما يتطلبه ذلك من إلمام بتاريخ البلد؛ حيث يستحيل فهم الحاضر دون تقدير الماضي الذي يقدم أيضاً دروساً للتحديات المعاصرة؛ ما قد يتطلب معه دعم تدريس التربية المدنية في مدارس الدولة.

وتزداد أهمية ذلك مع الدعوة للمشاركة السياسية الفاعلة؛ حيث يمكن أن تتأثر الممارسات التصويتية بالتصريحات العامة المضللة والسياق السياسي المباشر، وهو ما يفسر على الجهة الأخرى أهمية المشاركة القائمة على الوعي، وتلافي حالة اللامبالاة المتنامية في المجتمع؛ إذ لا يشارك العديد من الأمريكيين بنشاط في ديمقراطيتهم في الوقت الآني، مع تقلص نسبة المشاركة السياسية في المنتديات التصويتية إلى ما دون النصف؛ الأمر الذي يضعف الرقابة على ممارسات وقرارات المسؤولين المنتخبين.

2– أهمية المرونة السياسية وتجنب الجمود: فلا يعني التمسك بالمشاركة السياسية الجمود السياسي أو الحزبي؛ ما يتطلب أحياناً القبول بالتسويات والحلول الوسط، التي تناولها "هاس" تحت عنوان "الانفتاح على المساومة"، مشدداً على أنها لا يجب أن تمثل علامة على الضعف أو الاعتراف بالهزيمة، دون إغفال أيضاً لأهمية التعامل بتحضر ورقي مع الآخرين، وهو أمر ضروري لعمل الديمقراطية التي لا بد أن تشمل الاختلاف حول مجموعة واسعة من القيم والمعتقدات وحتى الحقوق المختلف عليها.

مع التشديد على أهمية تقدير كيفية الاختلاف، وفي الوقت نفسه لكي يبقى الشخص ذا قبول من قِبل المحيطين. فما يفعله التحضر هو أنه يجعل من الممكن تقليص الاختلافات أو حتى تجسيرها. وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن التحضر يسمح باستمرار العلاقات والحوار حول قضايا أخرى. فلا يحتاج الخصوم في قضية واحدة إلى أن يصبحوا خصوماً في كل القضايا.

3– احترام المعايير القيمية ورفض العنف: مع ملاحظة أن المعايير القيمية أشمل وأوسع من مجرد إطاعة القوانين، وأنها مهمة لاستقرار أي مجتمع، من المهم أيضاً مراعاة القواعد التي ترتبط بروح القانون وغايته، وبالسلوكيات التي لا يمكن تشريعها أو طلبها رسمياً لسبب أو لآخر، لكن جميعها مرغوبة، بل ضرورية لنجاح الديمقراطية؛ إذ يستحيل تحجيم كل سلوك محتمل ومستهجن من خلال قواعد ثابتة مثل القانون.

وفي هذا الصدد فإن القواعد تتوسع لتشمل التقاليد والقواعد والعادات والاتفاقيات ومدونات السلوك والممارسات غير المكتوبة التي تقلل الاحتكاك وتضعف هشاشة المجتمع، وبما يساعد أيضاً على تجنب العنف، الذي يجب أن يكون مذموماً بين المواطنين أنفسهم.

4– العمل على تعزيز الصالح العام: ذلك أن الأفراد في نهاية الأمر يعيشون في سياق مجتمع يتأثرون ويؤثرون فيه؛ ما يفسر المصلحة في الرفاهية العامة، التي لا تنبع فقط من الالتزام الأخلاقي الواجب تجاه الآخرين، بل أيضاً لأن القيام بذلك يعكس المصلحة الذاتية ويحقق المنفعة الخاصة التي تتطلب أيضاً احترام الخدمة الحكومية، وتعزيز الثقة بالمؤسسات الرسمية، حتى مع وجود بعض الشكوك في أدائها تعزيزاً للصالح العام، ودعماً للاستقرار، دون أن يتعارض ذلك مع تصحيح مسار الساسة والمؤسسين من خلال الحرص على المشاركة السياسية الفاعلة وزيادة الوعي السياسي كما سبق أن أوضح "هاس" في أجزاء الكتاب. وذلك مع وضع الدولة أولاً، بما يعني وضع الدولة والديمقراطية الأمريكية قبل الحزب والشخص، وهو الالتزام الذي يساعد على تماسك نسيج المجتمع، ويمثل السبيل للحفاظ على الولايات المتحدة ودعم الديمقراطية الأمريكية التي لاتزال رغم كل عيوبها، أنجح تجربة سياسية؛ ما يستدعي العمل للحفاظ عليها، بحسب الرؤية التي يقدمها "هاس".

ملاحظات جوهرية

تثير الوثيقة المقترحة من جانب "هاس" عدداً من الملاحظات حول أنها لا يجب أن تشكل عبئاً على المواطنين، مع تباينها مع النصوص القانونية، وعدم تعارضها مع احترام الحقوق الفردية، وهو ما يمكن بيانه فيما يلي:

1– عدم جعل الالتزام عبئاً على المواطنين: يتحمل المواطنون الالتزامات ذاتياً بعضُهم تجاه بعض وتجاه الحكومة، ولهدف دعم الديمقراطية ومواجهة اللامبالاة المتزايدة والغضب والأنانية والانقسام والتضليل والعنف الذي يهدد الجميع في المجتمع. وهي ليست متطلبات، بل ممارسات ذاتية يجب الحفاظ عليها بدلاً من الاضطرار إلى القيام بها لجعل النظام السياسي يعمل، ولكي يظل المجتمع مسالماً، ولإنجاز الأمور.

2– اعتبار الالتزامات مختلفة عن القوانين: تختلف الالتزامات عن المتطلبات القانونية التي يؤدي عدم احترامها والإيفاء بها إلى توقيع العقوبة، سواء كانت غرامة أو سجناً أو كليهما، لكن الالتزامات مختلفة؛ فهي لا تتعلق بما يجب على المواطنين القيام به، بل بما يجب عليهم فعله؛ فهي التزامات أخلاقية وسياسية وليست قانونية يتم التعهد بها طواعيةً، والمقصود منها أن تكون أكبر من المسؤوليات التي يسهل التنصل منها بسهولة، حتى إن كان يمكن ترجمة بعض الالتزامات إلى قوانين.

3– ضرورة احترام الحقوق الفردية: الدعوة إلى فكرة المواطنة التي تضع الالتزامات على قدم المساواة مع الحقوق، لا يقصد بها الانتقاص من أهمية احترام الحقوق وحمايتها، وهي الحقوق التي تظل الأساس لعمل أي ديمقراطية، لكن ما يجب وضعه في الاعتبار أن الحقوق وحدها لا تصنع ديمقراطية ناجحة. الديمقراطية التي لا تهتم إلا بحماية الحقوق الفردية والنهوض بها سوف تواجه المخاطر، وخصوصاً عندما تتعارض الحقوق بعضها مع بعض؛ ما يهدد بنشوب صراع سياسي أو مادي.

وختاماً، فإنه حينها لا بد أن يكون هناك طريق للمواطنين يسمح بالاستعداد للتعايش السلمي والعمل مع من يختلفون معهم من خلال القدرة على المساومة والتوصل إلى حلول وسط، ولتمثل الالتزامات بين المواطنين الأفراد، وكذلك بين المواطنين وحكومتهم، حجر الزاوية الآخر للديمقراطية الناجحة.

المصدر:

Richard Haass, The Bill of Obligations: The Ten Habits of Good Citizens, (New York, Penguin press, 2023)

كيف يمكن إنقاذ الديمقراطية الأمريكية من مخاطر الانقسام؟