أوجَد الذكاء الاصطناعي مجالاً جديداً للمنافسة المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. وبعدما نجحت شركة (OpenAI) الأمريكية، في نهاية عام 2022، في إطلاق تطبيق (ChatGPT) – وهو أحد أنواع تطبيقات المحادَثة القائمة على تكنولوجيات الذكاء الصناعي التوليدي، التي يطلق عليها اسم (AI Text generators)؛ حيث تعتمد على لغة البرمجة في إنشاء النصوص الكتابية من خلال طرح الأسئلة الكتابية أو الأوامر من المستخدم – لحقت الصين أخيراً بذلك الركب من خلال الإعلان عن إطلاق تطبيق المحادثة (Chat Xi PT)؛ وذلك على الرغم من القيود العديدة التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية فرضها في الفترة الأخيرة لتعطيل وصول الصين إلى تلك التكنولوجيا. وهنا تأتي أهمية استنباط دلالات دخول الصين عالمَ تطبيقات المحادَثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وتداعيات ذلك داخلياً وخارجياً.

صراع النفوذ

ارتبطت تحركات الصين لإطلاق تطبيق محادثة جديد قائم على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بعدد من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– إطلاق تطبيق متسق مع الرؤية السياسية للنظام الصيني: بعدما سبقت الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ الصينَ في إطلاق تطبيق (ChatGPT) الواسع الانتشار، أعلنت أكبر هيئة تنظيمية للإنترنت في الصين، يوم 24 مايو 2024، عن نموذج لغوي كبير (LLM) يمكنه الإجابة على الأسئلة، وإنشاء التقارير وتلخيص المعلومات، والترجمة بين اللغتين الصينية والإنجليزية، وهو نموذج طوَّره معهد أبحاث الفضاء السيبراني التابع لإدارة الفضاء السيبراني الصينية، ويرتكز على الفلسفة السياسية للرئيس "شي جين بينج"، وموضوعات الفضاء السيبراني الأخرى التي أقرتها الحكومة الصينية، ووصفته بأنه نظام ذكاء اصطناعي "آمن وموثوق"؛ حيث إنه يتوافق مع أهداف الحكومة الصينية ورؤيتها لدور الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة تمكينية تساهم في تعزيز نموذجها السياسي.

2– توظيف التكنولوجيا في الترويج لأفكار الرئيس الصيني: اتساقاً مع المعطيات السابقة، تم تدريب تطبيق المحادثة الصيني الجديد على الفلسفة السياسية وأفكار الرئيس الصيني "شي جين بينج" المعروفة باسم "فكر شي جين بينج حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد"، والأدبيات الرسمية الأخرى التي تُقدِّمها إدارة الفضاء السيبراني الصينية. ويأتي إنشاء نظام الذكاء الاصطناعي التوليدي الجديد عقب جهود مكثفة بذلها المسؤولون الصينيون لنشر أفكار شي حول السياسة والاقتصاد والثقافة، باستخدام كافة الوسائل التقليدية والتكنولوجية. وفي حين أن الإصدار النهائي للنموذج على نطاق أوسع لا يزال غير مؤكد، فإن سعي الحكومة الصينية لتضمين ونشر أيديولوجية "شي جين بينج" قد تدفعها نحو سرعة التوسع في إطلاق التطبيق.

3– ضمان التحكم في كيفية استخدام الصينيين للذكاء الاصطناعي: يعد الطرح الصيني امتداداً لمحاولات الصين المستمرة للتحكم في كيفية استخدام الصينيين للذكاء الاصطناعي، وصياغة المحتوى الذي يُعرَض من خلال تلك التقنيات. ومن ثم، شددت إدارة الفضاء السيبراني الصينية على أنها تُشرِف على جودة المحتوى الذي يُولِّده روبوت الدردشة (Chat Xi PT) كما يختلف برنامج large language model (LLM) الذي يدعم عمل تطبيق المحادثة الحالي عن أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخرى؛ حيث يعتمد على قاعدة معرفية منسقة من البيانات التي تم إنشاؤها ومعالجتها محلياً، وليس مفتوح المصدر؛ ما يضمن أمانة وموثوقية البيانات؛ حيث إنها مستمدة من مجموعة ثابتة من الوثائق والمصادر الصينية الرسمية، كما تتم استضافة قواعد بيانات البرنامج على خوادم معهد أبحاث الفضاء الإلكتروني الصيني، وهو يعتمد على نماذج لغوية معدة مسبقاً ومعتمدة من الحكومة، ويخضع حالياً للاختبار الداخلي، ولا يمكن الوصول إليه إلا من قِبَل مستخدمين معينين عن طريق الدعوة.

كل ذلك يأتي في إطار رغبة الصين في التحكم في الوعاء الفكري الذي تُستقَى منه المعلومات، واستخدام الذكاء الاصطناعي أداةً في تحقيق أهدافها، بجانب رغبتها في تحقيق قدر من التوازن بين الضوابط الصارمة التي تفرضها البلاد على المجال العام، وبين تعزيز تطوُّر الذكاء الاصطناعي وخلق منافسين محليين للتكنولوجيا الأمريكية؛ حيث سبق أن نقلت وسائل الإعلام الحكومية الصينية عن أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي – وهي مختبر أبحاث رفيع المستوى – قولها إن غالبية نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية المحلية تأسست في الواقع باستخدام النماذج المفتوحة المصدر التي تطورت في الغرب، مثل نماذج "ميتا لاما"، وإن هذا يشكِّل تحدياً رئيسياً أمام الصين.

4– استخدام التكنولوجيا في تحقيق المصالح الاقتصادية: يتماشى هذا الإصدار المحدود لتطبيق المحادثة مع استراتيجية بكين لتسخير الذكاء الاصطناعي لتحقيق النمو الاقتصادي مع فرض لوائح صارمة للأمن السيبراني. وتجسد مبادرة رئيس مجلس الدولة "لي تشيانج" في مارس 2024 لدمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات التقليدية هذا النهج؛ حيث شدد على أهمية الذكاء الاصطناعي باعتباره محركاً مهماً لتطوير قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة، وضرورة تحقيق اختراقات رئيسية في مجالات مثل قوة الحوسبة والبيانات والخوارزميات للسماح للذكاء الاصطناعي بتمكين الصناعات المختلفة بشكل أفضل.

5– تخفيف القيود عن شركات الذكاء الاصطناعي الصينية: تواجه الشركات الصينية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي العديد من القيود والتحديات، سواء كانت قيوداً خارجيةً ممثلة في القيود الأمريكية التي وُضِعت على مدى العامين الماضيين لمنع تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المطورة إلى الصين – وذلك لمحاولة إبطاء تطوير بكين هذه التكنولوجيا الحديثة، واستخدامها في الأغراض العسكرية – أو القيود التنظيمية الداخلية التي تفرضها الصين على تطوير تطبيقات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي؛ حيث يجب أن تتوافق مع الضوابط التنظيمية الحكومية وإطار ورؤية بكين. ومن ثم، يُمثِّل إطلاق تطبيق المحادثة الجديد المدعوم بقاعدة بيانات تشرف عليها السلطات الصينية، خطوةً على طريق إفساح الطريق أمام تلك الشركات للابتكار في تطوير نماذج تطبيقات المحادثة الخاصة بها.

ويشهد قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين نمواً سريعاً؛ هذا في الوقت الذي يسعى فيه إلى تضييق الفجوة مع الشركات الأمريكية الرائدة في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ حيث بدأت الصين تُسرِّع الموافقات على خدمات الذكاء الاصطناعي مع بداية عام 2024، كما أفادت وسائل الإعلام الحكومية بأن (117) نموذجاً لغوياً جديداً قد حصل على موافقات من إدارة الفضاء السيبراني الصينية مع احتدام السباق على هيمنة الذكاء الاصطناعي.

6– توسع أعداد مستخدمي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصين: شهدت تطبيقات المحادثة القائمة طفرة في أعداد المستخدمين؛ فعلى سبيل المثال، نجح تطبيق "إيرني بوت" (Ernie Bot) – وهو برنامج الدردشة الآلي للذكاء الاصطناعي الذي طورته شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة "بايدو"، وتم إطلاقه رسمياً للجمهور في أغسطس 2023 – في جذب أكثر من (200) مليون مستخدم في أبريل 2024، وهو ضِعف الأرقام التي أُعلِن عنها قبل ذلك بأربعة أشهر فقط.

وقد أدى النمو الهائل الذي حققه برنامج الدردشة الآلي إلى وضع بايدو شركةً رائدة ًفي سوق الذكاء الاصطناعي المحلي، خاصةً مع اشتداد المنافسة مع بعض التطبيقات مثل (Kimi) الذي طورته شركة (Moonshot AI)، وهي شركة ناشئة مدعومة من (Alibaba)، أحرزت تقدماً سريعاً. ورغم ذلك لا يزال تطبيق (ChatGPT) الأمريكي في المقدمة من حيث الشعبية العالمية، الذي سجَّل (1.8) مليار زيارة تقريباً في مارس 2024.

تداعيات رئيسية

يستدعي إطلاق التطبيق الجديد من الصين عدداً من التداعيات المحتملة المتمثلة فيما يلي:

1– احتدام المنافسة على الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي: يشهد العالم سباقاً محتدماً بين الولايات المتحدة والصين على الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو القطاع التكنولوجي الذي يَعِد بتعزيز الإنتاجية الاقتصادية والقوة والجاهزية العسكرية؛ هذا بجانب إحداث تحولات جوهرية في مجالات العمل المختلفة. ومن ثم، فإن الذكاء الاصطناعي سيشكل الرهان على إحداث التوازن المستقبلي بين القوة التجارية والعسكرية. فتسخير الذكاء الاصطناعي بشكل فعال في ساحة المعركة، سيمنح الدول القومية ميزة حاسمة، سواء من خلال تنسيق عمليات المراقبة المعقدة أو استخدام الأسلحة المستقلة والطائرات بدون طيار.

وقد أعلنت الصين في عام 2017 عن خططها لتصبح القوة المهيمنة على مستوى العالم في جميع جوانب الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. وعلى الرغم من القيود المفروضة على تطبيقات المحادثة الصينية، فإن بعضها قد يمثل بدائل مناسبة للتطبيق الأمريكي. وهناك دلائل على أن الهيئات التنظيمية الصينية تعمل على تخفيف القيود المفروضة على الذكاء الاصطناعي للسماح لروبوتات المحادثة بأن تكون أكثر قدرةً على المنافسة على مستوى العالم، وإعطاء الشركات مساحة للابتكار، إلا أنه على المدى الطويل، قد تتسع الفجوة بين تطبيقات المحادثة الأمريكية والصينية؛ حيث تواجه الشركات الصينية مشكلة أكبر تتمثل في الافتقار إلى شرائح الذكاء الاصطناعي المطورة.

2– فرض واشنطن المزيد من الرقابة على أنظمة الذكاء الاصطناعي: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية نحو فرض المزيد من القيود على صادرات نماذج الذكاء الاصطناعي؛ لحماية التكنولوجيا من دول مثل الصين وروسيا. يأتي هذا في الوقت الذي يُعَد من الصعب فيه التحكم في النتائج؛ حيث إن العديد من النماذج من المصادر المفتوحة؛ ما يعني أنها ستظل خارج نطاق قيود التصدير المقترحة.

كما يهتم الكونجرس الأمريكي بتلك المسألة؛ حيث قدمت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، في منتصف شهر مايو 2024، بمن فيهم زعيم الأغلبية "تشاك شومر"، خطة شاملة لزيادة التمويل الحكومي لأبحاث الذكاء الاصطناعي (AI) بهدف معالجة التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وآثارها المحتملة، كما يرعى الجمهوريان في مجلس النواب "مايكل ماكول" رئيس لجنة الشؤون الخارجية، و"جون مولينار"، والديمقراطيان "راجا كريشنامورثي" و"سوزان وايلد"، مشروع قانون جديد لتسهيل فرض ضوابط التصدير على نماذج الذكاء الاصطناعي؛ حيث يمنح القانون وزارة التجارة سلطة صريحة لمنع الأمريكيين من العمل مع الأجانب لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تُشكِّل خطراً على الأمن القومي الأمريكي.

وتبحث وزارة التجارة الأمريكية بعض الجهود التنظيمية الجديدة لتقييد تصدير نماذج الذكاء الاصطناعي المغلقة المصدر التي لم يكُشَف عن برمجياتها أو البيانات المُدرَّبة عليها. على الجانب الآخر، أنشأت الصين إطاراً تنظيمياً محكماً للذكاء الاصطناعي، صُمِّم للقضاء على جميع المخاطر المحتملة.

3– تصاعد المخاوف من التوظيف العسكري للذكاء الاصطناعي: تولي الولايات المتحدة الأولوية لقضية الأسلحة النووية؛ حيث ضغطت الإدارة الأمريكية على الصين وروسيا للاتفاق على الرؤية الأمريكية بأن البشر فقط، وليس الذكاء الاصطناعي، هم من سيتخذون القرارات بشأن نشر الأسلحة النووية، كما اجتمعت الولايات المتحدة والصين في شهر مايو 2024 لمناقشة مخاطر الذكاء الاصطناعي، في الوقت الذي تتزايد فيه المخاوف الأمريكية من نشر الصين السريع لقدرات الذكاء الاصطناعي في القطاعات المدنية والعسكرية والأمنية؛ الأمر الذي تعتقد أنه سيقوض أمن الولايات المتحدة وحلفائها. كذلك يسيطر على الجانب الأمريكي مخاوف من أن يستغل خصوم الولايات المتحدة نماذج الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر التي تنقب في كميات هائلة من النصوص والصور لتلخيص المعلومات وتوليد محتوى خطير يشنون باستخدامه هجمات إلكترونية، بل يطورون أسلحة بيولوجية فتاكة.

4– دفع دول مختلفة للانخراط في مجال الذكاء الاصطناعي: حيث إن اقتحام الصين تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، سيُطلِق المنافَسة من قبل الدول الأخرى؛ فخلال شهر مايو 2024 أعلنت شركة أنثروبيك (Anthropic) الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والمدعومة من شركَتي جوجل وأمازون، أنها ستُطلِق برنامج الدردشة الآلي المبتكر (Cloud chatbot) في جميع أنحاء أوروبا، ليكون منافساً مباشراً لتطبيق (ChatGPT). وفي حين أن البرنامج كان متاحاً بالفعل مجاناً عبر الإنترنت في عدد من الدول، فإن هذه المرة هي الأولى التي يتم فيها إتاحته عبر الويب وأجهزة آيفون في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى عدد قليل من الدول خارج الاتحاد الأوروبي في أوروبا، مثل سويسرا وأيسلندا.

5– مخاوف من انحرافات الذكاء الاصطناعي في الصين: في حين تدرك الصين أهمية اللحاق بركب تطبيقات الذكاء الاصطناعي – وهو الأمر الذي دفعها إلى تطوير تطبيق (Chat Xi PT) – فإن إدراك القادة الصينيين أن هذه التكنولوجيا سيكون لها تأثير عميق على المجتمع، دفعهم إلى تطويره بالشكل الذي يتوافق مع رؤية بكين؛ حيث إن من الصعب لنظام حريص للغاية على السيطرة، أن يترك تطبيقات المحادثة تلك دون رقابة، لا سيما أن بكين تعرف ما يمكن أن ينتج عن تلك التكنولوجيا؛ ففي فبراير 2022، تم إيقاف تطبيق (ChatYuan) بعد أيام من إطلاقة لأنه لم يتوافق مع الرؤية الصينية؛ وذلك بعد أن ذكر أن الاقتصاد الصيني "لا مجال فيه للتفاؤل"؛ لأن البلاد تواجه قضايا حرجة، بما في ذلك التلوث، ونقص الاستثمار، وفقاعة الإسكان، كما وصف الحرب في أوكرانيا بأنها "حرب عدوانية روسية"، في حين أن الموقف الرسمي للصين هو دعم روسيا دبلوماسياً، وربما مادياً. وفي حين تهدف القواعد الجديدة إلى تجنب تلك الزلات التي يقع فيها الذكاء الاصطناعي، فإن الأمر قد لا يخلو من بعض الأخطاء.

وختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من طرح بكين تطبيق المحادثة المدعوم بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وإمكانيات التوسع في استخدامه محلياً؛ فإن مسألة الاعتماد على قواعد البيانات الموثوقة ستظل تعيق انتشاره عالمياً؛ حيث إن تطبيقات المحادثة تصبح أكثر قوةً وفاعليةً عندما تُدرَّب على حجم لا متناهٍ من النصوص؛ الأمر الذي يصب في صالح النصوص باللغة الإنجليزية الموجودة على الويب مقارنةً بالنصوص الصينية، ومن ثم فإن تلك "الفجوة اللغوية" يمكن أن تعطي الأفضلية للتطبيقات الأمريكية أيضاً.

أبعاد إطلاق الصين تطبيقاً جديداً للذكاء الاصطناعي