خلال السنوات الأخيرة، ازدادت أهمية البلوك تشين في العديد من المجالات، باعتبارها واحدة من أهم وأبرز التقنيات التي تسهل عمليات تسجيل وحفظ المعلومات، خاصةً في ظل المزايا الواسعة التي تتمتع بها هذه التقنية؛ حيث تُعَد البلوك تشين – وتُعرَف أيضاً باسم الكتلة – بمنزلة بنية لتخزين سجلات المعاملات للجمهور في العديد من قواعد البيانات، وتُعرَف كذلك بأنها سلسلة في شبكة متصلة. ويشار إلى هذا التخزين باسم دفتر الأستاذ الرقمي، ليكون بمنزلة دفتر موزع يقوم بتكرار المعاملات وتوزيعها عبر شبكة أجهزة الكمبيوتر المشاركة في الـ(Blockchain). ولعل الطريقة التي تسجل من خلالها البلوك تشين المعلومات، هي ما تميزها؛ حيث تجعل من المستحيل، أو الصعب تغيير النظام، أو اختراقه، أو التلاعب به.

مزايا رئيسية

ثمة مزايا رئيسية تتمتع بها تقنية البلوك تشين، وهي المزايا التي تشكل حوافز قوية نحو النمو المتسارع في تلك السوق، ويمكن استعراضها فيما يأتي:

1– تسهيل عملية تسجيل المعاملات: تسهل تقنية البلوك تشين عملية تسجيل المعاملات وتتبع الأصول في شبكة الأعمال، ويمكن أن يكون ذلك الأصل إما ملموساً، كمنزل، أو سيارة، أو نقود، أو أرض، أو غير ملموس، كالملكية الفكرية وبراءات الاختراع وحقوق النشر والعلامات التجارية. وعملياً يمكن من خلال تلك التقنية تتبُّع أي شيء ذي قيمة، وتداوله على شبكة (Blockchain)؛ ما يقلل المخاطر ويخفض التكاليف لجميع المعنيين.

2– التمتع بأسلوب عمل لا مركزي: تتمتع البلوك تشين بنظام عمل لا مركزي؛ ما يعني أن كل مستخدم على بلوك تشين، لديه نسخة كاملة من تلك التقنية. ومن ثم، فإن كل معاملة تحدث عليها يمكن تتبعها تماماً، ومتاحة ليراها الجميع، ومن ثم فهي طريقة مفيدة لتخزين الإدخالات التي لا يمكن تغييرها بعد تسجيلها، ومن ثم يتم الاحتفاظ بالسجلات آمنة.

3– تنوع المجالات المستفيدة من البلوك تشين: تدخل البلوك تشين في العديد من المجالات والصناعات؛ فبينما تدعم البلوك تشين العملات المشفرة مثل البيتكوين، فإن لديها القدرة كذلك على التغلغل في العديد من الصناعات؛ نظراً إلى قدرتها على إضفاء مناخ من الأمان والكفاءة على عمل مجالات عدة، كالرعاية الصحية، وإدارة سلسلة التوريد، وأنظمة التصويت.

4– حماية وتأمين البيانات الحساسة: توفر البلوك تشين قدراً عالياً من الشفافية؛ حيث تعد المعاملات مرئية لجميع المشاركين، فلا يكون هناك مجال للتلاعب من قبل أحد، كما يجعل من اختراقه أمراً مستحيلاً أو شديد الصعوبة، نظراً إلى قدرتها على تخزين البيانات عبر شبكة من أجهزة الكمبيوتر، دون تحكم من قبل كيان واحد، وهو ما يُمكِّن البلوك تشين من حماية وتأمين البيانات الحساسة من مخاطر هجمات الإنترنت.

5– توفير معاملات سريعة: توفر تقنية (Blockchain) إمكانية إنجاز المعاملات بسرعة شديدة قد لا تستغرق دقائق، بينما قد تستغرق طرق المعاملات الأخرى عدة أيام حتى تكتمل. ولعل تلك السرعة ترجع إلى عدم تدخل طرف ثالث من المؤسسات المالية أو المنظمات الحكومية، وهو ما ينظر إليه العديد من المستخدمين على أنه ميزة.

وفي إطار ما سبق، يمكن تعريف البلوك تشين بأنها "دفتر أستاذ موزع وغير قابل للتغيير ولا مركزي في جوهره، يتكون من سلسلة من الكتل، تحتوي كلٌّ منها على مجموعة من البيانات، ثم يتم ربط الكتل معاً باستخدام تقنيات التشفير، ومن ثم تشكل سلسلة زمنية من المعلومات".

اتجاهات السوق

ثمة اتجاهات نمو صاعدة في صناعة البلوك تشين، يمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:

1– نمو متوقع لحجم سوق البلوك تشين: في عام 2022، بلغ حجم سوق تقنية (Blockchain) نحو 9.12 مليار دولار أمريكي. ووفقاً لتقرير صادر عن شركة جلوبال أرينا القابضة (GAHI)، فإنه قد تم تقدير حجم سوق تقنية (Blockchain) العالمية بمعدل نمو سنوي مركب قدره 67.4%، ليصل إلى 200.82 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2028.

2– توقعات بتزايد التكامل بين البلوك تشين وإنترنت الأشياء: وفقاً لتقرير حديث صادر عن (Grand View Research)، فإن من المتوقع أن يؤدي الاعتماد المتزايد للتطبيقات اللامركزية (dApps) في صناعة البلوك تشين المرتبطة بإنترنت الأشياء (Blockchain IoT) إلى دفع نمو السوق إلى 12.68 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 58.2% من 2023 إلى 2030.

ويتيح الجمع بين مزايا البلوك تشين وإنترنت الأشياء، التي يشار إليها على أنها الجيل الجديد من شبكة الإنترنت، تقديم حلول مبتكرة تعمل على تحسين الأمان والشفافية والكفاءة التشغيلية بشكل كبير في مختلف الصناعات. بالإضافة إلى ذلك، فإن التكامل بينهما بإمكانه أن يحدث ثورة في مشاركة البيانات والثقة بالمعاملات وأتمتة العمليات؛ ما يؤدي إلى ظهور نماذج أعمال مبتكرة وإتاحة فرص نمو مربحة.

3– استحواذ ثلاثة قطاعات على الحصة الكبرى من إيرادات السوق: لقد استحوذ قطاع مكونات البرامج والمنصة على أكبر حصة في السوق بنسبة 51.6% في عام 2022؛ بسبب الاعتماد المتزايد لحلول إنترنت الأشياء في تقنية البلوك تشين (Blockchain)، فيما حصد قطاع تطبيقات العقود الذكية ثاني أكبر حصة من الإيرادات بنسبة 30.7% في عام 2022، ثم استحوذ قطاع النقل والخدمات اللوجستية على حصة كبيرة من إيرادات سوق البلوك تشين بنسبة 21.8% في عام 2022؛ نظراً إلى خصائصها المميزة في إنشاء سجلات معاملات شفافة وغير قابلة للتغيير.

4– بزوغ الشركات الصغيرة والمتوسطة في سوق البلوك تشين: شهد عام 2022 استحواذاً من قبل قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة على أكبر حصة من الإيرادات بنسبة 60.2%. ولعل ذلك يرجع بدرجة كبيرة إلى تنامي توظيف التكنولوجيا لمساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة على تلبية متطلبات الامتثال التنظيمي.

5– استحواذ أمريكا الشمالية على أكبر حصة من الإيرادات: في عام 2022، نالت أمريكا الشمالية الحصة الكبرى من الإيرادات المرتبطة بالبلوك تشين بنسبة 34.6%. ومن المتوقع أن تشهد نمواً كبيراً خلال السنوات الخمس المقبلة. ولعل من بين العوامل المهمة التي تدفع نمو السوق في هذه المنطقة، وجود لاعبين رئيسيين، مثل (IBM Corporation) و(Microsoft Corporation) و(Amazon.com) و(Cisco Systems). علاوة على ذلك، فإن المنطقة في طليعة تبني التقنيات الناشئة، بما في ذلك (Blockchain) و(IoT)، التي تساهم في نموها، في حين أن من المتوقع أن تبرز منطقة آسيا والمحيط الهادئ باعتبارها السوق الإقليمية الأسرع نمواً بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 61.9% من عام 2023 إلى عام 2030.

6– التحول المتزايد نحو الألعاب القائمة على البلوك تشين: من المتوقع أن يصل حجم سوق الألعاب العالمية إلى 301.53 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 68.3% من عام 2023 إلى عام 2030، وفقاً لتقرير حديث صادر عن شركة (Grand View Research). ولعل ذلك التحول المتزايد من الألعاب التقليدية إلى الألعاب القائمة على البلوك تشين، جاء مدفوعاً بالطلب على الملكية الفعلية والتحكم في الأصول داخل اللعبة والشفافية وفرص تحقيق دخول جديدة؛ حيث تتمتع ألعاب البلوك تشين بإمكانية تحسين صناعة الألعاب، بما في ذلك الاستفادة من الفرص الراهنة في هذه الصناعة، ومن ثم توفير بيئة آمنة لصانعي الألعاب لتطوير الألعاب وإطلاقها وتحقيق الدخل منها بشكل آمن، كتوفير مساحة آمنة للاعبين لشراء وبيع العملات داخل اللعبة، التي يمكن أن تحقق لهم دخلاً حقيقياً، وهو مامن شأنه دفع الابتكار التكنولوجي إلى الأمام.

7– توقعات بنمو سوق تطبيقات المراسلة العالمية: من المتوقع أن يصل حجم سوق تطبيقات المراسلة العالمية لـ(Blockchain) إلى 536.5 مليون دولار أمريكي بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 43.6% من عام 2022 إلى عام 2030، وفقاً لتقديرات شركة Grand View Research.

8– تصاعد دور البلوك تشين في سوق الخدمات المصرفية: من المتوقع أن يصل حجم سوق الخدمات المصرفية العالمية إلى 140.26 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، متقدمةً بمعدل نمو سنوي مركب قدره 83.9% من 2022 إلى 2030. ولعل ذلك الارتفاع في صناعة التكنولوجيا المالية، وثورة صناعة تكنولوجيا المعلومات، وزيادة المنافسة، وتطور توقعات العملاء من الأسباب التي تدفع نمو السوق؛ حيث تركز بنوك التجزئة على تبني التحول الرقمي والتقنيات المتقدمة لتبسيط عملياتها التجارية وعروض العملاء؛ ما يبشر بمزيد من اعتماد (Blockchain) في الخدمات المصرفية للأفراد.

اتجاهات حكومية

ثمة اتجاهات حكومية قوية في مجال تبني تقنية البلوك تشين فيما هو أبعد من العملات الرقمية، وهو ما نستعرضه فيما يأتي:

1– اهتمام هونج كونج بتقنية "الويب ثري": أظهرت منتجات الأمان الجديدة القائمة على البلوك تشين في هونج كونج، الاهتمام الصاعد لحكومة هونج كونج بتنمية صناعة ويب ثري، بما يتجاوز مجرد العملات المشفرة؛ حيث تقدم للمستثمرين مجموعة متنوعة من الطرق للاستفادة من صناعة Web3 المتنامية في المدينة.

واتساقاً مع هذا، في شهر يونيو الماضي، أصدر (BOCI) – الذراع الاستثماري لبنك الصين الدولي ومقره هونج كونج – ما قيمته نحو 28 مليون دولار أمريكي من الأوراق النقدية الرقمية بالكامل في شكل رموز على (Ethereum Blockchain). وينضم ذلك المنتج الجديد إلى السند الأخضر المدعوم من الحكومة الذي تم الإعلان عنه في فبراير الماضي، والذي يتم تقديمه على منصة بلوك تشين.

2– بزوغ منطقة الشرق الأوسط في تطوير تكنولوجيا البلوك تشين: وإن كانغالباً ما يرتبط الغرب بـ"رأس المال الفعلي" للتكنولوجيا العالمية، إلا أنه مع استمرار منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المضي قدماً نحو تطوير الابتكار الرقمي وتكنولوجيا البلوك تشين الناشئة، فإن كل الأنظار تتجه نحو الأهمية المتزايدة للمنطقة في سوق البلوك تشين.

وقد أثبتت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نفسها بالفعل مركزاً رئيسياً للتكنولوجيا المالية؛ حيث تتدفق الشركات الكبرى من جميع أنحاء العالم بنشاط إلى المنطقة لإنشاء وتوسيع الحلول المستندة إلى سلسلة الكتل (Blockchain). وقد قدرت شركة الخدمات المهنية برايس ووترهاوس كوبرز (PWC) في هذا الصدد، أن إمكانات سوق بلوك تشين لعام 2024 تقدر بنحو 3.2 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ ما يوضح مدى السرعة التي يتم بها تبني تقنيات البلوك تشين في المنطقة.

3– ترشيح دبي لتكون عاصمة البلوك تشين في العالم: تم تصنيف دولة الإمارات على أنها ثالث أكثر الأسواق جاذبيةً على مستوى العالم للشركات الناشئة في مجال (Blockchain) في عام 2022؛ حيث يوجد بالدولة ما يقرب من 120 شركة ناشئة في مجال (Blockchain)؛ ما يعني 1.2 شركة ناشئة في (Blockchain) لكل 100 ألف شخص.

ولعل دبي هي المدينة الأكثر استعداداً لأن تصبح عاصمة البلوك تشين في الشرق الأوسط، والثانية في العالم بوجه عام في عام 2023؛ وذلك بحسب التقرير الأخير الصادر عن شركة (PWC)؛ حيث عززت دبي مؤخراً مكانتها كعاصمة (Web3) العالمية بفضل اللوائح التقدمية والبنية التحتية القوية؛ ففي خريف عام 2016، أعلنت حكومة دبي عن خطة طموحة لاستخدام البلوك تشين لجميع الوثائق الحكومية في محاولة لإنشاء أول حكومة رقمية بالكامل في العالم بحلول عام 2021. وفي العام ذاته، شكَّلت مجلس (Blockchain) العالمي – وهو هيئة تضم الوكالات الحكومية والبنوك وشركات التكنولوجيا – بهدف تنفيذ وتوسيع نطاق التكنولوجيا التي كانت في ذلك الوقت لا تزال في طور النشوء. وفي العامين التاليين، قادت المدينة عدداً من مشاريع البلوك تشين الرائدة؛ لاستكشاف حالات الاستخدام المبتكرة عبر مجموعة من القطاعات المتباينة، من النقل والصحة، إلى الخدمات البلدية والتعليم.

4– مساعي الاتحاد الأوروبي لتطوير البنية التحتية للبلوك تشين: في يونيو الماضي، نشرت المفوضية الأوروبية مسودة اقتراح تشريعي لتطوير اليورو الرقمي – الذي يحتمل أن يكون على أساس (Blockchain) – باعتباره العملة الرقمية للبنك المركزي في منطقة اليورو، وهو ما يتماشى مع الموقف الاستباقي للاتحاد الأوروبي تجاه الابتكار المالي الرقمي؛ ففي الآونة الأخيرة، وافقت الكتلة على إطار عمل لتنظيم الأصول المشفرة، وشكَّلت هيئة لتنسيق تطوير البنية التحتية للبلوك تشين بين الدول الأعضاء. وفي يوليو الماضي، تبنت المفوضية الأوروبية استراتيجية لقيادة ما يسمى Web 4.0 الذي تصفه بالجيل الرابع المتوقع لشبكة الويب العالمية، الذي سيدمج التقنيات الرقمية – مثل (Blockchain) والذكاء الاصطناعي – مع العالم الحقيقي.

وإجمالاً، من المتوقع أن يؤدي الوعي المتزايد بالإمكانات الهائلة لتقنية سلسلة الكتل (Blockchain) في العديد من المجالات – كإدارة سلسلة التوريد وتتبع الأصول والمدن الذكية والرعاية الصحية وإدارة الطاقة – إلى زيادة نمو السوق الصاعدة فعلياً. خاصةً مع تركيز العديد من الشركات على إطلاق منتجات جديدة والشراكة مع اللاعبين الرئيسيين في ذلك المجال؛ لتلبية احتياجات قاعدة العملاء الأكبر وتعزيز موطئ قدمهم في الصناعة. كذلك فإن اهتمام دول العالم بشكل كبير بتلك التقنية، والسعي إلى إدخالها في كافة التعاملات الحكومية، واهتمام الشركات الناشئة الصغيرة والمتوسطة بتوظيف تلك التقنية في مجال عملها، وصعود البلوك تشين بالتحديد في منطقة الشرق الأوسط ودولة الإمارات؛ تعد مؤشر قوي على نمو مستقبلي كبير لتلك الصناعة عالمياً.

أبعاد تزايد الاهتمام الدولي بتقنية "البلوك تشين"